المقابر تتكلم 6 العفو عند المقبرة - أحمد علي سليمان

رأوْني غداة الروع لستُ بمجرمِ
وما جاوزتْ نفسي حدودَ التأثمِ

رأوني ملاكاً طاهراً ومطهراً
بأخلاق صدّيق وترجيع مُحْرم

ودارتْ رحى الإطراء والمدح والثنا
بتحبير مفتون وتدشين مُغرم

كأنيَ لم أخطئ ، وما كنتُ مُذنباً
وبالسوء لم أجهرْ ، ولم أتكلم

رآني بريئاً كل خِب مُغالطٍ
فهل كان عمّا قاله اليومَ بالعمي؟

وكم كالَ أوصافاً نكرتُ بريقها
وغالى بلا حدٍ بلفظٍ مُنَغم

وبالغ أقوامٌ ، فلم يتورّعوا
ومازلتُ أعلو في رؤاهم وأستمي

فمن قائل: هذا أصيلٌ مُكَرّمٌ
وكان يراني قبلُ غيرَ مُكَرّم

ومن قائل: هذا صحابي عصرنا
فهل كنتُ حقاً للصحابة أنتمي؟

ومن قائل: هذا حكيمٌ مؤدبٌ
وأعدلُ مسؤول ، وخيرُ مُحَكّم

ومن قائل: هذا فريدُ زمانهِ
فليس له في عالم الإنس من سَمي

ومن قائل: هذا تقيٌ ودَيّنٌ
ونفديه بالأموال والنفس والدم

ومن قائل: هذا خطيبٌ مفوّهٌ
فأكرمْ به من نابغ متكلم

ومن قائل: هذا المبجّلُ خيرُنا
له في قلوب الكل حبٌ مُتيّم

ومن قائل: كم كان يعطي تفضلاً
ويبذل ماءَ الوجه طوعاً لمُعْدَم

ومن قائل: كم كان ينفق ماله
يريد النجا من حر نار جهنم

ومن قائل: كم كان ينصح مَن غفا
بقول لطيفٍ من سنا الذكْر مُحْكم

ومن قائل: كم كان يفتح دارهُ
لمن حلّ ضيفاً أو طريداً ليحتمي

ومن قائل: كم عاش شهماً معززاً
وأنى نرى من مثل هذا بأشهم

ومن قائل: كم صدّ عُدوانَ مُفتر
وأودى بفظٍ مقرف الطبع مُجْرم

ومن قائل: كم بلغ الحق واضحاً
بأقوى دليل ليس قط بمبْهم

ومن قائل: ما غيّرتْهُ مواقفٌ
بل كان يبلوها بدون تجهم

ومن قائل: لم يعرفِ الكِبْرَ قلبُهُ
ويلقى مراراتِ القضا بتحَلم

ومن قائل: عفُ السجايا مُوَحّدٌ
وأكرمْ به من طيّب السمت مُسْلم

رأونيَ بعد الموت أستأهلُ الرضا
ولستُ الذي كم خصّ فوهُ بعَلقم

فقلتُ: هدادَيكم ، وردوا تساؤلي
بمنطق أفذاذٍ بدون توهم

ألم تقطعوا وصلي بدون مبرر؟
فأبئسْ بجَمْع عن سنا الوصل مُحْجم

ألم تهدموا داراً بمالي ابتنيتُها؟
ودمعي جرى يأسى لبيتٍ مُهَدّم

ألم تسرقوا أرضاً بأحقر حِيلةٍ
بعقدٍ بحبر الزيف عمداً مُرقم

ألم تنهبوا مالي بغير جَريرةٍ
ولمّا يكنْ للغاصبين بمغنم؟

ألم تسلبوا الأسفار كانت أمانة
كأنْ ليس في دين الهُدى بمُحَرّم

ألم تجرحوني بالتجني تشفياً
بلفظٍ فظيع من لظى الكيد مؤلم؟

ألم تشمتوا لمّا دَهتْني مصائبي؟
فهل هذه السوآى تليقُ بمسلم؟

أما حِكْتمُ البهتان عني تطاولاً
وصوّبتمُ نحوي بهِ شر أسهم؟

تناقضُكم يُزري بغر أماجدٍ
ولا تستوي الأعنابُ قِيستْ بحُصرُم

وحاولتُ جَهدي أن أغيّر طبعَكم
وما كان لي من مأرب أو مَزعم

سوى أن أراكم في البرايا أعزة
وخابت ظنوني والحجا باللظى رُمِي

وأنذرتُكم: عُقبى التدني فظيعة
ولمّا أكنْ في الوعظ بالمتوهم

ألم تجعلوا مني مثالاً لسُخفكم
وكِلتم عذاباتي بكل تبرم؟

وأهدرتمُ حقي ، وشِدتم كآبتي
فعانيتُ من عيش مَرير وحُلكُم

وجَرّعتموني الشيحَ قسراً بلا حيا
ولم تقدُروا قدري بكل تجهم

ولوّثمُ صِيتي وعِرضي وسُمعتي
فهل كنتُ فيكم يا غثا كابن مُلجم؟

فلا أنتمُ مني ، ولا أنا منكمُ
لقد بعتمُ ودّي بأبخس درهم

فهيا اغرُبوا عني ، فقلبي قلاكمُ
ومن ينتسبْ للبُهت ينصبْ ويندم

ولا تشملوا قبري بأي زيارةٍ
سيفضحُكم قبري قليس بأبكم

أنا لم أكن شيطانَ قومي لتعتدوا
أما ضِيفَ لاسمي بينكم لفظ مُلهم؟

وما عشتُ فيكم دون أدنى كرامةٍ
لتدحضَ أخلاقي أباطيلُ لوّم

ولا كنتُ نذلاً أستهينُ بعِتْرتي
ولم أتناولْ عيبَ قومي بمرقمي

وما كنتُ هتاكاً لحُرمة خلتي
وعشتُ ألاقي خذلها بالتبسّم

فهل كنتُ أستجدي الرضا متحمّلاً
بلاءَ أناس – في العزائم – خوّم؟

رمَوني بما هم أهلهُ من رذائل
ولمّا يكنْ أمري عليهم بمبهم

وهُنتُ عليهم ، ثم هانت شرافتي
وكنتُ على هجرانهم غيرَ مُرغم

ولكنني ناولتهم ما توسّموا
من البُعد ، إذ فيهِ انطلاقي وبلسمي

وإذ مت قد أصبحتُ بدراً بليلهم
وأمسيتُ بين الناس غيرَ مُذمّم

وقد أصدروا عفواً يُعرّي انحطاطهم
وإن انحطاط المرء يُزري بمَعْلم

وأجمِلْ بعفو يُجْتنى بعد قدرةٍ
فمقدرة المغوار تسمو بقيّم

وماذا يُفيدُ العفو إذ شرّف الردى
وجاد به الأوغادُ في ساح مأتم؟

وما العفوُ إن كان العداءُ مُبيّتاً
ولا يُظهر المظلومُ أي تظلم؟

ومن قال: إن الود يصفو بعفوكم؟
ندمتم ، ولكنْ لات ساعة مَندم

وما عفوكم ، والعبدُ أدخِلَ قبرَهُ؟
ألا نبئونا يا دعاة التفهّم

ألا إنني لا أقبلُ اليومَ وُدّكم
وإن ادّعاءَ الصفح يُنبي بمأزم

كفاني هواناً أن شهدتم جنازتي
وكنتم بها عِبئاً يَزيدُ تألمي

ولو لم أكنْ ميْتاً ، لكنتُ طردتُكم
وبالغتُ في زجْري ، ولم أتلوّم

لماذا أتيتم تُزعجون جنازتي
وما لي بها حام ، وما لي بها كمي

يذودُ عن المجنوز ، يحمي صِيانهُ
ويُزري بدُهقان خذول غشمْشَم

يُنفذ ما أوصى ، ويرعى ذِماره
رعاية فذٍ يزدري كل أيهم

ومَن عابني حياً ، وأزرى بهمّتي
وصَوّبَ نحوي في التلاحي بأسهم

ولمّا يصُن وُدّي ويأسى لنكبتي
ويَرثى لفقداني ، ويهفو لمقدمي

فعن أي شيء عفوه اليومَ يا تُرى
وخذلانه بادٍ ، وليس بطلسم؟

حرامٌ عليه اليوم أن يُشْهرَ الوفا
لأن شحيحَ النفس عن بذله عمي

أثم إذا مت احترمتم أخوتي
وعزيتمُ أهلي بقول مُنمنم؟

وكِلتم أماديحي ، وذِعتم مناقبي
بترجيع إنشادٍ وسجْع مفخم؟

كأني بكم أدركتموها مؤخراً
وجئتم بنص مستبين منظم

عجيبٌ أيأتي العز والفخرَ ميّتٌ
ويُعرف بين العالمين كضيغم؟

أوَقرتمُ المسكينَ بعد رحيله
أأوقفتمُ التجريحَ كي تحقنوا دمي؟

أأهداكمُ الجسم المسجى مواعظاً
فأبديتمُ الإطراءَ بعد التندم؟

أأبكاكمُ النعش استكانت حِباله
وأخفى دموعَ الزيف بعضُ التكتم؟

أأحزاكمُ عِطراً كفينٌ مُمَددٌ
ففاءتْ فلوبٌ من ضلال مُخَيّم؟

أأغراكمُ نومي وحيداً مُجندلاً؟
فعما قريب أنتمُ شر نوّم

لقائي بكم عند المليك ، فأبشروا
ورب السما في الحُكم ليس له سمي

مناسبة القصيدة

المقابر تتكلم 6 - العفو عند المقبرة (إن تناقض أحوال الناس في الدنيا أمرٌ اعتدناه وألفناه! وهذه عادة ممقوتة استشرتْ في الآونة الأخيرة بشدة! وإن كانت في الأصل غابرة حاضرة ، فلقد كبر عليها الصغير وشاب عليها الكبير! ألا وهي أن أكثر الناس يذمّون فلاناً بغير حق طبعاً ، بل ويقاطعونه ويكرهونه وهو حي يُرزق! فيهضمون جميع حقوقه معنوية ومادية. ويجهرون بالسوء في حقه ، ويعادونه معاداة شديدة. فإذا مات خلعوا عليها ألقاب الصحابة والتابعين وتابعي التابعين! وأحبوه حباً جماً ، وعفوا عنه وسامحوه ، وراحوا يذكرون له مناقب إن بحق أو بغير حق ، ومضوا يبالغون في وصفه بصفات ربما ليست لأبي بكر وعمر ، وكأنه شخصية مختلفة عن التي كانت بينهم مهدرة الحقوق مهضومة الواجبات! ولولا أن النبي – صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله لقلت بأن هذا الميت كان قد عمل كل هذه الصالحات بعد وفاته! حتى إذا جيء بالطعام في مجلس عزائه راحوا يتندرون وينكتون ويطلبون ما لذ وطاب من اللحم والمرق والليمون والأرز والمعكرونة والخبز! ومن بين هؤلاء ربما أصدقاء له كان ينبغي أن تنخلع قلوبهم حُزناً على صديقهم ، ولو من الناحية الشكلية والصورية ، كان ينبغي أن تعاف نفوسهمُ الطعام والشراب حزناً ووجداً على فقيدهم! فتخيلتُ أحد الموتى الذين هذا حالهم راح ينكر عليهم هذا التناقض الفج المَقيت الصارخ في معاملته ، وأخذ يعتبُ عليهم كيف انحدروا إلى ذلك النفاق البغيض المريض! فكانت رسالته من قبره لهم أن عفوكم عني جاء في غير وقته ومكانه! وأنه ليس يقبله منهم مُطلقاً لأنه لا خير في عفو لم يكن عند المقدرة بل كان عند المقبرة! وكانت هذه القصيدة ترجمة لكلمات هذا الميت في مشهده العتابي التوبيخي! إن هذه القصيدة تتناولُ في حقيقتها موضوعاً شاعَ في كثير من الأسَر اليوم ، وأخذ شكل الظاهرة التي هي بحاجةٍ ماسةٍ إلى علاج! ومن هنا حاولتُ جاهداً أن أبين هذا الموقف المُخزي لكثير من الأقارب الأخسّة الراذل الذين لا يرتفعون بالقرابة عن المنفعة الخسيسة! ولا تعرف قلوبهم التضحيات ولا المروآت ولا الإخلاص ولا البذل! ولا تدرك عقولهم مبدأ الحياد الإيجابي ولا التعايش السلمي لتعامل بالمعروف! ولا يعرفون مُطلقاً مبدأ التنازل عن الحق الشخصي من أجل الحق العام! ومن هنا تقع المسؤولية الكبرى على الأبوين الذيْن يشيطنان ابناً لهم كشفتِ الأيام أنه كان أبر الناس بهم! ولمّا شيطنوه راحوا يقتنصون الفرص ويضخمون أخطاءه ، ليثبتوا أحقيتهم في شيطنته! فيمقته إخوانه وأخواته ويصبح عدواً! ويتنكر بعضُ إخوته الصغار ليأخذوا مكانه ، كأنه قد مات ولحق بالرفيق الأعلى ، ويسطون على ممتلكاته كأنه قد مات وهم له ورثة! ويتزلفون عند الأبوين لنيل ما ادخره الأبوان لهذا الابن من الحنان والاحترام والمال بوصفه الابن الأكبر! ويحاول هذا الابن الأكبر المسكين التقرب لهم بكل ما يستطيع ، في محاولةٍ منه لإزالة شيطنة الأبوين له عند إخوته! ويكون أخاً خسيساً نذلاً وضيعاً من يستغل خلاف أبويه مع أخيه الأكبر ليشارك في الجريمة التي هي شيطنة أخيه الأكبر ليأخذ مكانه عندهما! فبدلاً من أن يصلح ويزيل الغمة بين الأبوين وابنهما الذي هو أخوه الأكبر ، راح يوسّع الهوة ، ويزيد من الفجوة ، ويُغذي الشقوة ، لتقع الكبوة لينتفع الخسيس الوضيع النذل! ثم تكشف الأيام مروءة الأول ونذالة الثاني! ويعيد الكَرّة في الإصلاح الابن الأكبر الذي شيطنوه فيعمد إلى أن يصلح متنازلاً عن كثير من حقوقه ، ولكن هيهات هيهات! كيف له ذلك والموج أكبر منه ، والحب لا يُشترى بالمال! والنخوة والمروءة والنجدة كلها أشياء لا تشترى بالمال! إنما هي مخلوقة في الإنسان وتولد معه ولا يمكن لها أن تفارق صاحبها مهما كان! وقرأنا في كتب الأدب العربي والغربي عن أناس عندهم مروءة ومعايير إنسانية سامية! وإن كان بعضهم من عبدة الأصنام وطوائف الكفر المعروفة وغير المعروفة! إن الأخلاق والمعايير الإنسانية لا دين لن ولا زمن ولا مكان!)
© 2024 - موقع الشعر