قراءة في أوراق الماضي 4 - أحمد علي سليمان

(شَايْلُوكُ) بِيدِهِ السِّكِينْ...
ويُريدُ اللحم لينهشهُ

وكذلك (فِرعَونُ) الطاغِي...
يعدُو خلْفَ سَرابِ الوَهمْ...

وأراهُ بكل بِطانتِهِ ، يَنفخُ أعفانًا في المَسْرَى...
ويُعربدُ في الأرض ويلهو...

ويَؤزُّ بدعواهُ المَلأَ...
وأرى (قارونَ) يُؤيدُهُ...

أمَّا (هَامَانُ) وفرقتُهُ ، فإِلَى الإِنسانيِّةِ يدعُو...
وبآلام العَجَزَةِ يلهو....

وعلى أنَّات الضَعَفَةِ عَزَفَتْ فِرقَةُ هَامَانَ
اللحْنَ العُذْريَّ طويلا...

وعلى أشلاء القتلى ، وعلى الأكبَاد الحَرَّى
يَقْعُدُ هَامَانُ ويخطُو...

أإلى هذا الحَدِّ وصلْنَا؟
وإلى هذا الدَرْك نَزَلْنا؟

سَلِّمْ يَا ربِّ مِنَ الشيطان ومِنْ عُبَّادِ ضَلالَتِهِ.....
----------------------------------------------------------------------

والمَاضي الحَاضرُ يَقْطفُ مِنْ أزهارِ الخَوف...
فعَلَى الخوفِ نَبيتُ ونصْحُو...

وعَلى الخوفِ نمُوتُ ونحْيَا...
لمْ نخشَ الله ولمْ نتَّقِهِ...

ولذا خِفْنَا كُلَّ النَّاس...
تركيبةُ هذا الخوفِ تُخالِطُ دَمَنا وترائِبَنا...

والخوفُ يُعَرْبدُ في الأذهان بكُل سَبيلْ...
وَالْخوفُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ أَبِيهِ

والخوفُ يُفَرِّقُ بين الأبّ وبنيه...
والخوفُ يُفرِّقُ بين الأخ وأخيه....

تعِسَ الخوفُ وتَعِسَ الخائفُ ماذا بَعد...
جاءَ الإنسانُ إلى دُنيانا هَذي مَرَّة...

ولسوفَ يُفارقُ هذي الدُّنيا أيضًا مَرَّة....
فِيمَ الخَوْفُ؟ لمَاذا لا ينتحِرُ الخَوف؟

------------------------------------------------------------------------
واللغةُ العربيةُ تَصرخُ فينا: أينَ جَمالُ الحَرف؟

كيف تركتُم عربيتكم؟ كيف سَخِرْتم مِنْ أحرُفِهَا؟
كيف هَتَكتمُ عَفْويَّتها؟ كيفَ طَعنْتُم عربيتَكم؟

كيف قبلتُم هذا الضَعفْ؟
كيف تركتُم لُغَةَ (جريرٍ) و(المُتَنَبِّي)؟

و(الخَنْسَاءِ)؟ وكيفَ طواكُم هذا الخَسف؟
كيف رضِيتُم غيرَ لِسان العَرَبِ الفُصْحَى؟

كيف تنكرتُم للنَحْو العَربيِّ العَذبْ؟
كيف هَجَرتُم كُلَّ عَروض الشِّعر؟

كيف نَهَرْتُم كُلَّ بَريءٍ دَافَعَ عَنْهَا؟
كيف ذبحتُم كلَّ لِسَانٍ فَذٍّ فَحْلٍ؟ كَيفْ؟

بل كيف محقْتُم حَنفيَّتكم ، وشربتُم دَمَ (أصحابِ الكَهفْ)؟
كيف تخليْتُم يا قومي عن عِزتكم؟

كيف تركتُم ظِلَّ الرُّمْح ، وَحَدَّ السَّيفْ؟
يومَ تركتُم حنفيتكمْ فلمَاذا لم يَبْقَ العُرفْ؟

دمعي في الفَلَوَات تَحَدَّرَ رغمَ الأنفْ...
وأنا اللغةُ العَزْلَى أبَدًا....

ودمي فِي أورِدَتِي جَفْ.......
وأحاول جاهدة أن أنصحكم

وأحاول أن أبعد عنكم كل ركيك لأعالجكم
وأحاول أن أرشدكم

-----------------------------------------------------------------------
أَتَذكرُ مِنْ صَفَحاتِ الماضي الذابلِ هذا الطِّفل...

لحَظاتُ العُمْر الراحل تحتَ تُراب الأرض....
والأملُ المُتحشْرجُ أبدًا في شُريان الكَون...

وأسائلُ نفسي ، كيف يَضيعُ الأصلْ؟
قد كُنتُ على فِطْرةِ ربِّي...

وحياتي في زَورقها تسعَى.....
وأنا أحيا وسْط الصَّحْب ، ووسْطَ الخَلقْ....

وكذلكَ أحْيا بيْنَ الأهلْ....
أستمتعُ بجمال الظِّلِ ، وأشْدو...

وأُداعِبُ في القَريةِ صَحْبِي.......
وأعُودُ إلى بيْت الأُسْرَة أَعدو ،

إنْ حانتْ سَاعَاتُ الأكلْ ،
أو فاجَأني عَبْرَ اللعِبِ اللَّيلْ....

حتى في مَدرستي ألهُو ،
وأُحدِّثُ كُلَّ أساتذتي ،

لا أخشى بَأسَ وظيفتهمْ ، أو حتى حَجْمَ عُقوبتِهم....
والأدبُ الجَمُّ رفيقي في التعبيرِ ، وفي التفسِير...

فأُعَبِّرُ عن نفسي دومًا فِي حُريَّة....
وأُودِّعُ كل لهيب الخَوْف الصامت مثْل الوَثَنِ على حَنْجَرتي....

وأوضِّحُ رأيي في جُرْأَة...
حتى إنْ كلَّفَنِي ذلك رُوحِي....

فأَحَبَّ أساتذتي كُلَّ كلامي ، وتَعَابيري...
عَلَّمنِي ذلك (عَرِّيفُ القريةِ) ثُمَّ (أبِي)...

ولقد أشقتْنِي تجربتي هذي جدًّا...
كنتُ أُقابلُ في مَفْخرة أصحابَ أبي ،

كُنتُ أُحدِّثُهم عَنْ نفسي...
كانَ الواحد منهم يَفْرحُ أني في استقبال فَضيلته....

كان أَبي يَفتخرُ بقوة عَزْمي عند نُزول الضيفْ...
مثْلي فِيما أفعلُ مِثلُ جميع الطِّفلْ...

سِتُ سنينٍ مَرَّتْ مِنْ أيام العُمْر الواجمِ تَجْري...
وأنا خلف سِنِي العُمْر الثائر أجْري...

هل كنتُ أظنُّ بأنِي يومًا سَوْفَ أُسابقُ عُمري؟
لكنْ أقدامُ العُمْرِ الراحلِ ليْسَتْ تَعْرِفُ «هَلْ».....

----------------------------------------------------------------------
أَتذكرُ مِنْ أيَّام العُمْرِ الذاهبِ يومًا لَيْسَ يُفارِقُ عيني...

يومَ كتبْتُ الشِّعرَ أُعبِّرُ عنْ آلامِي ،
عنْ تجربتي ، وأعبِّرُ عن أيام حياتي....

وتعَسَّرَ شِعري بينَ أنامِلِ قلمِي...
وتعالتْ صَيْحةُ دمعي ، يا ويحَ الدمع...

وبُحورُ الشعر تُعرقلُ كل جوادٍ ، ليسَ يُجِيدُ الشِّعر...
ولهَا أخذٌ بالألبَابِ شَديدُ الوَقع....

يُلْهبُ ظَهْرَ غَليظِ الطَّبع...
إنَّ الشِّعْر رَهيبُ الفَحْوَى...

أخشى مِن رهبتِه يومًا أنْ يَنتحرَ النَّبعْ...
وأُفتشُ فِي أرْوِقة الشعرِ عَنِ الخِلاَّن...

وأفتشُ في رحم الكلماتِ النَّشْوى...
لا ألقى شِعرًا ، أو أدبا...

وكتبتُ شُعوري شِعْرا...
حتى طالعْتُ عروضَ الشِّعر....

ذهبَ الظمَأ ، وأفطرَ قلمي ، وانقَشَعَ الرَّوع...
وكتبْتُ كثيرًا ، وكثيرا....

وسَمِعْتُ نصائحَ أستاذي...
فقرأتُ كثيرًا جدًّا ، ثم قرأت...

وزرعتُ الشِّعْرَ بأرض الشعرِ...
فأثمَرَ في تجربتي الحَرَّى كُلَّ الزَّرع...

--------------------------------------------------------------------
حتى كانَ الحادثُ هذا ، فتحديْتُ جميع الشِّعر...

قلتُ: يَمينًا أكتُبُ في تعْزِيَةِ العَين...
وعلى كل بحور الشعر كتبْتُ شُعوري ، بلْ والدَّمع...

كانت هذي أولَ مَرَّة ، وكذلكَ هِي آخرُ مَرَّة...
أولُ مَرة: أكتبُ فيها شعرَ النثرِ ، ونثرَ الشِّعر...

وأقدِّم أسَفِي للشُّعراءِ وللأشعارِ...
ويكفي هذا مِن أوراق الماضي الضارب في طَيَّاتِ العُمْر...

وكذلك في طيَّات القلبِ ، وجَوْفِ الصَّدْر....
يكفي ما قدمتُ من الأشعار لمن يقرأها

يكفي أنْ كانت أشعاري ترجمة لسني العمْر
----------------------------------------------------------------------

وتذكرتُ حَياةَ المعهدِ ، في بَلَدٍ تُشبِهُ قَريتنا...
حيثُ نشاطٌ يملأ كل الجوِّ عبِيرا...

وتلاميذي هُمْ أصحابي ، وأحبائي...
فلهُم كنْتُ «أبَشُّ» كثيرا ،

ولخاطِرهم أملأ أرضَ الفَصْلِ حَرِيرا...
ويُحبون لقائِي دومًا...

وإذا قُلتُ: اسْتمِعُوا ، اسْتمَعُوا...
ورأيتُ الجَوَّ هنَاك يصيخُ الأُذنَا...

ورأيتُ كذاكَ الصَّمْتَ وفِيرا...
يا أولادَ المَعْهَدِ كُنتم زادًا للمستقبلِ أبَدا.....

زادًا لَسْتُ أراهُ يَسِيرا...
كنتُ أُعَطِّركُم تَعطِيرا...

كنتُ أراكُم أفضلَ ما في (المَعْهَدِ) حَقَّا...
أسمَى مَا فِي (المَعْهَدِ) أنتَم صِدْقَا ...

أطْيَبُ قومٍ أنتُم عِرْقَا....
كنتُ أراكم رغمَ ضغُوطِ الواقع هذا عُدةَ مُسْتَقْبلِنَا الحَالِكْ

وصناديدَ الفِكر ، بكم تتحرَّرُ كلُّ عُقولِ النَّاس...
وجَهابذةَ الأدب القاطِع أرضًا نَحْوَ البَأسْ...

ورياحينَ الأرض الظمْأى...
كنتُ أراكم رغمَ تَحَدِّي الدنيا فَوْقَ الرَّأس...

كنتُ أُرسِّخُ في أذهان كثير منكم أنَّا أَسْرَى....
وكذا الدارُ سليبةُ مَنْ نهبوها ، فِي غَفْلتنا...

في غَفلة أجدادٍ أيضًا كانوا يَنْتَسِبُون إلينا...
فَوَرِثْنَا الرَّايةَ في قِيعان الأرضِ عليها العَار...

وشربْنا الذلَّ كُئوسًا مَلأى ، وكذاك شَرِبْنا النار...
رقصَ الشيطانُ أمام الكل ، فقالَ الجيلُ السابقُ: يا مَولانا...

والآن سنبذلُ دَمنا يا أولادي في إرْجَاع الحقِّ الضائِع مِنَّا...
ماذا قلتُم؟ فأجابوني: نحنُ وراءك يا هادِينا...

كنتُ أراكم يا أولادي ، وعليكُم هَالةُ أنْوَار...
كنتُ أرى شعلتَكم أزهى مِن جَوْهَرةِ المَاس...

وبَذلتُ لكم تجربتي والخِبراتِ الجَمَّة...
وبَذلتُ إبائي ، والإحسَاس...

ورجوتُ اللهَ يُباركُ فيكم ، يَجْعَلكم ربي فِي القِمَّة...
يجعلُ كلَّ غُلامٍ منكم لجميع الخلق النِّبْرَاس...

كان الخوفُ وبَاءً فيكم يُعدي...
فزرعتُ مكانَ الخوفِ القاتلِ جُرأة...

وغرستُ شجاعةَ نفسٍ تَسْحَقُ ذلَّ الجُبن...
دَوَّنْتُ العِزَّةَ فوقَ جبينِ الواحدِ منكم...

ثَمَّ بَذَرْتُ شُموخِي فِي القِرطَاس...
وحَرثْتُ الأرضَ مِرارًا ، وبلا مِقْيَاس...

لأُسجِّلَ في دِيوان الواحدِ منكم حُبَّ الحَق....
وكُرْهَ الباطلِ ، صارَ الواحدُ منكم صَلبًا كالمِتْرَاس...

غيرِي كانَ يُرسِّخُ حبَّ عِبادةِ غَيْرِ الله...
ومحبةِ ظِلِّ قُبور المَوْتى...

والنُّسكَ لغير اللهِ المَوْلَى...
وكذا دعوةَ غيرِ المَوْلى...

غَيرِي كانَ يُؤصلُ حُبَّ المَوْلِدِ ، والأَوراد...
كان يُروِّجُ في الأولاد لحُبِّ البدعَة...

وكذا يدعو للأورادِ الشيطانيَّة...
بلْ كانَ يُمهِّدُ للدَّجَال الأَعْوَر، يا للجَهل...

وحدي كنتُ أُحطِّمُ كلَّ أباطيل الصَّرْعَى...
ودعاوى الباطلِ هذي بالفَاس....

ويَئِسْتُ مِنَ الإصْلاح...
مِسكينٌ قلمي هَذا ، مَوءودٌ قَلْبي هَذا...

يَطلبُ ماءً فِي النارْ ، يَغْسِلُ بالحق وجوهًا جللها العَارْ...
فتَركْتُ المعهدَ ، والأولادَ جميعًا لمَّا حطَّمني اليَاس...

وفررتُ بديني ، مِنْ شَيْطانٍ يَتعقبُنِي...
----------------------------------------------------------------------

وتَذكرتُ السُّوقَ يُجاورُ في قريتنا بَيْتِي...
وأنا أقصدُ سُوقَ القرية ، أبغي زادَ الدُّنيا...

زادُ الدنيا سَبَبُ شَقَاءِ الإنسَانيَّة...
دخَلَ الشيطانُ لآدمَ يا نفسي مِنْ هذا البَاب...

أغراهُ بأكل ثِمارِ الشَّجَرة...
وَسْوَسَ فِي إغراءٍ فَوْري...

وتظاهرَ بالنُّصحِ ، وقال نصحتْ...
قاتلَ ربُّ النَّاس النُّصْحْ...

أحدثَ هذا النُّصْحُ جراحًا شَتَّى...
كانت جُرحًا يسعى خلفَ ظِلالِ الجُرحْ...

والإِبْلِيسُ عليْهِ اللعْنَة...
أمْسَكَ فِي الأزمةِ بالرُّمحْ...

أحدَثَ في دُنيانا البَلْوى...
واستعبَدَ أجناسًا شَتَّى...

وتمادَى في كيْل المَدحْ...
زادُ الدنيا كانَ السَبَبا...

وكذا الدنيا كانت سَبَبا...
سَبباً في تَخميشِ القَرحْ...

سُوقٌ هذي الدنيا حقَّا...
يُشبهُ في منظرهِ سُوقَ القريةِ مثلَ الصَّرح...

أذهَبُ سوقَ القرية وحْدي...
آخذُ مِنْ إنتَاجِ الأرض...

ثمَّ على الدراجة أعدو ، أقطعُ أرضًا حتى البَيت...
ذكرى سُوق القرية هذي في أخيِلَتي مثل الصُّبح...

-----------------------------------------------------------------------
وتذكرتُ البحرَ بمَهْبِطِ رأسِي...

وكأني أخطِفُ مِنْ ذاكرة البحرِ الموج....
حتى ليَكادَ بريقُ الرمل على سَاحِلِهِ يطفو...

ويداعبُ كلَّ صخورٍ تاهتْ قد ألقاها البَحر...
يا ليت البحرَ تمادى في تدليلِ الصَّخر..

لكَأنَّ البحرَ جوادٌ ، والأحجار السَّرْجْ...
يندمجُ البحرُ بقلب الصَّخر...

ما أحلى ذاكَ الدَّمجْ...
والماضي الماثلُ فوقَ رَمَادِ التَّلْ...

ينسابُ قتيلاً في هَمَزات خريرِ المَاءْ...
يأتي الإعْصَار يُضمِّخُهُ بدماء الثَّلجْ...

وأقابلُ عند البحر عشِيقًا ألجمه العِشقْ...
ملاَّحٌ تاهَ ببحر التِّيه ، وأغْمَدَ سيفَ هَواه....

أشمتَ فيه نُسُورَ البَحرْ...
أشمتَ فيه كذلك كلَّ ذِئاب البَحرْ...

وغشى المَلاحَ سحابٌ يحمِلُ نُورَ الحَقْ....
فَرمَى المِجْدافَ ، وقامَ بوجهٍ طَلقْ...

وتنسَّكَ دهرًا ، ثمَّ طواهُ العُمقْ....
وانجرفَ سريعًا في تَيَّار الصِّدقْ...

وتحررَ مِنْ عَبْديَّةِ غيْر اللهِ ، وَودَّعَ غُلَّ الرِّقْ...
أدركَ حَجْمَ الفَرقْ...

---------------------------------------------------------------------
ثُمَّ تذكرَ ماضِيَ أمسٍ وَلَّى ، فتناولَ أقلامَ الشِّعرْ...

وكذلك داعبَ كل قوافي الشعر ، فبكى بالشعر الهَدْي.
وبكى بالشعر النُّورَ ، وهاجَ وأرعدَ يبكي ألمًا كُلَّ الخَلقْ...

وكذلك يبكي الحق ، وأخيرًا يبكي تِيهًا أغرَقَ أرضَ الشَّرقْ...
-----------------------------------------------------------------------

مُقْلَة الآمال آذتْنِي الجِراحْ...
وطيوفُ الشعر في قلبي غَفَتْ...

والأغاريدُ الصِّحَاحْ...
إنَّمَا الآلامُ تُزكيها تعَاوِيذُ الشِّفَاهْ...

كيفَ هذا الحزنُ في قلبي نَمَا؟
كيفَ صارَ الحُرُّ كالكَلأ المُبَاحْ؟

يَشربُ الأتراحَ مِنْ بعدِ النُّواحْ...
وتجرُّ العائداتُ إباءه وكيانَهُ ،

فيُعانِي ، ليسَ يَسمعُهُ صديقٌ أو حَبيبْ ،
ثُمَّ يبكي ، ليس يُبْصِرُهُ خليلٌ أو رَفِيقْ...

وإذا أحشاؤهُ كَلْمَى تُعانِقُها البِطَاحْ...
فيقولُ الرَمْلُ مَرْحَى بالذي

عارضَ الكُلَّ ودَوَّى كالرِّيَاحْ...
رفضَ الذُّلَّ ، ولمْ يَرْضَ الخَنَا...

مَزَّقَ الإغْرَاءَ: عمدًا والرَّخَا ،
جاءهُ المَالُ وفيرًا كالمَطَرْ ،

فرماهُ ، واعتلَى مَتْنَ الصَّلاحْ...
وعلى أحلامِهِ رَفَع اللوا:

رايةَ التوحيد ، والهَدْي الشِّريفْ
لكنَّ الرايةَ في قوم سُكَارَى

مِنْ بَريق المالِ حَاكَوا ألفَ بُهتانٍ صُراحْ ،
وكذا حاكوا مِنَ الزُّورِ البَواحْ

أَلفَ تضليلٍ يُغشي كُلَّ أَنوار الصَّباحْ
فامْشِ في الأنوار وَحْدَكَ يا صَديقِي

إنَّمَا الكلُّ ضبابٌ وسَرابٌ يا رفيقِي ...
ضيَّعَ الأجدادُ مِنْ قبلُ عُرى المجدِ العَريقِ...

وكذا الأحفادُ يَجتثونَ آمَادَ الطرِيقِ...
--------------------------------------------------------------------

مُقْلَةَ الأحلام ، مَاذا سيقولُ الناسُ عَنِّي؟
سيقولُ القومُ: إنِّي بعْتُ عَيني

لسرابِ الشِّعرِ ، والآهاتُ تمثيلٌ مُقَفَّى...
أيُّها العينُ ، هُراءٌ ما يُقالْ

وتخاريفٌ تُداجي ، وأباطيلُ يُحَليها الضلالْ
وهُراءاتٌ كعزيفِ الجنِّ أو هَزْلِ العِيَالْ...

إنَّما نُورٌ بعينٍ يتجلَّى ، ويُغنِي ،
أخذتْهُ الرِّيحُ والأهْوالُ مِنِّي...

فرثيتُ العينَ بالشعرِ
لأنَّ الشِّعرَ مِضماري وفَنِّي

وعلى جَمْر دمائي وسُهَادِي
عشتُ أيامًا يُغَطي مِنْ أسَاهَا العَجْزُ وَجْهِي ،

وأنا في الكرب وحدي....
أيها العينُ أجيبي عَنْ سُؤالِي:

ما يقولُ الناسُ طيبِّهُم وسيئهُم أيا عيناهُ عنِّي؟
إنَّ في أعماقهم سُؤلاً يُداجِي

ويُحابي ، ويُناغِي ، وأنا مِن حُسْنِ ظَنِّي
أحسَبُ الغدار منهم مِنْ صِحَابي

سيقولُ الناسُ: هل بالشعر يُشرَى كلُّ شَي؟
هلْ بهذا الشعر تَبني في دُنا الأقوام بَيْتًا؟

هل سيأكلُ مَنْ تعولُ اليومَ شِعْرا؟
هل تُغطيهم مِنَ البَرْدِ الرَّهيبِ ببيْتِ شِعر؟

هل تكيلُ المَالَ للأولاد بالوزْنِ العَروضِي؟
وصُواعُ الشعر هذا هل سَيكفي

للذي تحتاجُ زوجُكَ مِنْ رِيَاش؟
هَل ستُسْكِنُ الأَولادَ والزوجاتِ في أبياتِ شِعر؟

أيها العينُ أجيبي كلَّ هذا في وضوح ، لا تُكَنِّي:
إنَّ هذا كلَّهُ زورٌ ، وإنْ لاحَ سَنَاهْ ،

وضلالٌ وانحرافٌ كأباطيل الغُفَاة ،
أو كآثارٍ على الرَّمْل لأسرابِ الشِّيَاة...

إنَّ هذا الشرعَ أكسيرُ الحَيَاة...
عِزةٌ أنْ يَخْرُجَ ابني للحياة

ليقول لجمع الحلق نصاً محتواه: هذه الأبيات غنَّاها أبي
هذه الألحانُ ألفها بريشتِهِ ومِغْزلِهِ ومِنْجَلِهِ أبي

ذلك الإيقاعُ طرَّزهُ ونمَّقَهُ وزخرفَهُ وهذبه أبي
ثمَّ يصغي من يريد الحق غضاً للفتَى....

فيقولُ العاقِلُ المقدامُ منهم: يَرحَمُ اللهُ أَباك.....
وسيأتي غيرهُ في التوِّ مسرورًا يُهَنِّي...

إنَّني أسألُ في عِتابٍ منْ يُداجي:
مَا يُريدُ بعد هذا المجدِ في دُنياهُ شبلي؟

أيريدُ العيشَ في القَصْر المَشِيد؟
أيريدُ المالَ والعِزَّ التلِيد؟

أمْ يُريدُ الوَحْلَ في قعْرِ التَدَنِّي؟
قدْ نسَجْتُ الشِّعْرَ جِلبابًا لهُ ،

وقصيدي في المَعَالِي والسَّجَايَا صُغْتُهُ ،
كلُّ هذا المجد قدْ طرَّزتُهُ ، وكذا الإشراقُ قدْ دَبَّجْتُهُ...

بعذابي ودعائي ودُموعي ودمي نَمَّقْتُهُ...
لو أردتُ المالَ بالشعر لضاعفتُ الغِنَى ،

ولمَّا كانَ افتقاري للبرايا مَعْلَما...
إنَّ هذا الأمرَ سهلٌ هَيِّنٌ

غيرَ أنِّي عَنْ حياتي كنتُ قدْ بَاعَدْتُهُ.......
---------------------------------------------------------------------

© 2024 - موقع الشعر