المقابر تتكلم 8 - أحمد علي سليمان

بماذا أستهلُ لكم مَقالي؟
وكيف أجيبُ عن هذا السؤال؟

وهل تُجْدي المواعظ والوصايا
إذا استعرتْ أباطيلُ الجدال؟

وهل ستُغيّرُ الذكرى فِئاماً
بما ابتدعوا غدَوا في شر حال؟

وهل سيُفيدهم لومٌ وزجرٌ
وتوبيخ يُندّدُ بالضلال؟

وهل سيُقيمُ حُجتهُ عليهم
بصيرٌ بالدليل وبالمقال؟

أم الإقناعُ أصبحَ مستحيلاً
فقد أمسى التفاهمُ كالخيال؟

يمينَ الله بدّلتُم كثيراً
من الأحكام - عمداً - باحتيال

وعمّتْ فتنة في كل صُقع
يُؤججُ نارَها عادٍ وقالي

وزاحمَ الابتداعُ نصوصَ وحي
وتوصيفي له فوق احتمالي

دهى عيشَ الأنام ، وبات نهجاً
ومَهّدَ دربَه أخزى الرجال

ومَدّ - إلى الجنائز - شر كفٍ
فسربلها بألوان الخبال

فأرسلَ نعيَهُ في كل وادٍ
ليُخبرَ كل أصحاب المعالي

وأصلحَ بوقه من كل عيب
لِيُعْلم كل غاليةٍ وغالي

وفي النعي القبيلة والمَزايا
وفيه الأصدقاءُ مع الأهالي

يقول: فلانُ ودّعنا ، وولى
إلى الأخرى ورحمةِ ذي الجلال

وفي الجنات يرتعُ مستريحاً
له فيها العرائسُ والمَوالي

ويقطعُ - في الكلام - بلا احتراز
ويُسْهبُ في التوسّع في المقال

ومَن أدراك بالغيب المُخبّا
لتُنْبئ عن خواتيم المآل؟

ويُؤتى بالجنازة قد توارتْ
فما التابوتُ يملأ عينَ سالي

ولا التابوتُ يُحْدِثُ أي ذِكرى
تُعَلمُنا مواعظ الانتقال

ولا التابوتُ يُدْمِعُ أي قلب
تُجَندله إشاراتُ الزوال

ويبتدئ المُعزون التحايا
وينتظرون قارئ الابتهال

ويستمعون مُرتزقاً يُعَزي
بإطراءٍ يُشاطرُ ، أو يُمالي

وخطبة واعظٍ لم يألُ جهداً
تظاهرَ بالبكاء والاعتلال

وأقوال نأتْ عن كل رُشدٍ
وأغلبُها أتاه بالارتجال

وهل بدعٌ تروقُ لذي رشادٍ
يُرَوّجُها الجهولُ لنهب مال؟

ومرتزقٌ بمن جاؤوا يُصَلي
ويَمْضي موكبٌ ، والصوتُ عالي

بتكبير وتهليل وآي
تُرَددُ بين مُستمع وتالي

وعند القبر مُرتزقٌ يُسَرّي
ويَخترعُ المناقبَ باعتمال

وبعد الدفن مُرتزقٌ يُلاحي
ودمعُ العين سالَ على الرمال

وأقوامٌ – على التأمين - صرعى
بأصواتٍ طغتْ في الانفعال

فلا عينٌ بكتْ لمصاب عبدٍ
طوتْهُ اليومَ طارقة الزوال

فأمسى في التراب نزيلَ قبر
ولم يَحسَبْ حساباً لارتحال

ولا قلبٌ تأثرَ بالمنايا
وأمسى الاكتراثُ مِن المُحال

لعاً للمَيْتِ لم يُوص الندامى
بألا يبرحوا حَدَ اعتدال

وأن يتقيدوا بالشرع طوعاً
فشرعُ الله يزخرُ بالكمال

ألم تتْبعْ جنائزَ قبلُ شتى
وشاهدت ابتداعاتِ الموالي؟

وأنكرت الذي صنع الخزايا
فها هم يدفعونك للنكال

ففاتحة الكتاب عليك تُتْلى
وليس لمُنكِر أدنى مَجال

فهل - في الدين - جاز الأمرُ هذا؟
أفي القرآن والسبْع الطوال؟

لماذا يُبدِعون لِمَا أرادوا
وليس لسُنةٍ أدنى امتثال؟

كفاكُم ربكم بنصوص وحي
لماذا طِعتمُ أهلَ الضلال؟

مناسبة القصيدة

(لقد تكلمتُ عن المقابر في سبْع قصائد سبقتْ! وكانت قد تنوعتْ موضوعاتُها كما تنوعتْ قوافيها وبحورُها! وتأتي هذه القصيدة الثامنة ، والتي تحمل عنوان: (المقابرُ تتكلم 8) لتنكرَ بدعَ الجنائز والمقابر معاً ، وبهذا نغلقُ ملفَ المقابر والمقبورين للأبد! لقد كنتُ أعتقدُ أن أفراح القوم وحدها هي التي طالتْها مراسيمُ وطقوس الجاهلية المخالفة عن هدي الكتاب والسنة! فإذا بي أكتشف أن جنائز القوم وقبورهم قد أثرتْ عليها الجاهلية ، وخالفت عن شريعة الله كتاباً وسُنة ، فلم تعد بها عِبرة ولا مَوعظة! فما أن يموت الميت ، حتى يخرج على الناس المرتزقة ما بين مغسل ومكفن وقارئ للقرآن ولحّاد وحانوتي وحمّال وحارق للبخور وموشح وداع! وكانت سُنة قديمة أن يُغسّل الميت أهله ، فهم أولى الناس به! فأصبحتِ اليوم مِهنة تشملها بدعُ التغسيل والتكفين والتابوت والخطب الأربع: فالخطبة الأولى قبل الصلاة على الميت ، والخطبة الثانية بعد الصلاة عليه ، والخطبة الثالثة هناك عند القبر ، والخطبة الرابعة بعد الدفن ، وهذه الأخيرة أطولهم بإطلاق ، حيث يذكر المرتزقُ مناقبَ الميت ويعدّد أعماله التي يَجزم هو بصلاحها وقبولها عند الله تعالى! وبعد الخطب الأربع يكون الدعاء الجماعي بصوتٍ جهوري مسموع للقاصي والداني! فيدعو المرتزق ويؤمنُ قطيعُ الجهلاء الذين لو فيهم عالم أو رجل يقول الحق ، لنهاهم عن البدع وعظم شعائرَ الله إن هو آنس فيهم رُشداً! أو اعتزلهم واعتزل جنائزهم وبدعهم إن ظن أنهم سيُغلبون جاهليتهم ، ليسلم له دينه وعقيدته! وقد أذهلني اصطفافهم عند المقبرة كصفوف الصلاة تماماً بتمام! رافعين أيديهم! والعجيب أن يستمر الدعاءُ قرابة الساعة شاملاً الدعاء على الكفار بأنواعهم ، والدعاء للمسجد الأقصى ، والدعاء للناس بأن يرفع الله عنهم الغلاء والوباء والسقام والأمراضّ! وإن هو إلا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه بعد الدفن: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل)!
© 2024 - موقع الشعر