عرس ليلة

لـ ليلى مقدسي، ، في غير مُحدد

عرس ليلة - ليلى مقدسي

جروح ألحان خافتة تتسلل إلى غرفتنا ، تنزلق نظراتي عبر زجاج النافذة ، ألتفت إلىسريري ، الليلة ليلة فتاة فقيرة مذعورة خائفة ، أحسّ برغبة في الهرب ،
والنظرات النهمة تهدر في كياني ، وغابت يداه في بيادر شعري . أزيح شفتي قليلاً ورائحة خمرته
تحسسني بالاختناق . وأبقى تمثالاً بلا انفعال ، وظلال الخوف تغمرني ، أتلفّت باحثة عنك يا أمي
يرجمني الحبيب النائي لأني قتلته ، وأخفتني أمي بين أعشاب موحلة . أبحث عن وجه
الحبيب في وجهه ، ويسخر هذا الرجل الغريب من اضطرابي دون أن يفهم ما أعاني وصوته
يخور ويهدأ ، تنتحب الأمواج لأن زرقتها قد اغتصبت وابتلع الرمل كل قطرات دمائها
بصمت أخرس .
بعد أسبوع تركنا الفندق لأجوب معه مسالك مجهولة ، أنكمش في مقعدي ، وحديثه المطمئن
يتغلغل إلى أعوامي الخمسة والعشرين، تراءى لي وجه أمي ، ما بالها الآن صامتة ؟ وقد
كانت طول الشهر الماضي تنبت لي أحلام المستقبل في الغربة التي قررتها لمصيري ،
أحدّق في وجهها ، لماذا يلتفّ اليوم بكآبة مبهمة ، أهي قد عزّ عليها فراقي ؟
وأخيراً وصلت إلى هذه المدينة الغريبة ، اللغة غير لغتي والشعب غير البشر الذين
ألفتهم ، أنزوي في منزله ببطء ذليل والأسى مرتسم على وجهي . لن تري وجهي أبداً يا
أمي ، لن أغفر لك استغلالك لجمالي وما زلت أسمع صرختك :
- هل تتركين أخوتك يموتون جوعاً ؟ وفرحة إنقاذهم بين يديك، وهذا الرجل يقدّم ثروته
أمام كلمة منك ...
أنظر إليك بعينين دامعتين ، هذا الرجل منافق يا أمي ، في عينيه يطوي خداعاً أحسّ به
يعود صوتك القاسي :
- أنت تنفرين منه ، فكيف تطلقين أحكامك دون معرفته ؟
- لا فائدة من الجدل معك يا أمي ..
- إذن تحمّلي إن مات أخوتك ، كما مات والدك من فقره ومرضه .
لم أكن أتصوّر أني سأدفع الثمن غالياً يا أمي لأنني طيّبة وحنونة، أغمض عيني ،
أحدّق في النور الأصفر الذي يبدو متعباً ، سأرفض ، تسع سنوات وأنا أعمل وأعطي وأقوم
بدور الأب الذي مات . تسع سنوات ، ألا تكفي يا أمي ؟ لن أُباع كسلعة على يديك يا
أمي ، أنت لا تسمعين نزّ الجرح في أعماقي ، بينما تصفعك موجة حنان عاصفة تجاه أي
دمعة من أخوتي الذكور .. خطوات زوجتي تتجه نحو غرفة أطفاله في الجناح الآخر من
منزله الفخم .. أصحو من تشتت أفكاري ، تتركز نظراتي على النافذة ، ثم يتوارى
للعربدة مع ضيوفه في صالونه ، ونقاط الدمع ترقص في سجن غرفتي .. يأتي إليّ وعيونه
الماكرة تسخر مني ، أحسّ أن أقدام ضيوفه تتحرّك فوق رأسي بقسوة ، أرفض أرفض وتشتعل
النيران في أعماقي مذعورة. يغمغم بأسى مصطنع : - لا فائدة من عنادك وإصرارك الرافض
سخريته لن تلوّثني ، لن أكون السلعة الجديدة التي يجرّدها من إنسانيتها وعواطفها
ويقدمها لضيوفه .. وعينا أمجد تنظران إليّ بيأس خلال الظلمة هكذا خيّل إليّ.. أمجد
مراهقتي وحبي . أمجد رمز الوفاء لي .. أنتفض مذعورة ويهرب وجه – أمجد – من ذاكرتي ينفث دخانه في وجهي المعربد ،
وتفوح خمرته وهو يمارس نزوة غروره كرجل ويقهقه أنا أقوم بواجبي معك تهوي سخريته
ويخور في القفار حولي، ثم يهدأ كل شيء . إلاوجهك يا أمي ، ويدك التي تسترخي عليها أوراقه
النقدية. كانت سلعة رابحة أليس كذلك يا أمي ؟.. لماذا أنكَرَ أنه متزوج وله ثلاثة أطفال ؟ ألم أقل لك أنه يخدعُنا يا
أمي ؟.. لقد أرادني تجارة جديدة ، وسلعة عزيزة الثمن، سماعة الهاتف تهتز في يده وهويطمئنك عني فرحاً ، وصوت ضحكاتك تضج في فراغي ،
أنا لا أبكي يا أمي ، بل أرسم الذل الصامت على وجهي ، ومع ذلك أرفض
بإصرار عنيد دور المومس لضيوفه ، ولكن لا أستطيع رفضه كزوج صفقة جعل الليرات تتدفق بين يديك ، أنسلّ من ظلام حقدي متمردة ،
أرسم علىجدراني ذكراك يا أمجد ، بحار النبل في عينيك ، لا تنظر إلى رعبي ، إني متعبة يا
أمجد لا تتأملني بوجه جمّدت الصدمة ملامحه!.. أهتف لوجهك
قل أي شيء .. قل إنني خدعتك-
لقد علمتني يا أمجد أن الشجاعة والإخلاص تتجسدان في مواجهة المواقف ، لذلك ما زلت قوية
يتأملني أمجد والعرق البارد يتصبب منه ، يداه تحيطان وجهي بحنان حقيقي
- لقد جعلتني أمي سلعة وقبضت الثمن .. ورفضتك أنت لأنك عامل فقير ، والحب بمفهومها
لا ينتعش بثوب عامل ملطخ بالتعب . خمس سنوات يا أمجد .. وأنا في ذلك المنزل
المحموم. ولأني تشبثت بالرفض طردت كحشرة ، وتنقلني سيارته إلى المطار مع ورقة حريتي إلى مدينتي
 
إلى أين يا أمجد تنطلق بي ؟ -
:يرمقني صامتاً ، أرفع عينيّ الواكفتين بالدمع ولا أقوى على النظر إلى براءةوجهه صوته ينبت الفرح
إني أحترم تضحيتك .. وكنت أنتظرك دائماً أخاف أن أغمض عيني ولا أراه ثانية لقد زرعته دائماً بين أنفاس-
زهر البرتقال ، وموج الحب لا يهدأ .. طالما أن البحر وليمة الخلود
© 2024 - موقع الشعر