المقابر تتكلم 5 ميّتٌ يطردُ المُعزين فيه - أحمد علي سليمان

مَللتُ عِتابَ الغدور الجبانْ
وما لي بردّ التجني يدانْ

لقد شَرّقَ الوغدُ مُستنكفاً
وغرّبْتُ كي أتحاشى الطِعان

وحصّنتُ نفسيَ من كيده
بترك الجدال وهجْر المكان

فما اتعظ الخِبُ من فعلتي
ولم يستطعْ أن يكُف اللسان

يميناً لقيتُ الأمرّين من
غدور خؤون خذول جبان

فكم لاك عِرضي بحَبْك الفِرى
وأمسى بريئاً وغيرَ مُدان

وكم دسّ عني أكاذيبَهُ
وأطلقَ – للشائعات - العَنان

وكم شوّه المُفتري سُمعتي
وبالغ في الافتِرا بامتهان

وكم أجّجَ الغِر نارَ العَدا
وأتقنَ - في الحرب - نفخ الدخان

وكم سعّرَ النذلُ حرباً طغتْ
وأمسك في ساحها بالسنان

لماذا؟ وكيف تبيعُ الإخا
وتُمعِنُ - في بُغضنا - يا فلان؟

ألم أقسم الدارَ تُؤوي فتىً
ليَنعم - في أمّها - بالأمان؟

ومخدع نومك صمّمْتُهُ
وزخرفتُ - بالود - أحلى مكان

ألم أكُ - في الجود - مستكثراً؟
ألا اسألْ ضميرك يا ثعلبان

لماذا القطيعة أشهرتها
حُساماً يُقطعُ أوهى صِيان؟

وكنتُ تناسيتُ ما قد مضى
وما كان منك قديماً ، وكان

لنبدأ عهداً جديدَ الصُوى
ونعفو عن الصل كاد وخان

وساقَ الفحيحَ لإرعابنا
وبالرغم ضاق - به - الفرقدان

ولمّا نخفْ ، بل صمدْنا لهُ
وكان لنا منه أشقى امتحان

فهل غيّرَ الصل جلداً ثوى
ليُصبحَ ذا مكرُماتٍ وشان؟

وأرسلتُ مَن أصلحوا بيننا
فأعطيتهم - في اللقاء - الضمان

وأعطيتُ عهداً لمن صدّقوا
ونقضُك للعهد في التو بان

وأسقيتني الخذلَ مُستغنياً
بمالك عني فبئس القِران

وعُوملتُ حياً كمن قد قضى
ومكرُك بي - يا غويّ - استبان

وأسلمتُ أمري لرب السما
وأشفقتُ أن أبتلى بافتتان

وكنتُ اتخذتُ القرارَ الذي
يُجنبني ذِلتي والهوان

فقد هدمَ النذلُ كُوخ الإخا
وبانَ الخداعُ تمامَ البيان

ولم يُبق وَصلاً ولا مُلتقى
لأن الوصالَ شقيقُ الحنان

وليس حنانٌ بقلب جفا
ولمّا أهانَ المُروءاتِ بان

وأسوارُ إيلافنا هُدّمتْ
ولم يبق للود أي كِيان

إذا أدرك السورَ تهديمُهُ
فماذا يُفيدُ بقاءُ الدهان؟

ومرتْ عقودٌ على غدركم
لعاً للكرامة والصولجان

وراهنتُ يوماً على عودةٍ
نرجّعُ مجداً ثوى واستكان

ولكن رهاني خبا وانزوى
فقد كسبَ الجُعظريُ الرهان

ومِت ومَظلمتي لم تمُتْ
ستبقى تُهددُ كل جبان

وتشكو السنينَ العِجافَ التي
سَقتني الأذى والشقا والهوان

بشؤم جهودك يا ظالماً
بعِرضي وحقي وشأني استهان

وتأتي الجنازة مُستعبراً
وتصحبُ بعضَ الشماتِ الحِزان

لماذا أتيت تُعزي هنا؟
وهل أنت منا؟ أجبْ يا فلان

وكم من جنائز شيعتها
فلا اعتبرت بأنك فان؟

ألا ارجعْ وحيداً بلا عودةٍ
مجيئُك عكّرَ صفوَ المكان

وعند المليك غداً نلتقي
وتلقى جزاءك يا أفعوان

مناسبة القصيدة

المقابر تتكلم 5 - ميّتٌ يطردُ المُعزين فيه (عاش محسناً لمن حوله ، وقوبلَ إحسانه بالإساءة من بعضهم. ووصلت الإساءة إلى حد القطيعة التي دامت عقوداً من الزمان! وحاول الإصلاح وإعادة العلاقات عدة مرات. وباءت كل محاولاته بالفشل. وعجب من قوم قد قصروا زياراتهم له على المناسبات النادرة كالأفراح والجنائز! وحتى إن حضروا هذه المناسبات لا يُسلمون عليه ولا يُصافحونه ، بل يحضرونها أجساماً دون قلوب أو أرواح أو ضمائر أو عواطف أو أحاسيس! وتوقع بفراسته أن يأتي هؤلاء المتخاذلون الأصاغر ليُعزوا أبناءه من بعده ، فقام بتسجيل وصية صوتية هي الأغرب من نوعها في تاريخ البشرية! في هذه الوصية يسميهم بأعيانهم وأسمائهم ويلومهم لوماً شديداً ويحثهم على الرحيل وتركب موكب العزاء على المقبرة ، وأنه عليهم أن يكملوا مسيرة القطيعة له وهو ميت كما كانت وهو حي! وعهد بهذه الرسالة الصوتية إلى أكبر أبنائه ، وأوصاه بأن يذيعها على الملأ ليُسمع القاصي والداني أنه لا يرحب بهم في مشهد عزائه ويرفض تعزيتهم ومواساتهم لذويه قائلاً: من لم يهتم بي وأنا حي لا حاجة لي به وأنا ميت. اذهبوا أيها الوضعاء المتخاذلون فإنه لا خير فيكم، قاطعتموني عقوداً حتى إذا ما مت جئتم لتعزوا أهلي. اذهبوا عن هذا المشهد فإنني وأهلي لا نرحب بكم! إنه لا مكان للغدر والغادرين المخادعين في موكب الجنائز إلا بعد أن يعتبروا بها وبأهلها! وعن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة) ، وفي رواية: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة). قال النووي: (وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر ، لاسيما من صاحب الولاية العامة ؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين). إن الغدر والغادرين والمصرين على القطيعة ينبغي أن يراجوا نفسهمُ المريض من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله!)
© 2024 - موقع الشعر