المقابر تتكلم 7 لماذا المغالاة في البناء؟ - أحمد علي سليمان

قبورُكم كَلفتْ بعضَ الملايينِ
وأهدَرتْ في القرى بعضَ الفدادينِ

بنيتموها بأحجار لها نسقٌ
يُفضِي إلى نسق بالرصف مقرون

وكل قبر به أنصافُ أعمدةٍ
تشد بنيته مثلَ الأساطين

والسقفُ أوتادُه في الأرض أربعة
شُدتْ لتحملَ سَقفاً غيرَ مدهون

يا صاح حدّثْ عن التكليف ضاق به
قومٌ يعيشون في الدنيا على الدون

عن المصابيح حدّثْ كل من نظروا
وبعضُها خصّه الحمقى بتزيين

تُضاءُ ليلاً فتُستجلى القبورُ بها
فلم يعد دربُها عنا بمدجون

فهل سيسهرُ موتاها على سمر؟
أم يسهرون على عِلم وتدوين؟

أما نُهينا عن اتخاذ مسرجة
على القبور كباحات الدكاكين؟

والنص ذم الألى أتوه من زمن
من النصارى غدَوا أو آل صهيون

وبعدُ طالبنا بأن نخالفهم
أم كان نهياً تَخفّى بالأظانين؟

واستشرفتْ في الفضا الأسوارُ باسقة
كأنها بُنيتْ حول الدواوين

وكل باب عليه القُفلُ يُوصِدُهُ
كباب سِجن حوى أشقى المساجين

عن الزخارف حدّثْ كل مَن دهشوا
فيها الرسوماتُ تُدْلي بالبراهين

على القبور زهتْ أشكالُ زخرفةٍ
تسبي العيونَ بها أطيافُ تلوين

وبعضُها بسنا الفسيفساء زكا
والبعضُ زينَ بجص غير مدهون

بواجهاتٍ غدا الرخامُ يُتحفها
أمست تُحاكي دهاليز الأواوين

والبعض بطّنه الصُناع إذ أمِروا
والبعضُ قد تركوا بدون تبطين

ومِن حديدٍ هنا أبوابها صُنعتْ
كأنما ألحقوا الموتى بتسكين

وللقِيشاني على الجدران رونقه
لوحٌ من الهند ، والثاني من الصين

وللسيراميك حُسنٌ في تناسُقه
يكاد يُذهلُ ذا فهم وتفطين

والبورسلينُ تهادى في نعومته
حتى يقيْ كل تبريدٍ وتسخين

وللجرافيت ألوانٌ مزركشة
دقتْ كمثل تماثيل الفراعين

وللنوافذ حُسنٌ في مَقابضها
وللمَزاليج حدٌ كالسكاكين

شُدتْ مَتارسُها على الحُلوق ، فلا
تطالُ ساكنها أيدي الدهاقين

وتحتها بُنيت مَقاعدٌ رُصِدتْ
لزائري القبر ، رفقاً بالمساكين

وبينها صالة ما كان أوسعَها
وفوقها بُسُط مثلُ البطاطين

وكل قبر له رُخامة شملتْ
أسماءَ موتاه فيها كل تبيين

وعنهمُ سُطِرتْ آياتُ مجدهمُ
وكل مدح وإطراء وتدشين

وبعضُ آي من القرآن تسرية
عن النفوس تُعاني قسوة الرون

وبعض شعر يُسلي مَن يطالعه
بخاطر من سعير الوجد محروم

وحكمة نصها يُعينُ قارئها
على تحمل ما يلقى من الهُون

وقد نطالعُ سباً للقضا علناً
كأن كاتبه من المجانين

تالله ما غبن القضاءُ مِن أحدٍ
وليس مَيّتُهم - حاشا - بمغبون

ومَن يُطالعْ يجدْ آثارَ مَخبثةٍ
هل جُل مَن كتبوا مِن الملاعين؟

والبعضُ شادوا رياضاً جِدّ عامرة
حول المقابر تُزري بالبساتين

فيها ثمارٌ ورب الناس يانعة
فيها من التوت والرمان والتين

فهل سيأكلُ موتى القوم ما زرعوا
من الثمار نمتْ في الماء والطين؟

أم هل يُعيد الرخا أرواحَ من ذهبوا؟
أرواحُ من رجعتْ إلى الجثامين؟

هل يستفيد الألى ماتوا بما غرستْ
أيدي المعاتيه من عذب الرياحين؟

أم هل يشمون من ورد ومن زهر
ومن بنفسجكم – يوماً – ويسمين؟

ماذا يُفيدون من جرائدٍ نُثرتْ
على المقابر ، أو أوراق يقطين؟

قالوا: النبيُ أتى ما نحن نفعله
رجاءَ تخفيف ما قد كان من هون

فقلتُ: خِصيصة هذي لأحمدنا
فليس هذا الذي جئتم بمَسنون

والبعضُ شيّدَ مقصورات مُبتدع
والبعضُ حاكاه في بذل الملايين

سل المقاماتِ في قرىً وفي حضر
والبعضُ يقصدُها كل الأحايين

والبعضُ شيدَ في الديار أضرحة
للأولياء ذوي البأس الميامين

يدعوهمُ الناسُ في سر وفي علن
حتى يجودوا على الهلكى بتحسين

فيُشركون برب الناس خالقهم
مَن أمره كله بالكاف والنون

ويدفعون نذوراً للألى قبروا
مثل التي نذرتْ من قبلُ للزون

ويذبحون لغير الله صبحَ مسا
وعندهم قلبتْ كل الموازين

شتان بين أناس ربَهم سألوا
فأخلصوا دينهم بدون تدجين

وآخرين دعوا موتاهمُ رغباً
بنص وِردٍ حوى أخزى المضامين

والله ما استويا هادٍ ومفتتنٌ
وما تعادلَ ذو تقوى بمفتون

هي القبورُ تنادينا وتُحرجُنا
تقول: أحياؤكم أولى بتمكين

فأمّنوا عيشهم من كل نائبة
فاز الألى آمنوهم خيرَ تأمين

فاز الألى أحسنوا لكل مبتئس
وفاز قومٌ رعوا حق المساكين

لا تبذلوا المالَ يا أقوام في بدع
والنهي عنها أتى بكل تبيين

والنص في كتُب الثقات متضحٌ
أكرمْ بنص بوحي الله مقرون

لمَ ابتدعتم وقد بانت شريعتُكم؟
لمَ استجبتم لوسواس الشياطين؟

وفي المآتم جئتم بالألى قرأوا
وحصّلوا المال بين الحين والحين

وبالغوا في أجور لا حدودَ لها
وبعضُهم قد غدا مثلَ القوارين

جاؤوا السرادقَ لما الحجز تم لهم
والأجرُ أصبح في حِفظٍ وتصوين

فهل قراءتهم تُنجي الألى قبروا
من العذاب أتى بالضنك والهُون؟

هل النبي تلا آياً على ابنته
في يوم ماتت فجدّوا في البراهين

والقارئ اليوم محظوظ بمن جهلوا
فليس يأتي بمال غير مصوون

لمّا اطمأن إلى الألوف قد رُصدتْ
والبنكُ جاد بمال جد مضمون

على موبايله جاءتْ رسالتُه
تقول: حِيزَ رصيدٌ بعد عربون

فجاء يقرأ آي الذكر في طرب
يُحبّرُ النص تجويداً بتلحين

عارٌ على زمَر القرّاء ما ابتدعوا
ما لم نجدْ حِله في الشرع والدين

فقارئٌ عند فمّ القبر منتظر
تمامَ دفن ليُزجي خيرَ تلقين

وقارئٌ يغمرُ الصيوان دندنة
بالآي باتت كأشباه القرابين

وقارئ ينشد العِتاقة ارتصدتْ
كي تخلص الروحُ من أصفاد مسجون

وقارئٌ نذروا للأربعين أتى
حتى يخص الورى ببعض تهوين

وقارئٌ جاءهم وقد مضت سَنة
حتى يُذكرهم بخير تأبين

كأنما الذكرُ للأموات تذكرة
من أين جئتم بهاتيك الأظانين؟

هي المقابرُ تُهديكم نصيحتها
أكرمْ بنصح صريح النص موزون

تقول: كفوا عن البناء يُعضلكم
ولا تؤدوا له أدنى العرابين

لن تنفع الميّتَ المجنوزَ بدعتُكم
وليس ينفعُه بريقُ تزيين

حتى متى بدعٌ تُزري بطاعتكم
لا يستفيد بها غيرُ الهوامين

عودوا إلى الشرعة السمحا تبصّرُكم
وسوف تحيون في عز وتمكين

وزايلوا بدعاً تُعمي بصائركم
وأجرُكم إن أطعتم غيرُ ممنون

كم توهنُ البدع الشنعا عزائمَكم
فلا تعيشون كالأسْد العرانين

إني نصحتُ ، ونصحي غيرُ ملتبس
وينفعُ الناسَ نصحٌ غيرُ مَدخون

يا رب فاهدِ الورى للحق ينتفعوا
فإن أمرَك بين الكاف والنون

مناسبة القصيدة

المقابر تتكلم 7 - لماذا المغالاة في البناء؟ (لقد أسرف كثير من الناس في تصميم المقابر والمبالغة في تزيينها وزخرفتها وإنارتها ، حتى وصلتْ تكلفة القبر الواحد 300 ألف جنيه ، على حد ما ذكر لي من أثق في كلامه وتقوم الحجة بقوله! وفي زيارةٍ لي للمقابر ، حاولت أن أستوثق من مدى مصداقية هذا الكلام ، فرأيت عجباً. فوالله لقد رأيت مقابر لا تختلف كثيراً عن بيوت الأحياء ، إلا أن تُمدد لها خطوط الكهرباء والماء والإنترنيت والغاز! فتساءلتُ: لماذا الأعمدة والسقف الخرساني والرخام والسيراميك والقيشاني والفسيفساء المنحوتة والمعدنية والمدهونة ، ناهيك عن المشربيات والفسقيات والبوابات والأسوار والأبواب والنوافذ؟! هل الموتى يستفيدون من هذه الأشياء؟ هل تُفيدهمُ الفرُش والورود والزهور والخوص والريحان والياسمين والفل والثمار والأشجار والزروع المختلفة؟ ثم مَن أمر الناس بالبناء على القبور بهذا الشكل المكلف الذي يصرف من ينظر إليه عن تذكر الآخرة ولو للحظة؟! وصدق حافظ إبراهيم عندما قـــال: أَحياؤُنــــــا لا يُرزَقـونَ بِدِرهَــــــمٍ وَبِأَلفِ أَلفٍ تُــــــرزَقُ الأَمـــــــواتُ مَن لي بِحَظِّ النائِميــــــنَ بِحُفــــرَةٍ قامَــت عَلى أَحجارِهـــا الصَلَـــواتُ يَسعى الأَنامُ لَها وَيَجـــــري حَولَها بَحرُ النُــــــذورِ وَتُقــــــرَأُ الآيـــــاتُ وَيُقالُ هَذا القُطبُ بـــابُ المُصطَفى وَوَسيلَــــــةٌ تُقضــــى بِها الحاجـــاتُ فكانت هذه القصيدة ترجمة شعرية حية لما قالت القبور من النصائح الذهبية! حيث قمتُ بصياغتها شعراً ، وطوفت على شيء كبير من الواقع المعاش ومن النصوص الشرعية التي جعلناها في المقدمة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا! إن الأمر بحاجةٍ ماسة لأن يعود الناس فيه إلى الله! وعليهم أن يُدركوا أن المقابر بيوت الدود والوحشة! وأنه ينبغي علينا عندما نزورها أن نتذكر الآخرة لا الدنيا! ولكن كيف وكل شيء فيها من بناء وزخرفة وزينة وإنارة وزروع وثمار وورود وزهور وثمار لا تذكرنا بألف باء الآخرة وهو الموت؟! لقد أصبحت القبور صوارف عن تذكر الموت والآخرة! والدليل هو عــدم الاعتبــار وعدم الاتعــاظ بمن ماتوا! لأن قبورهم بتأنقها تصرفنا عن ذلك كله!)
© 2024 - موقع الشعر