ومضة إنسانية - ليلى مقدسي

ما زالت مغروسة في قعر وحدتها ، وقد ألصقت وجهها بزجاج نافذتها الباردة منتظرةمجيء أختها البعيدة ، والتي
أبرقت إليها منذ أيام أن تأتي . فالمرض ينسل من عروقهاالمرهقة ، وروحها تئن تحت أسياج الظلام في أزقّة ضيّقة والسنوات سلخت كل آثارقرابتها ،
حتى الشمس من خلال نافذتها تراها مجعّدة في أشعتها، وقد تكدّست فوق ظلالها الباهتة في برك النور المتجمّدة ، ظل زوجها الراحل ينتزعها من وحدة الزمن ،
وعائلتها الصغيرة اندثرت ، لم يبقَ لها سوى الأخت الوحيدة المتزوجة في بلد آخر، يتراءى الظل ، يقترب منها ، ووهج حنانه يلفحها ، وذراعاه تسكبان الدفء على صدرها،لقد
استطاع زوجها أن يغني لها كل أغاني الطيور ، وأن يلملم غربة روحها ، لأنهاحُرِمَت من الإنجاب وعوّضها عن كل حنان الأرض والأهل والأبناءبعد ربع قرن وأكثر ،
لحظة مشحونة ابتلعت لها الحنان . عاصفة غبار نتن هبّت علىحياتها ، واقتلعت الجذر الحامي . ولقد بعثرت على قبره آخر زهورها ،
ومنذ ذلك اليوم ونحيب الذكريات المؤلمة يلاحقها ، تقفز لتنهش الهدوء من حولها .. دوائر الزمن حولهاتتسع وتضيق ، وذكريات تنفرط وتتجمّع .
كم تسللت منتظرة مروره ، أحبّته وهماً نائيا، وجذبتها أبخرة الوهم . وتفيض الخواطر المؤلمة والفرحة من جوارحها تمزّق صمتها ،في أمسية هاربة من دوائر الزمن التقيا .
تأمّلته بفضول . كان عميق الحزن ،وابتسامته غلالات كبرياء هادئة ، ووجهه كروض تعبث به زهور الربيع . ..تعددت اللقاءات، وانبثق الحب شلال صفاء ،
حدثها بتعرٍ حقيقي عن ذاته ، كان صوته مقنعاً وساحراً
يسقط الصدق تحت وطأة كثافته والدوامة الرهيبة لفحولة الرجولة تؤلمه ، تشده ، تجعله يحسّ بأسف عميق لأنه لا يستطيع الإنجاب لنقص ما في تركيبه الفيزيولوجي
كنت أتأمّل عينيه ، ولم أكن بحاجة إلى سماع بقية القصّة ، ولم أهرب بيدي من أتون يده ، وتعجز الكلمات أحياناً عن استيعاب انفعالاتنا ، ألا يمكن العيش بلا أولاد ؟
ألا يمكن أن نتجرّد من أنانيتنا ؟.. الوجوه ، الأشياء أبخرة تتطاير في فضاءالطائرة ، وهي عروس له بثوبها الأبيض ، وعيناه لا ترحمان لحظة الانجذاب الخفية،
كان شتاءً مدهشاً ، وكنا نطير فراشتين بين ضحكات مطر الأرض . تتراكض السنون
تبتعد ، بصعوبة تفتح عينيها ، تنهض بتثاقل من غيبوبتها . الباب يقرع ، هذا وجه أختها يطلّ من البعد ، وفرحة اللقاء تشعّ تسير إلى جانبها تتحسس الأرض بعصاها،
تغرف الحنان من وجه أختها ، تحدّثها تجلس معها ويغمرها ارتياح مبهم . أنياب الوحدة . تشتد على الجسد المسترخي تحت لسعات المرض والقهر ..
لن تكون وحيدة بعد الآن السيارة الضخمة تترنّح في الدرب الطويل ، تمدّ يدها إلى حقيبتها التي بقيت لها ،تتحسس الأوراق المالية ثمن منزلها ، بعد أن أقنعتها أختها ببيعه والسفر معها .
وسوف تزدهر أموالها في مشروع تجاري تقاسمها به . تشتدّ كآبتها كلّما أسرع السائق . لقداقتلعت من جذورها وتزداد
التصاقاً بأختها . لقد وصلتا ، وضمّها دفء منزل أختهاشهوراً ، ثم وجدت نفسها من جديد تنحدر تحت الأرض ، وتنزلق
الأحداث ، وتتفجر الحروف
وغربان الغدر تنهش أعماقها المحزنة وتترسب ليالي عذابها السوداء ، وتتابع بصوت متهدج : عادت الغربة تضغط على
عنقي ، بتّ عارية من كلّ شيء حتى من صلة القربى ، لقدرمتني أختي هنا في /دار العجزة/ .. وجوع أختي
الجشع إلى ثروتي من منزلي الصغيرالمباع جعلها تقبض على كل شيء ، وتقذفني إلى هذا المصير
لماذا ترتعد ؟ ربما يحزنها إعادة الأحداث الأليمة ، فالحرب نفثت غضبها الأهوج علىلبنان واقتلعت منزل أختها ، عرفت ذلك
في مساء اليوم التالي بعد أن توقف القصف . ومن زوايا غرفتها يتراءى لها شقوق منزل أختها المخرّب وآلاف آلاف ...الليرات . تهذي باكيةخائفة ..
أصوات غامضة أشباح تطاردها ، وصوتها ينوح في نهاية الأشياء
..رحمك الله يا أختي ويغرورق دعاء الكلمات من شفتيها بالدمع .. لكن هل تموت الومضات الإنسانية
© 2024 - موقع الشعر