صيحة الحق - أحمد فراج العجمي

راودتَ شعريَ عن بيتينِ يا مطرُ
فاسترسل الشعرُ يهمي ليس يدّخرُ

وسال منه حروفُ النّورِ يلثمها
بحرُ القصيدة تترى والهوى الخضِرُ

تنساب في مهج الفردوس ساحرةً
حيث البلابلُ والألحانُ والدّرَرُ

وساءني أنّ هذي السحبَ حاجبةٌ
عن القصيدة شمساً ما لها عُذُرُ

وكيف تسفر هذي الشمسُ عن ثقة
وكل نجمٍ نراه عندنا خمِرُ

تثاءب الكون في ليل له مددٌ
وما القصيدةُ إلا الشمسُ والقمرُ

ينوء بالحرف نخلٌ سامقٌ وذرا
إذ المعاناةُ لا يقوى بها الشجرُ

قصيدتي تتلظى والهوى خلِق
وبهجتي أفَلتْ والشوق منبتِرُ

وخضتُ في بحرها مستشرياً لجِباً
فحُطِّمَتْ منهما الألواحُ والدُّسُرُ

لا يركبُ البحرَ إلا عالمٌ أرِبٌ
بحرُ القصيدةِ عاتٍ ليس ينكسرُ

لكنما حاجة في النفس تدفعها
وربَّ ناجٍ وقاه الخوض والصَدَرُ

سوارَ كسرى كأن القوم قد حفروا
قبورَ أعدائهم لكنْ بها عثروا

البَسْ سراقةُ ذي بشرى النبيّ لكمْ
واسعدْ بفتحٍ يُقِرُّ النفسَ يا عُمَرُ

وابعث جنودك تترى في المدى عظة
لربّما خَفقتْ في روحنا العِبَرُ

يا ليت من يَبْلُغُ الأصحاب يخبرهم
أني عَمِيدٌ بحب القوم معتذر

يا خيرَ من آزروا الوحيينَ واتبعوا
وخيرَ من جاهدوا في الله وانتصروا

شغِلْتَ يا شِعرنا عن وصفهمْ أسِفا
بمحنة شرُّها في العرب مستعِر

وأبتدي قصتي مستفهماً عجباً
فينثني خجلا من سوئه الخبر

وأخطبُ النجمَ لا آلو فيرجع لي
صوتي تردده الأهوالُ والنُّذُر

ودمعةٍ من مآقي الحرف تحرقني
والدمعُ في غير ما نشتاقه هدر

يا أحرفا حبكت من عمقها قمما
يهيج ملء ثراها الغيمُ والدُّرَر

كم قد ملأتِ حياضَ المَكرُماتِ ذرا
من مجد ساداتنا والمجدُ يفتخر

إن السماءَ سماءَ العزِّ تعرفهمْ
ونبضهمْ في دويّ النصر مزدهر

هم الألى خلّفوا للنور كوكبة
على الدماء وطابت في الورى السّيَر

يا صيحة الحق في أعماق عزتنا
جل المُصاب..وفاض الويل والخطر

يا موكب النور في الآفاق تحرقه
مخالب الظلم سكرى والعلا خَمِر

هل ودّع العدلُ أرض المجد منهزما
فالكون مكتئب والحق مندحر؟

وفي مياديننا لا يستقر لنا
صبر على الصبر..لا الإيمان يستعر؟

وكل أبوابنا للبُطْل مشرعة
حتام تندبنا الآكام يا عمرُ؟

وفي طريق الكرامات التي بقيت
قد هاجتِ الريحُ والأنواءُ والنُّذُرُ؟

قلْ لي بربكَ ما أوهى ممالكَنا؟
فأصبحَتْ كالرؤى تخبو وتنحسرُ

زيتونها في حجور العدْو مُستَلَبٌ
وجَفّ من حزنه الينبوع والثمرُ

واعتادتِ العين أن تدمى مدامعها
واعتادت الرأس أن تطوى وتندثرُ

حتى الجفونُ تراخت بعد شدتها
خوفا من البرق أن يعيا به البصرُ

والعادياتُ فما تعلو حوافرُها
واسترسلت في رَغام الخيبة الغُرَرُ

كانت تهدهدُ للأبطال عزّتهم
بلحنها المُشتهى والعدْو ينهصرُ

لنا بكل مساءِ الموتِ مؤتمرٌ
وقمةٌ للسُّدى تَهذِي وتَحتضرُ

تمخّضتْ عن قرارات منمقة
تموت في مهدها.. تُطوى وتُختصَرُ

ومن ركام المدى المغبر قد رفعت
وريقة رأسها من خزي من غمروا

فأسرع اللومُ يتلوها يطيّرها
وأنصت الكون إذ لم يبق من يزر

فجلجلتْ من صدى الإغفاء خطبتهم
مضمونها الشجْب والتنديد والضجَرُ

نستاءُ..ننكرُ..لا نرضى..فليس لنا
سيف يحركه عَمْروٌ ولا عُمَرُ

على العدالةِ أوزارٌ مزخرفةٌ
وعصبةٌ من كؤوسِ الخمرِ تَبتدرُ

وثُلة الشرّ أضغانٌ وقد حَبَكتْ
من فلسفات الرّدى ما شاءتِ العُذُرُ

ورايةُ العُرْب من آثار فرقتهم
بمجلس الخوفِ مبعوثٌ بها صورُ

وما القرارُ لموءودٍ ومنهزمٍ
فخائرُ العودِ لا زَهْرٌ ولا ثمرُ

وكيف تجري دماءُ العزّ في جسدٍ
والصدر فيه شعاع الروح مُنكسر

معاجم الألسنِ اللاتي نجوّدها
تصوغ ما يشتهيه المارد الأشر

يقول من وحيها : حربٌ مقدسةٌ
فالأرض في قبضة الإرهاب تُعتصَر

ورغم كل الدِّما إنا نخلّصها
ورغم كل الدُّمى للزور نَنتصر

مفاتح الشرق ليستْ في أماكنها
هذي البلاد لنا في أمرها نظر

الأرض ملك لنا لا للعبيد فهم
وكلُّ أجناسها للغرب مُختفَر؟

نجائب المال ندري أين مولدُها
في كل قطر لنا سمعٌ لنا بصر

الجوع والحرب من أهدافنا بهما
نسود في الأرض نستعدي ونقتدر

وكل يوم لنا في الحرب أغنيةٌ
وكل عيدٍ لنا في العُرْب مُبتكَر

وكل عيد يجاري الحبلُ سَطْوتَه
حول الرّقاب لتسعى في المدى عِبَر

كل الدماء زكيات مقدّسة
والمسلمون دماهم في الورى هدَر

يا قومي الصّيْدَ إني من تشتتكم
تروعني حُجُبُ التسآلِ والفِكَر

تبكون في ضَعَةٍ ليست لها حِوَلٌ
أما لكم في مروج العزّ مُدّكر

وكل دافقةِ العينيْن مَدفنُها
قبرُ الشهيد وأيامٌ لها عِبَر

إذا رأيتمْ جروح السّلم مُثغبةً
تعللون الخنا والضعف يَبتدر

تستنجدون إذا ما اهتزّ ساعدهم
بمجلس الشرّ والأسياف تعتذر

كأن موكبَنا والحربُ مُشعَلة
ضجُّ الرحى ما لها طحن ولا أثر

كأن كوكبَنا ما صار يعرفنا
تنكّرتْ أرضُه والنجمُ والشجر

وحلّقت بالرؤى أضغاثُ أمنيةٍ
حتى استقالتْ سماءُ النور والمطر

أرواحنا جدِبتْ أرحامنا عقِمتْ
عن فاتح بطلٍ معْ أننا كثر

إذا القصورُ أقيمت بين مهجتِنا
فلن يُطاق الفضا والصوفُ والوبَر

إذا السيوف أدارت للرحى طرفاً
ندير كأسا لها من روحنا خَمَر

وجمعنا بينما أوزارهُا اشتعلت
كريشة في مهبّ الرّيحِ تندثر

ولوْحة الخوف في آفاق محنتنا
مدادها دمُنا والشّعرُ مكتدر

بغفلة من ضياء النجم قد رسمَتْ
حبلاً ومقصلةً والموت ينتشر

يا محنةً سكبتْ أوزارها غدقا
حول الرقاب لبئسَ الوِرْدُ والصَّدَر

وجَمّعَتْ من غُثاءِ السّيل ألويةً
مثل البُغاث وحَق القولُ والقدَر

النوم طال متى الإيمان يوقظنا
استيقظوا ملّ منا النومُ والكدَرُ

استيقظوا كلُّ شيء حولكم يَقِظٌ
إلا ضمائرَكم.. والسمع والبصر

وهل تقوم لنا في الكون قائمة ؟
إذا الأمان محاه اليأس والضجر

ليت الزمان يرد الكفرَ عن دمِنا
بفتية في صباحِ الكهفِ تنتظر

وليت صوتاً لنا في الرّوْح نسمعُه
يعيد صولته غضبانُ مستطِرُ

وليتنا إذ نوالي الغرب في ضعة
نمد للشرق آمالا ونشتطر

فلا يغرّك عُود طاب منظره
إن كان منبتَه القيعانُ والكُفُر

أنى نذود عن الأقصى وذا دمنا
وثَم أعراضنا لله تعتذر

في كل أفقٍ حماماتٌ مشتتة
ما ظلّ في أرضنا غصن ولا شجر؟

وحظّنا من ضياء النجم مستلَبٌ
وحظّنا في قليل الماء مكتدِر

يا مطلع النور..هل أخفت معالمنا
تلك القرونُ .. فلا دربٌ ولا أثر

طال الشتات ولا زالت فجيعتنا
بليلة ما بها نور ولا قمر

ومحفل اليتم أوجاعٌ مؤرقة
وغَصة في فؤاد الأم تنحَجر

شابتْ ذوائب أطفالٍ لنا وُلِدوا
ببقعة من سياط الظلم تنفجر

آهاتهم بدوي الرّعد قد مُزِجتْ
في غفلة من عيون الغيم تنهمر

أشلاؤهم في بقايا الحرف قد حُرقتْ
وصمتنا في سكون الليل يدّعر

متى الإياب سئمنا من تجرّعنا
مرَّ البعاد وطال النوم والسَكَر

يد العدوّ بأوطاني لها مدد
وصوته في ظلام الصّمت معتبَر

لهم حناجر لا تغفو وإن سكتتْ
وسوأة من بقايا العار تُدّخَر

لهم خناجر من أكتافنا حَمُرتْ
واسْودَّ من ليلنا زيتوننا الخَضِر

أما لنا من ضياء الفجر مرتَقَبٌ
وحُمرة من حياء الكون تُعتصَر

بنو قريظةَ لا زالت مآربُهم
بفكر كل يهوديٍّ لها أثر

والعهد منهمْ سرابٌ في تملقه
وحبلهم من جميع الناس مُنبتِر

لا يرتضي هؤلاءِ القومُ رفعتنا
وكم تحدثنا الآياتُ والسّوَر!

جنديّهم يتلظى الجبنَ مستتراً
ومن لقاء الرّدى مستدبرٌ حذِر

من خلف كل جدارٍ ينتضي جدلاً
ومن أمام حصاة الطفل يندحر

وصوته من رصاص الغدر منطلق
تحميه قنبلة في الحصن مختفِرُ

لم التفرق والأعداء تجمعهم
عقائد الزور والشيطان والكفُر

وطيف غزةَ في اللأواء يخبرني
عن الرجال إذا حلّت بهم غِيَر

وصوت غزةَ في الأكفان يندبني
واحرَّمعتصماه ، ما لكم وتر؟!

حقا تزحزح عن عليائنا زحلٌ
مستسلماً ودموع المجد تنهمر؟

حقا تدفّق في ساحاتنا دمنا؟
حقا قد ارتد عن إبصاره البصر؟

وطفل غزةَ والأشلاءُ صارخةٌ
بألسن الكون موءودٌ ومُستتِر

ونجم غزةَ والأمجاد تصحبه
بكل ملحمةٍ تصحو.. له صَدَر

هو الذي لا ينال العزُّ مكمنَه
ولا ينام على ضعفٍ له قمر

هو الذي في حياض الصبر موردُه
والنور موكبُه والحزم والحذرُ

يهوى الجنانَ إذا ما اشتم تربتَها
يجرّد الحُبّ لا يُبقي ولا يذَرُ

ويزهد الكونَ لا كفْراً ولا يئِساً
فثَمّ عند الإله النّورُ والحبَرُ

وكيف يختلف المسلوبُ في جبلٍ؟
السيلُ من دمِه والقوسُ والحجرُ

وهل بغاث الحصى كالهام إذ شمخت
بين الطّواد فلا يأسٌ ولا ضجرُ

ماذا يضير العلا أقوال شرذمة
همّوا بما لم ينالوا..هدّهم خَوَرُ

ما يستوي في قياس العقل منبطحٌ
وسائرٌ في دروب العزّ ينتصر

بكفّه مهجٌ لله يقرضُها
ولا يبالي غداةَ الجدّ ما الحُفَر

فكلّ منتصرٍ بالنّور منشغلٌ
وكلّ منخذلٍ يوماً سيندثر

تسعى الأماني بلا ريب بكل ذراً
مهما تطاوِلُها الأذناب والحُفَر

ما أعجبَ الغيمَ، من أرحامه وُلِدتْ
كتائبُ المجدِ..في أحضانها قُمُر

وكل نفس تنادتْ نحو عزّتها
تجددت عندنا من روحها صور

ظمئْتُ للنّور يسعى في الرضا دمُه
لا يعرف الحقَّ مصلوباً له أثر

أنا على ثقة بالحلم يدفعُني
من وحيه يتغنّى العودُ والوتَر

يا طيفَ غزة هل ما زلتَ منتظراً
موتَ الظلامِ وأنتَ الفجرُ والغرَرُ؟

فليت لي من فؤاد النور منصلتاً
يذوب من حره التشكيكُ والخوَر

أسترجع الوصلَ من أمجادنا عبَثا
فيرجع الوصل مطويّ به العُمُر

في كلّ موقعةِ التاريخِ يجذبُني
لثورة الحق أمجادٌ ومفتخر

تاريخنُا في بقايا الرُّوح لؤلؤةٌ
بالمجد خلّدها من في العلا غبروا

إني ابنُهمْ لا أوالي غيرَ نهجهمُ
ولِي بهم عندما أستاءُ مُدَّخَر

وثورة الحق في أسيافنا حملَتْ
فوق الأسنّة مالا تحمل البشر

قد تومئ الشمسُ أن الكفةَ انكفأتْ
لكنني- وفتوحَ النورِ- منتظر

ما زلت أرقب ذاك النّورَ منبثقاً
وطال في ليلتي التسهيد والسّهر

والطّير من عشّها طارتْ على ثِقَة
في مطلع الفجر حيث النّور ينتشر

وإن أقام الدّجى دهراً يشكّكُنا
في بسمة الصّبْح تسعى حيث نَبتكِر

فإنّ في دولة الأيّام معتبَر
جرّرْ ذيولك جاء الصبح والظفر

لابد أن يغدوَ الإدبارُ ملحمةً
يُمحى بها أثرُ الأشلاء والخوَر

ونمتطي سحُباً والعزّ ينشره
تهتانُ نصرٍ به التفريط يغتفر

وصحوة الحق تُزجي الموتَ مُشرعة
يَغشى الظلام فيُمحى الظلم والكفُر

فما لنا غيرُ علمٍ سابقٍ سندٌ
وما لنا غيرُ سيفٍ مصلتٍ وزَر

لا بد أن ينهض التاريخ من دمنا
ونرتقي مثل أجداد لنا صبروا

فالحق مهما غفا .. لابد نوقظه
يوماَ .. وكلّ مآسي العُرْب تندثر

مناسبة القصيدة

لكل طفل أزهق دمعة الم من عينيه البريئتين ، ولكل طفل أزهقت البشرية دمه أو قطرة من دمه إلى أطفال غزة كتبتها في يناير 2009 وها أنا انشرها في يناير 2010 مع ظني أنها لم تعبر عما كنت أود التعبير عنه أحمد فراج العجمي
© 2024 - موقع الشعر