المقابر تتكلم 2 - نصيحة لزائري القبور - أحمد علي سليمان

انظر الأجداثَ ، واستقص الخبَرْ
والتمسْ مِن مَنظر القبر العِبَرْ

وارحم الموتى ، وأشفِقْ ، واحترمْ
أخذة الموت ، وللهول انكسر

هذبِ النفسَ ، وألزمْها الحَيا
وتفكرْ في الذي تحوي الحفر

حُرمة الأموات لا ، لا تنتهكْ
واعتبرْ - يا صاح – بالعَظم النخِر

إنه القبرُ يُبَكّي ناظراً
إن أطالَ العبدُ – في القبر - النظر

بيتُ دُودٍ ، دُودُهُ لا يرعوي
ينهشُ اللحمَ ، فلا يَبقى أثر

وهْو بيتٌ مُوحشٌ مُستوحشٌ
عملُ الإنسان ضيفٌ مستقر

وهْو مَأوى غربةٍ إنهاؤها
حِلّ مِيعادِ النشور المنتظر

والمقاديرُ لها أسبابُها
ودخولُ القبر حَتْمٌ مستطر

والبرايا قدّرتْ أعمارُها
وقضاءُ الله آتٍ والقدر

والمنايا والبلايا سُجّلتْ
فاجتهدْ في السعي واصبر واصطبر

وتأمّلْ في مقادير الورى
نصبَ عينيك حَكايا كالسِيَر

كم طوى الموتُ فراعينَ الدنا
دون إمهال كلمح بالبصر

كم دهى الموتُ أناساً عربدوا
بعدما الآياتُ جاءت والنذر

كم عِظاتٍ صاغها الموتُ لنا
سَرْدُها يكوي قلوباً تعتبر

أي قلب عافَ وعظاً جاءهُ
فمكانَ القلب قد حلّ الحجر

قد رأيتُ الموت أرجى واعظٍ
عن سناهُ يَصرفُ النفسَ الخور

كم دروس ساقها عن ميّتٍ
مَلكَ الدنيا ، وبالبَأس اشتهر

غرّهُ السلطانُ ، وانقادتْ لهُ
رغمَ أنف الكل قطعانُ البَشر

وانبرى يَختالُ في أهوائهِ
والرعايا - حوله - مِثلُ الغجر

أفسدَ الدنيا ، وأغوى أهلها
وبما أحدثَ باهى ، وافتخر

زاعماً أن الدنايا رِفعة
فاستمى شأنُ التدني ، وانتشر

حاربَ الحق ، وعادى أهلهُ
وأجاد اللؤمَ - جهراً - والدَبَر

باذلاً مُر الأذى في كيدهم
وعلى أعلامهم كال الضرر

مُعْمِلاً سيفَ الردى في قهرهم
غالَ بعضاً ، ثم بعضاً قد قهر

ثم حاك الزيف عنهم والفِرى
مثلما يَحتالُ كذابٌ أشِر

واستقرَ الأمرُ: رأسٌ صادقٌ
والألى صدّوهُ هم أشقى الزمَر

ثم جاءَ الموتُ يُردي المُفتري
فإذا بالخِب أضحى يُحتضر

قال للحُجّاب: هيا أحضروا
أهلَ طِبي يرفعوا عني الخطر

وَعْكَة هذي ، سيُنهيها الدوا
ومِن الأسقام قد يُنجي الحذر

وأتى الطبُ ، وأدلى دلوه
أين مما قدّر المَوْلى وَزَر؟

خيّمَ الموتُ ، وألقى سِتره
أي طبٍ يَبتلي هذي السُتُر؟

نفضَ (الدكتورُ) كفي عاجز
مُلقياً كل الأحاجي والإبر

لم تعدْ تُجدي العقاقيرُ التي
أنتجَ الطبُ ، فقد ولى العُمُر

فاحملوها جُثة أفضتْ إلى
كل أعمال إليها تفتقر

كم تلا الموتُ عباراتِ الأسى
عن أناس شمسُنا هم والقمر

أهلُ علم بينوا سُبْل الهدى
وأبانوا الرشْدَ في خالي العُصُر

شرّفوا الدنيا بما هم خلّفوا
من علوم كم حوتْ أحلى الدُرر

في بِقاع الأرض ذرّوا عِلمهم
ولهم في نشره أرجى السيَر

والتلاميذ أتوا من بعدهم
باذلين الجهدَ في بذر الفِكَر

فاستفادَ الناسُ من تعليمهم
وألانوا – للتلاميذ - العَسِر

ثم ماتوا ، والعلومُ لم تمتْ
ولها دوماً - على الجهل - الظفر

والقبورُ غيّبتْ أجسامَهم
لكن الذكرى تُسلي من ذكر

لا يزالُ الدهرُ يُعلي شأنَهم
ولهم - بين البرايا - ينتصر

قبرُ كلٍّ منهمُ مُستودعٌ
لرُفاتٍ ما ثوى فيها الخبر

إيهِ يا قبراً حوى أهل الهُدى
الجثامينُ مضتْ ، والعِلمُ قر

زائرَ القبر تأدبْ ، وارتدعْ
وتأملْ ، وتبصّرْ، وادّكِر

قد يُفِيقُ القبرُ قلباً هائماً
إن تملى القلبُ يوماً ، وافتكر

قد تهُز الروحَ ذكرى ميّتٍ
بخِلال الخير والحُسنى أمر

قد يُعيدُ القبرُ عبداً شارداً
في الضلالات - تمادي - والسُعُر

زائرَ القبر تلطفْ ، وانتصتْ
لحديث القبر ، واعقلْ ، واعتبر

إن – للقبر – كلاماً قالهُ
فاقرأ الأقوال ، وابحثْ في الأثر

لم يكن قط حديثاً مُفترى
بل حديثاً فيهِ أسمى مُزدجَر

لِمَ جَفّ الدمعُ ، واغتِيلَ البُكا؟
كنتَ أولى بدموع تنحدر

كيف تهذي عند قبر ربما
فيهِ نيرانٌ ، أتتْه من سقر؟

تحرقُ الميّتَ صُبحاً والمسا
في ذنوب بات - منها - يستعر

كيف لم يهزمْك قبرٌ ربما
ضمّ جُثماناً فآذى واعتصر؟

كيف لم يردُدْك قبرٌ عن هوىً
فرآك الناسُ تجترُ السمَر؟

كيف تلهو بالنكات استغرقتْ
وقت غِر لم يُزلزله الكِبَر؟

وعجيبٌ أمْرُ كَفي غافل
كل كفٍ – بهواها – تأتزر

كفك اليُمنى بها الحلوى شدتْ
وفمُ الشرهان منها لم يذر

طابت الحلوى فأفنى ما اشتهى
وقضى - من نهمة الأكل - الوَطر

واليدُ اليُسرَى بها سيجارة
تعسَ المُدْمنُ ، أشجاهُ الخدَر

وي كأن القبرَ مَلهى جاءهُ
قاصداً فيه التلهي والسهر

وي كأن القبر مقهى زارهُ
ينفخ النرجيلَ وهاجَ الشرر

تشمئز النفسُ من دُخّانه
ويلي دُخّانه ريحٌ قذِر

تعسَ التدخينُ يُردي أهلهُ
هل رشيدٌ بسموم ينتحر؟

يُشعِلُ السيجار عند القبر ، لم
يُنسه القبرُ الهوى كي ينزجر

والمَزاجُ العذبُ ناجى عابثاً
عَمِيَ القلبُ - لديهِ – والبصر

خابَ كيفٌ كم يُدَسّي مُدمناً
هل – مع الإصرار – ذنبٌ يُغتفر؟

ضجعة القبر تقي مَن شيّعوا
فتنة الدنيا وأوهامَ البَطر

كل مَجنوز له في قبرهِ
عِبرة تُورثُ – في النفس - الضجر

رحلَ المجنوز عنها مُكرهاً
وأرانا – بعد حِين – في الأثر

هل يكون القبرُ أحلى روضةٍ
من جنان في جوار المقتدر؟

أم يكون القبرُ أشقى حُفرةٍ
من جحيم ، ثم في الأخرى سقر؟

إن في القبر عِظاتٍ تجتني
فرحة في القلب تعلوها البُشُر

ودُروساً تدمعُ العينُ لها
فترى الدمعَ غزيراً ينهمر

ولذكر الموت أخذ صاعقٌ
كم بهذا الذكر نفسٌ تنكسِر

زائرَ القبر أطعني ، وانتصحْ
رُبّ نُصْح ساقَ – للغافي – العِبَر

خفْ من القبر ، وجهز زادَهُ
راحلٌ أنت ، تهيأ للسفر

ربما وافاك موتٌ مُزمَعٌ
فتأهبْ للقاء المقتدر

رحم اللهُ امرأ يُصغي إلى
واعظ الموت رَضِياً بالقدر

هادمُ اللذات آتٍ ، فالقهُ
مستعداً قد أفادتْك النذر

سوف يأتي بغتة ، فامهدْ لهُ
بسنا التقوى وسعْي مُدّخر

وبأعمال تُنجّي عاملاً
وبأفعال وأقوال أخر

وادْعُ رب الناس ، وانشد عونه
في دجى الليل ، وفي وقت السحر

كتب المولى على الخلق الفنا
وسيَبقى وجهُ خلاق البشر

© 2024 - موقع الشعر