طـوفان الزمـن - ليلى مقدسي

تنزوي بين شحوب الزمن الذي يسدل اصفراره، وتتساوى عندها الأيام والشهور ، والسنون . ترزح تحت ثقل أوجاعها التي تمنعها من مغادرة المنزل .
هكذا هي عاجزة منذ خمس سنوات خلت..
يارا ) ابنتها المدللة سافرت إلى بيتها الزوجي في أبعاد الغربة لتبدأ ) حياتها الجديدة ، سنتان ولم تأتِ – يارا –
وصوتها على الهاتف قد يبعث الدفء في أرجاء وحدتها . الحياة جامدة حولها . لا تشعر بدهشة الفرح ، ترتمي على
السرير مخدرة بسموم الأدوية ، وظلال الدمع تراقص خيوط الذكريات تمسحها عن وجهها المغضن
- فراس لِمَ تأخرت ؟.
- زحمة المواصلات يا أمي !
- الطعام على المائدة ، هيا – يارا –
المشاركة ممتعة ، والأنانية شريان العالم ، يظل ذكراهما ، صوتهما صورة لحلم عتيق باهت في نخيلة امرأة وحيدة مثلها، تبكي في مرارة ، تتجاوب الجدران مع أحزانها ،
لم يعد يشاركها أحد في هذه الأيام ، حتى خبزها . ترى المنزل
صومعة مهجورة تسبح في الفراغ الرمادي . بالأمس البعيد – فراس – سافر بعثة إلى الخارج ، تأتي يارا لتطبع قبلة على
الوجه المحروق من تعب العمر . تأخرت يارا. يارا لن تعود . يوقظها صوت قاسٍ من خيالها السارح ، كيف نسيت أن يارا مع زوجها وقد سكنت غربتها .
يتمدد الخيال ترقص الصور أمامها ، تضم – فراساً – الصغير إلى صدرها ، جسدها الحار
يعلو ويهبط يفيض بعذوبة طفولته ، - يارا – تركض أيضاً إلى حضنها ، يدها على وجهها تربّت عليه بحنان ،
تنهض متثاقلة من السرير وقرع جرس الباب يوقظها من أحلام يقظتها تعبر أمام رؤاها ، تطل أختها الطيبة ومنابع الحنان تجري
بين نبض لهفتها ترى آثار الدمع على خديها المحروقتين :
- إلى متى يستمر عذابك هذا ؟..
تفقد القدرة على التركيز ، تنظر إلى وجه أختها الوحيدة ..
- داري التي كانت تفور بالحركة والحيوية والمرح ، تنبت فيها الآن تشعبات
الظلمة وتطمر بالصمت ، ويقبع لسع البرد في أرجائها..
- إلى متى ستبقين وحيدة ؟ لِمَ ترفضين العيش معنا ؟
- لن أغادر بيتي ، لا أستطيع إنه الجزء المتبقي من حياة جميلة عشتها ..
تصمت أختها لأنها تدرك معنى تمسكها بمنزلها ، ومدى عنادها في مواقفها تثرثر
معها لتدخل بعض البهجة إلى روحها القلقة . ثم تعود إلى أسرتها .. تستلقي
على السرير . يضم جسدها المنتفض المحموم ، وتعاودها الذكريات كالقطيع
الشارد على الأرصفة وتتمشى في زوايا الغرفة ، وترسم على الجدران الأشباح حولها
.. وتطل صورة زوجها تبتسم :
- لماذا لم تبقَ معي يا فادي ؟..
أنت الوحيد الذي تستطيع أن تحميني من خوفي واغترابي أن تحميني من نفسي ، لو لم تذهب أنت لكنت أكثر اطمئناناً لأني أجد الأمان في صدرك العريض.
هذيانها يتكوم على وجهه . إنه واقف أمامها ، تعاتبه لأنه تركها وحيدة ينظر في
وجهها ، يسألها بشوق الغائب عن الأولاد تنفرج أساريرها :
- تبقى معي الليلة ؟..
تهطل دمعة جافة ، يضحك صباها الذي أثقلته السنون بابتسامة ساخرة تضغط على رأسها بقسوة، تشعل النور في الغرفة ، تريد أن تهرب إلى صدر – فادي – كم تفتقده ..
- هل أحضر لك الطعام ؟..
ترسل تنهيدة حزينة ، فادي لا يجيب ، لم تسطع في وجهه ملامحه المألوفة وتشتعل نيران ترابه حولها .. وتبدأ غيبوبتها فتموت وتحيا بين تنهدات الليل الطويل ،
وتفكيرها يشدها إلى – فادي – والأيام تمتص ما بقي من شيخوختها ،
تتلمس ساقيها تشعر بتعب ألم المفاصل ..
كان لي قامة رائعة ، وصباي الآن جفّ على جدران الزمان. لذا فادي لم يعد يحبني ، والأولاد رحلوا ، والمنزل يضيق ويشيخ معي .. فادي .. هل ضجر الأولاد مني ؟
. تأخرت رسائلهم . مشتاقة لك .. مشتاقة لهم ..
تهرب وتعود إلى أفكارها المرعبة ، وترتسم في ذاكرتها وجوه الأحبة – رحمك الله يا فادي ، سامح هذياني المحموم .. صورة الأحبة محفورة لا تمحى .
تمسح دمعة على حافتي الوجه وهي تسمع هدهدة جارتها لطفلتها الصغيرة ، أغنيتها
تتسرب إليها كل مساء . كم غنت هي – ليارا .. وترندحت بصوتها لفراس .. – هذه الأغاني البريئة ثقيلة بحزنها هذه الليلة .. ما الذي يشدها إلى مرايا طفولة أولادها ؟..
وما الذي يغمس أصابعها في تراب فادي ؟.. المرض يشتد ،
والأسابيع تركض ، والأخيلة تتابع ، وترتجف الرسائل فهما بين يديها ، تهوي قربها على السرير تتأملها أختها برعب ، والأحبّة تأخروا في الحضور ، هي أبرقت لهم وسوف يأتون .
تشدها أختها إلى صدرها تحاول أن تحميها من حشرجة الاحتضار
تلمس وجهها الذابل وصفرة شرر الموت تتطاير ، الرعب يضج بالصراخ . ويتجمد الجسد في صقيع برودته .
يحشد المنزل بالجيران، والأولاد لم يأتوا بعد .. وتدفن كل الأشياء في مركبة الموت معها .. تأخروا ورحلت بلا وداع .. طوفان
الزمن أخفاها في واديه وحيدة .. ورائحة التراب تجدد في مدار الكون والقسوة تتطاير مع اصفرار الأوراق الباقية ..
© 2024 - موقع الشعر