قراءة في أوراق الماضي 5 - أحمد علي سليمان

أَيها العينُ كفاني ما أُلاقي مِنْ هَوَانْ....
كم دَفقتُ الحقَّ كالزلزال في سَمْعِ الجَبَانْ ،

وبذرتُ النُّورَ في كل مَكانْ....
يَشْهدُ الأقوامُ هذا والزَّمَانْ...

لَمْ أَخُنْ عَهْدِي ، وإنْ خَانَ الرِّفَاق...
وطعنتُ الغَدْرَ جَهْرًا بالسِّنَان ،

وشربتُ المُرَّ مِمَّنْ نافقُوا...
فتَخِذْتُ الصَّمْتَ سَيْفًا بعدَما بُح اللِّسَانْ...

ثم في قِرطاس شِعْري يَزرعُ النُّورَ البَيَانْ...
وترش النارَ فوق قِرطاسِي القِيَانْ...

وأريجُ الشِّعْر يَغلِي في الجِفانْ ،
بعدمَا آنَ الآوان ، وتوارت صَرختي في ظلام الصولجانْ

----------------------------------------------------------------------
آهِ ، قد عزَّ الإباءُ ، وطابَ للدُّودِ الحِمَى ،

واستأسدَ السِّنُّوْرُ فِي دُنْيَا الوَرى ،
وَ«أَبيسُ» يَذبحُهُ الخُوارُ بِلاَ عُرَى ،

واسترجلت في ساحنا الغِيدُ الحِسَان ،
والناسُ قد باعوا الجِنَان ،

ورضُوا بعَيْشِ الذُّلِّ ، وانجَابَ الأَمَانْ...
وإذا بالعِلْم مَقْطُوعُ الوَريد ،

بَعدما دِيسَت بكل ضَرواةٍ قِيعَانُه...
وإذا بالدَّابَةِ العَجْفَاءِ تأكلُ فِي الهُدَى

وكذاكَ تلتهِمُ الفطاحِلَ مَنْ مَضَوا ،
وتَدوسُ مِنْسَأةَ البَيَانْ والأضاحيكُ توارت بعدما عزَّ الحنانْ

وأقولُ: مَاذا يا دجاجلةَ الهَوانْ...
الحق سوفَ يُبيدُكم وبِرغْم طَنطَنةِ الجَبَانْ......

وأنا أُسائلُ فِكرتي وقَريحتي:
فأقول:ُ مَاذا خلفَ أشرعةِ القَضَا؟

مَاذا تُخبِئُ يا تُرى أيَّامُنَا؟
حتى مَتى في الدار يَنْعِقُ يا تُرى هذا الجَراد؟

وإلى مَتى أفعَالُ أغربةِ الهَوَان؟
---------------------------------------------------------------------

مُقلةَ الخيراتِ ، يا عِزاً مَضَى:
أعلِني بقضاءِ مَوْلانا الرِّضَا ،

واستسلِمِي للهِ ، كُونِي قُدْوةً ،
لا تَقْنُطِي أَبدًا فإنَّكِ فِي الرَّزايا صَابِرة ،

فاستفيقي من كوابيس العذاب الجائرة
أنت في الدنيا إباءٌ ومَضَا...

فلمَاذا لا تُحبِّينَ القَضَا؟
إنَّمَا الآمالُ في الدنيا سَبيلْ...

والأماني مُقبلاتٌ ، ليْسَ يَكفِيها الفَضَا...
فلمَاذا الحزنُ دومًا ، والجَوَى؟

عَيْنُ كُفِّي الدَّمْعَ هذا واصمدي ، إنَّمَا العُمْرُ مَضَى...
كنتُ فِي المَاضي أحِنُّ إلى البَقَا ،

وأُسَلِّي النفسَ وَسْط الصَّحبِ لا ألقَى عَنَا...
كنتُ أتركُ مَنْ أساءَ ولمْ يكُنْ مُترفِقَا...

كُنتُ أحيا للجميع كشَمْعَةٍ تَهْوَى السَّنَا ،
وأزخرفُ الظِلَّ الظليلَ على جِدار شِبيبَتِي ،

وأعطرُ الذكرى بمِسْكِ المُلْتقى
كانَ حبي للحياة مُتوجًا بترفُعي...

فأرى الجميعَ بكل نفسٍ راضية...
وأُحِبُ في دنيا الأنام جمَالَها ،

وأمتعُ العينَ ، وأشدو للحَياة...
---------------------------------------------------------------------

إنَّ نَجْمَ العُمْر صَعْبُ المُرْتَقَى...
فَلِذَا آثرتُ سُكْنَى خَيْمَتِي...

بعد أنْ عَزَّ اللِّقَا...
كيفَ يا قلبي الذبيحُ تَحَوَّلَتْ بِكَ هِمَّتِي

أصبحتُ كَمًّا مُهْمَلا
وعلى جبين الحُرِّ تنفعلُ الكآبةُ والبُكَا...

يا نفسُ هلْ لك مَوئِلٌ؟
قولي: وهل لك فِي الرزايا صَدْرُ خِلٍّ لَيْسَ يَخْذُلُ مَنْ أَحَبْ؟

آهِ مَا أقسَى جوابَك عبرَ هالاتِ الشَّقَا...
يا نفسُ ماضِي العُمْرِ ولَّى ، فاصْمُدِي...

كنتِ خيرَ النَّاسِ حَزْمًا وإباء واحتمالاً ومَضَا ،
فإذا بالحَزْم ولَّى ، وإذا بالعَزْمِ أرداه الأَسَى ،

وإذا بالكهْفِ ضاقتْ سَاحَتُهْ ،
وَإذَا بالكَون أَمسى ظُلَّمَا ،

وإذا بالكوخ أضحى أضيَقَا ،
وإذا بالكيد أودَى بالصِّحَاب وبالرَّخَا ،

وإذا بالحُزن يَبني قلعةً فِي مُهْجَتَي ،
وإذا الحَاضرُ سيفٌ ليسَ يَرحمُ بَائسًا ومُضَيَّقَا ،

وإذا بالصَّحْب آسادٌ تُمزِّقُني بدونِ هَوادةٍ ،
وإذا بالجُرحِ أمْسَى أعْمَقَا....

أيُّها المَاضِي رَحَلْتَ ، فهلْ تَرى لك عَوْدَةٌ؟
أمْ قد فَقَدتَ ببحر حُزني المَرْفَأ؟

اسْبَحْ إليَّ إذا عَدِمْتَ الزَورقَا...
ابحثْ فدتْكَ الروحُ عَنِّي تَلْقَنِي

في مَأزقٍ صَعْبٍ يُدمرُني ، ويُرسلُ في الدَّياجي مَأْزقَا...
أبدًا تُداهمُني الخطوبُ ، وليس يَسمعُني الوَرى ،

وكأنني «رُخٌّ» بأيدي مَنْ طَغَى
يَترفع الشِّطْرنجُ عنْ تجريحِ مَنْ قد أسلَمُوا...

لكنِ الصَّخْرُ الذي في قلب خِلِّي ليْسَ يَسمعُ صَرْخَتِي...
يَتقاسمُ الأصحابُ عِرضِي في الوَرَى

وعديمُ الوُدِّ منهم قد أبادَ البَيْدَقَا...
ثمَّ أقبلَ مِنْ جَحِيم الَّليلِ يلبَسُ خُوذَةً ،

وتَوارَى فِي نِفاقٍ باهِتٍ...
ثمَّ بَاغَتَنِي بضربةِ غادرٍ ، واستباحَ الفَيْلَقَا ،

ثمَّ مِنْ غِلٍّ يُقطِّعُ قلبَه
حَطَّمَ النُّورَ الزكيَّ المُشْرِقَا ،

وأزالَ العَزْمَ ، واجتَثَّ الضِّيَا...
آهِ مِنْ حِرْباءَ تُظْهِرُ حُبَّنَا

ثمَّ تُضمِرُ في سُويداء الفؤاد لهيبَها المُتَحَرِّقَا....
إيه يا دنيا فغري غيرنا

نحن أدركنا في الدياجي سَيرَنا
-------------------------------------------------------------------

وقطارُ الرحمة أركبُه ، بعدَ الفجْرِ إلىَ الكُلِّيَّة...
وله مَرْأًى عذبٌ عذبْ...

فالأقوامُ كمِثْلِ السِّربْ...
وأقابلُ رُفَقَاءَ الدَّربْ...

مِشْوارُ حياةٍ مُزدهرٌ ، يَذْهَبُ في مَسْرَدِهَا الكَرب...
وكفاحٌ لا يخبو أبدًا ، مِثلُ النَّجمْ....

والعُمْرُ على هَامِش دربي....
يَهْزأُ بالمَلهَاة الكُبْرَى

لا يَعرفُ أبْعَادَ الخَطب...
عشْرةُ أعوامٍ يا قَومِي:

أدرسُ فيها لُغَة الغَرب...
وتعلَّمتُ حَيَاة الجِّدْ...

كمْ أغرتْنِي فِتَنُ الدُّنْيَا...
وتحداني فيها الرَّيبْ...

بيْنَ ذَواتِ الكَعْبِ العَالي...
وكِعَابٍ أَتقَنَّ فُنُونَ العُجبْ...

بِعْنَ الدِّينَ ، وبعْنَ التَّقْوَى ،
وتعلمْن ضُروبَ الحُبْ ،

وأسرْنَ العَزْمَة واللُّبْ...
هنَّ نِتَاجُ البِيئَةِ هَذي...

يومَ تخلَّى عَنْ تربيةِ البِنْتِ الأَب ،
قدَّمَها في سُوق الهَزْلِ نظيرَ دراهمَ مَعْدُوداتْ...

والمجتمعُ الغارقُ في آبارِ الذَنبْ...
والكُبَراءُ ومعبوداتٌ شَتَّى ، عُبِدَتْ في سَاحَاتِ العُريْ...

يومَ تنازلَ عَنْ توجيه فتاةِ الجيلِ شُيوخُ العِلم...
يومَ امتلأتْ بالعفن الفنيِّ دماغُ فتاةِ الجيلْ...

عجبًا: كيفَ يُباعُ العِرضُ ليُمْلأَ بالأموالِ الجيبْ...
--------------------------------------------------------------------

ونَصحتُ كثيرًا ، لكِني لمْ يُسمعْ لِي...
قيلَ تكلَّمْ سَنةً ، لنْ تلقَى مَنْ يَسْمَعُ لكْ...

كانَ نذيري يَملأُ نفسي ، لكني آثرتُ الصَّمتْ...
قلتُ لنفسي: كُفِّي هذا ، وتخلِّي عَنْ نُصْحِ الرَّكبْ...

فالمَوْجَةُ عارمةٌ تلفَحُ مَنْ يَقتربُ ويدنو...
إنِّي أزعمُ أنَّ دمارًا سَوفَ يُزيلُ الفتنةَ هَذِي...

لكِنْ ، في طيَّاتِ الغَيبْ...
سُنَنٌ لا تتخَلَّفُ أبدًا ، تأخذُ مَنْ أَفْسَدَ بالغَصْبْ...

تَنصِبُ ميزانًا للخَلقْ...
وتُحاسبُهم: فردًا فردا...

عشتُ الأربعةَ مِنَ الأعوام ، وسِرْتُ بقلبٍ عَطبْ...
وضَعَتْ كارثةُ الآثام بقلبي رِيحَ الحَربْ...

ومَشيْتُ ، وكُلِّي ذَنبْ...
وتجندلَ عبرَ صِراع القِيَم الأَرجُ العَذبْ...

وتحطَّمَ في آماد الوَهْم العُمْرُ الرَّطبْ...
وغزا قلبي رغمَ صِبَاهُ الشَّيبْ...

وصَدقْتُ ، وغيري أتقَنَ فَنَّ الكِذبْ...
سَمَّنْتُ ضُروعًا مُلِئَتْ بالأخلاقِ العُلْيَا...

ثمَّ لغَيْري طَابَ الحَلبْ...
وأُريقَ دمي في طُرقاتِ الكَيدْ...

وحَلا للسَّافِكِ دمِّي النَّدبْ...
عجبًا: كيفَ يموتُ الليثُ ، ويَعلو في دُنيانا الضَّب؟...

-----------------------------------------------------------------------
وتَذكَرتُ هِوَايَةَ صَيْدي ، بعدَ العَصْرِ ، وحتى اللَّيلْ...

ومعي الوالدُ ، آخذُ شِصِّي ، أجلسُ فوق جُذوعِ السَّروْ...
أضعُ الطُّعْمَ ، وآخذ في تَسليَةِ النَّفسْ....

فإذا وُضعَ الشِّصُ بماءِ التُّرعَةِ قالتْ شَفَتِي: باسمِ الله...
أوقاتٌ كان رَفِيقَ النفسِ عَلى هَامَتِها الشَّدْوْ...

فإذا اصطادَ الشصُّ تعَالىَ ، أخذ الشِّصَّ الزَهوْ...
وأفقْتُ ، فلا يأخذُني السَّهوْ...

فإذا ذكرتْ شَفَتِي عِرضَ أُناسٍ ، قالَ الوالدُ: هذا لَغوْ...
فإذا اصطادتْ شِصُّ الوالد ، أخفى ما أعطاهُ المَوْلَى...

كانَ يخافُ العَين ، فيرى أنَّ العَيْنَ تُعكِّرُ صفْوَ العُمرْ...
وتُعكِّر نَظَرَ العِين ْ، وتُعكِّرُ كلَّ صَفَاءِ الجَوْ...

بلْ واللهِ تُعكِّر حتى صَوْتَ الصَّفوْ...
بلْ وتُبدِّدُ ما أُعطِينا ، لا نَضْمَنُ مَعَها النَّجوْ...

وشربْتُ صغيرًا مِنْ أخلاقِ الوَالِدِ كُلَّ طِباعِ البَدوْ...
ونَهَلْتُ مَعينَ الحَفوْ...

عَلَّمني الجِّدَّ إباءُ أبِي ، جَنَّبَنِي فِي العَزَمَاتِ الَّلهوْ...
فنشأتُ عِصَامِيًّا صَلْدا...

حتى لو كنتُ بعيدًا عَنْ راحلتي ، عَنْ أَغنامي ،
عنْ أرض الرَّعْيِّ ، وعن رُمْحي والدَّلوْ...

وأخذتُ الهَدْيَ بما أُوتيَ عَقلي مِنْ قُوة....
لمْ أعرفْ طبعَ الأنثى أبدا...

وعلى أقراني كنتُ الأولَ دَومًا ، ما كانَ لغَيري الشَّأو...
وأُحبُ الفَرَسَ وصوتَ الخَيلِ ، وإنْ لمْ أغْزُ...

لكن نفسي أبدًا لَهفَى...
وتُحدث قلبي بالغَزو....

هلْ ذاكرةُ الشعر تُخبِّئُ هَذا...
وجواب سؤالي هذا: إِي ، لا غَرو...

لكنِّي لا أحفظُ شِعْرِي ،
أَجْهَدُ فيهِ ، وأُعطرُهُ ، وأهندِسُهُ ، وأرتِّبُهُ ،

وأنمقُهُ ، وأزخرفُهُ ، لكنْ أبدًا لا أحفظُهُ.....
------------------------------------------------------------------

وذكرتُ طفولةَ مَنْ يَنتقمُ مِنَ الحيوان ، بِغَيْرِ هَوادَة....
والنفسُ العُدوانيَّةُ فيه تُثيرُ الضِّحْكَة....

صاحبُنا يَذْبَحُ قطًّا ،
أو يقتُل طيرًا، يَنْسِجُ حَبْكَة...

أو يَرمي فوق مياه النهرِ الشَّبَكَة....
يَصطادُ كثيرًا مِنْ أسْمَاك النَّهر...

يرمي الأسماكَ سريعًا ، واحدةً تِلْوَ الأخْرَى...
تبقَى في جَعبته سَمَكة...

يَأخُذها ليُقطِّعَها بالسِّكِّين...
أو يَضربُ كَلبًا يَتعقبُهُ...

يضعُ الأغلالَ بأرجُلِهِ ، ويُمزقُه في الأحشاءِ بشَوْكة...
أو يُوقِدُ نارًا ليُحرِّقَهُ ، ثمَّ يقومُ بدفْنِ الفَحمْ...

ويُكبِّرُ أربعَ مِثْلَ إِمَام الحَيِّ...
أو يَشنُقُه حيًّا بالأحبالِ ، ويَضربُ بالكُرباج الجُثَّة...

أو يَقطعُ مِنْهُ الَّلحْمَ الزائدَ في أعضاءِ الجِسم...
عَجَبًا: كَيفَ يُنظِّمُ هذي الحَبْكَة؟

عجبًا ، عجبًا ، طِفْلٌ يَفعَلُ هَذا؟
عجبًا ، طِفلٌ فِي رقَّتِهِ مِثْلُ الزهرةِ يَفعلُ هذا؟

يجري خلفَ البَطَّةْ ، يَقذفُها بالحجر البَاغِي...
فإذا مَا جُرحِتْ عَالجَهَا ، وإذا ما كُسِرَتْ طبَّبَها...

وإذا سَلِمَتْ مِن ضَرْبَتِه ، نادَى رُفقاءَ جَريمَتهِ...
وزَّعَهُم بجهاتٍ شَتَّى ، أعطاهُم أحْجَارَ الخُطَّة...

وجَرَى خلف البَطَّة...
فإذا مَا مَاتَت غَسَّلَهَا...

ثمَّ غَشَتْهُ التَّقْوى فَوْرًا...
فيُكَفِّنُها ، ويُلَحِّدُهَا...

وإذا كانَ لديهِ ضَحَايَا أُخرَى...
ألقَى البَطَّةَ فوْقَ السِّكَة...

أو أسْكَنَهَا جَوْفَ البِرْكَة...
عجبًا: طِفلٌ مِثْلُ الوردةِ يَفعَلُ هَذا؟

يَمضُغُ عَيْنَ البَطَّةِ مِثْلَ العِلْكَة....
لوْ لمْ أفعلْ هذا ، ما صَدَّقْتُ ، ولو في الرُّؤْيَا...

حتى لو قالوا: يَحْدُثُ هذا في الأحلامِ لقالتْ عينِي كُفُّوا...
هذي حقًّا بِئْسَ الإِفْكَة.....

----------------------------------------------------------------------
رمضانُ الماضي مَرَّ ، وعيني في آفاق الكَربْ...

وصيامُ بقيةِ شَهْري كانَ مَعَ الأحزانْ
وأتى رَمضانُ القادمُ مِنْ طيَّاتِ الغَيبْ...

لكن واأسَفَى مَا زالَ العَيبْ...
لم تذهبْ آلامي أبدًا ، لكن ذهبَتْ عيني...

ورأيتُ الدنيا: نِصفًا فِي غيَّابَة جُبْ...
أقصِدُ في واحةِ ماءٍ تبكي الدنيا...

والنصْفُ الآخرُ مُحترِقُ الأحشَاءْ...
يا ويحَ العينِ مَضَتْ مِنْ غيْر مَضَاءْ...

والقلبُ الدامعُ رغمَ الأُلفَة هذي يَبكي...
يا ماضِيْ العُمْرِ تمَهَّل ، ارحلْ ، دَعْنِي وحْدي...

دَعْني في الدَّمْعَة وحْدي...
دعني لكروبي وحدي...

إنَّ الرحمَنَ مُعَوِّضُني...
وأنا أطمَعُ في (جَنَّاتٍ عند المولى ، كم فيها أنهار تَجْرِي...)

ولِذَا يَا شِعْرُ فإنِّي أبْذلُ صَبْرِي...
وأسَلِّمُ للمَوْلَى أمْرِي...

-------------------------------------------------------------------------
ما كُنْتُ أُريدُ خِتامَ قصيدِي هَذا بِالأَحْزَانْ...

لكنِّي دومًا أَصْدُقُ فِي شِعْري...
ومَصيري هذا مِنْ تجربتي ، أَجْرَعُهُ وحْدي...

أحْزانُ الغُربة هذي لحْدي...
مَطبوعٌ فيهَا مُنذُ المَهْدِ...

عفوًا يا عِطْرَ الشِّعرِ فَذَا مِنْ سُهْدِي....
عُذرًا يا عَيْنُ وعفوًا: أنتِ قَضيتِ علَى تَرنيمَةِ عُمْرِي...

قَدرُ المَوْلى لا تلتاعي سوفَ نُعوَّضُ يا آنسَتِي ...
قدرُ اللهِ ، وإنِّي راضٍ ، وأُسلِّمُ أمْرِي...

لكنْ حُزْنٌ داهَمَ قلبي ، ثمَّ عذابٌ حَطَّمَ قَلَمِي...
غلَبَ الحُزْنُ مِدَادَ القلمِ...

رفعَ الكربُ لِواءً مِثْلَ العَلَمِ...
والناسُ سرابٌ حوْلي....

والشعرُ يُعاني مِنِّي....
والأوزانُ تُعاني مِنْ أفكارٍ تَذْبَحُ قلمي...

يا تيَّارَ الوَهْم ، ويا ميعادَ شُجُونِي...
هذا قدَرَي ، مِمَّا كسبَتْ يدُ مَحْزُونٍ في دنيا الخَلقْ....

--------------------------------------------------------------------
يا هذا الشِّعْرُ الحُرُّ ، إليْكَ وَداعِي...

قد كانت هذي أولَّ مَرَّة....
وأكررُ ثانية: هذي كانتْ أولَ مَرَّة...

وأراهَا آخرَ مَرَّة....
بَرئتْ مِنْكَ دواتِي الخَجْلَى

بَرئتْ مِنكَ يَرَاعَةُ شِعْرِي...
برئتْ مِنْكَ شُمُوعُ الأَملِ الدامع عِنْدَ بُزوغ الفَجْرِ...

برئت مِن أوزانكَ هذي إيقاعاتي وقتَ السَحَرِ...
برئت منكَ شَكاتي النشوَى عند العَصْرِ...

آخِرُ يومٍ أكتبُ فيه الشِّعْرَ الحُرْ...
وكذلك آخرُ دَمْعٍ أبذُلُهُ بالشِّعرِ الحُرِ...

ودمي لنْ أكتبَهُ صدقًا بالشِّعر الحرِ...
إنِّ الشِّعرَ الحقَ بَريءٌ مِنْ لاشِعْرِي هذا...

عُذرًا ، يا عنترة الشِّعرِ ، ويا مُتنبي...
فالعينُ الحَرَّى تلكَ رِدَائِي...

لا تسألْنِي يا عنترةَ الشعرِ هُنا عَنْ ذَنْبي...
وأعودُ إلى الأشعارِ أُكرِّرُ أسَفِي ، وكذاكَ أُكرِّرُ عُذْري...

وخِتامًا يا شعرُ إليكَ شَكَاتِي ، وتَحِيَّاتِي...
صَدِّقْني ، كانتْ هَذي يومًا زَلَّة...

لنْ يُصْبِحَ شِعْرِي مُثْلَة...
لنْ أسمحَ أبدًا بكتابةِ شِعْرِ الذِّلَّة...

لنْ أتمادَى في سِرداب الشِّعْر الحُر...
وسَوْفَ أُطِلُّ على نافذةِ الشِّعْرِ العَرِبي...

وسأحْيَا أُنْشِدُ شِعْرَ العَرَبِ....... مهما كاد قساة القلب ومنعوا شعري....
وحفيدٌ من أحفادي سيغني شعري...

وسينشره في طبعات شتى.....
ويحققه وينقحه ويبين للناس المعنى....

وسيشرح كل غوامضه....
وأنا منتظرٌ في قبري....

وأقدِّم للجهبذ شكري....
أني لم أستصحب بعد وفاتي شعري...

لم يدفن في لحدي شعري....
هذا يكفيني يا قومي...

وإلى اللقيا يوم النشر.....
© 2024 - موقع الشعر