عندما انبعث الماضي - نازك الملائكة

أمس في الليل وكانت صور الأسرار شتى
تتصبي حاضري الغافي وكان الأمس ميتا
خلتني كفنته ذات مساء
وتحصنت بدعوى كبريائي
سمعت روحي في إغفاءة الظلمة صوتا
لم يكن حلما خرافي الستور
بعثته رغبة خلف شعوري
كان شيئا، كان في صمت الدجى صوتك أنتا
ذلك الصوت الذي يعرفه سمعي مليا
صوت ماضي الذي مات وما خلف شيا
غير أشتات احتقار باهت
رسبت في قعر قلبي الصامت
غير أشتات أداكارات لحب كان حيا
منذ أعوام .. وقد فات ومرا
منذ أعوام .. وصار الآن ذكرا
لفها الماضي ووارها التراب الأبديا
ذلك الصوت الذي مر على سمعي أمس
كان يوما رغبة تجهش في أعماق نفسي
كان حلما ذائبا في عبراتي
كان حبا تائها في أمنياتي
ثم حطمت على ذكراه قيثاري وكأسي
عندما ضيعته تحت الضباب
وتعثرت بأشلاء شابي
وتهاويت على جثة أحلامي وأنسي
ومضى عامان ممطوطان مرا في شحوب
كان عمري خربة يصبغها لون الغروب
تذرع الأشباح في الصمت دجاها
ويعيش اليوم في ظل أساها
كلما جالت بي الحيرة في القبو الغريب
مدت الذكرى ذراعيها إليا
لونها يخلق في رعبي دنيا
ويثير الوتر الميت في قلبي الكثيب
وانقضى عامان معلونان من أعوام حبي
مزقت روحي أظفارهما، روحي وقلبي
لم تدع حتى شراعا من رجاء
أبدا لم تبق إلا كبريائي
وأباديد ادكارات لها قسوة ذئب
عرفت روحي فيها لون أمسي
أمسي الراسب في أعماق حسي
عرفت فيها صدى الصوت الذي غمغم قربي
إنه الأمس إذن عاد لحيا من جديد
إنه عاد إذن يطرق أبواب شرودي
أسفا يا شبحي عد التراب
لم تعد تملك أن تطرق بابي
لم يعد يربطنا إلا ركام من حدود
هوة أعمق من ذنبك! ماذا؟
قد تبقى لك عندي غير هذا؟
غير ذكري عبرت يوما ومرت بوجودي؟
مر القطار
ألليل ممتد السكون إلى المدى
لا شيء يقطعه سوى صوت بليد
لحمامة حيرى وكلب ينبح النجم البعيد
والساعة البلهاء تلتهم الغدا
وهناك في بعض الجهات
مر القطار
عجلاته غزلت رجاء بت أنتظر النهار
من أجليه .. مر القطار
وخبا بعيدا في السكون
خلف التلال النائيات
لم يبق في نفسي سوى رجع وهون
وأنا أحدق في النجوم الحالمات
أتخيل العربات والصف الطويل
من ساهرين ومتعبين
أتخل الليل الثقيل
في أعين سئمت وجوه الراكبين
في ضوء مصباح القطار الباهت
سئمت مراقبة الظلام الصامت
سئمت مراقبة الظلام الصامت
أتصور الضجر المرير
في أنفس ملت وأتعبها الصفير
هي والحقائب في انتظار
هي والحقائب تحت أكداس الغبار
تغفو دقائق ثم يوقظها القطار
ويطل بعض الراكبي
متثائبا، نعسان، في كسل يحدق في القفار
ويعود ينظر في وجوه الآخرين
في أوجه الغرباء يجمعهم قطار
ويكاد يغفو ثم يسمع في شرود
صوتا يغمغم في برود
"هذي العقارب لا تسير!
كم مر من هذا المساء؟ متى الوصول؟"
وتدق ساعته ثلاثا في ذهول
وهنا يقاطعه الصفير
ويلوح مصباح الخفير
ويلوح ضوء محطة عبر المساء
إذ ذاك يتئد القطار المجهد
... وفتى هنالك في انطواء
يأبى الرقاد ولم يزل يتنهد
سهران يرتقب النجوم
في مقلتيه برودة خط الوجوم
أطرافها .. في وجهه لون غريب
ألقت عليه حرارة الأحلام آثار احمرار
شفتاه في شبه افترار
عن شبه حلم يفرش الليل الجديب
بحفيف أجنحة خفيات اللحون
عيناه في شبه انطباق
وكأنها تخشى فرار أشعة خلف الجفون
أو أن ترى شيئا مقيتا لا يطاق
هذا الفتى الضجر الحزين
عبثا يحاول أن يرى في الآخرين
شيئا سوى اللغز القديم
والقصة الكبرى التي سئم الوجود
أبطالها وفصولها ومضى يراقب في برود
تكرارها البالي السقيم
هذا الفتى ....
وتمر أقدام الخفير
ويطل وجه عابس خلف الزجاج،
وجه الخفير!
ويهز في يده السراج
فيرى الوجوه المتعبه
والنائمين وهم جلوس في القطار
والأعين المترقبه
في كل جفن صرخة باسم النهار،
وتضيع أقدام الخفير الساهد
خلف الظلام الراكد
مر القطار وضاع في قلب القفار
وبقيت وحدي أسأل الليل الشرود
عن شاعري ومتى يعود؟
ومتى يجيء به القطار؟
أتراه مر به الخفير
ورآه لم يعبأ به ... كالآخرين
ومضى يسير
هو والسراج ويفحصان الراكبين
وأنا هنا ما زلت أرقب في انتظار
وأود لو جاء القطار....
© 2024 - موقع الشعر