الأفعوان - نازك الملائكة

أين أمشي؟ مللت الدروب
وسئمت المروج
والعدو الخفي اللجوج
لم يزل يقتضي خطواتي، فأين الهروب؟
الممرات والطرق الذاهبات
بالأغاني إلى كل أفق غريب
ودروب الحياة
والدهاليز في ظلمات الدجى الحالكات
وزوايا النهار الجديب
جبتها كلها، وعدوى الخفي العنيد
صامت كجبال الجليد
في الشمال البعيد
صامد كصمود النجوم
في عيون جفاها الرقاد
ورمتها أكف الهموم
بجراح السهاد
صامد كصمود الزمن
ساعة الانتظار
كلما أمعنت في الفرار
خطواتي تخطي القنن
وأتاني بما حطمته جهود النهار
من قيود التذكر ... لمن أنشد الانفلات
من قيودي، وأي انفلات
وعدوي المخيف
مقلتاه تمج الخريج
فوق روح تريد الربيع
ووراء الضباب الشفيف
ذلك الأفعوان الفظيع
ذلك الغول أي انعتاق
من ظلال يديه على جبهتي البارده
أين أنجو وأهدابه الحاقده
في طريقي تصب غدا ميتا لا يطاق؟
أين أمشي؟ وأي انحناء
يغلق الباب دون عدوي المريب
إنه يتحدى الرجاء
ويقهقه سخرية من وجومي الرهيب
إنه لا يحس البكاء
أين .. أين أغيب
هربي المستمر الرتيب
لم يعد يستجيب
لنداء ارتياعي وفيم صراخ النداء؟
هل هناك ملاذ قريب
أو بعيد .. سأمضي وإن كان خلف السماء
أو وراء حدود الرجاء
ثم ذات مساء
أسمع الصوت:
"سيري فهذا طريق عميق"
يتخطى حدود المكان
لن تعي فيه صوتا لغمغمة الأفعوان
إنه "لا بر نث" سحيق
ربما شيدته يد في قديم الزمان
لأمير غريب الطباع
ثم مات الأمير .. وأبقى الطريق
لأكف الضباع"
أسمع الصوت ملء البقاع
فأسير لعلي أفيق
من دياجير كابوسي الأبدي الصفيق
ربما سيضل عدوي الطريق
ما أحب المسير وليس ورائي خطى مائته
تتمطى بأصدائها الباهته
في محاني طريقي الطويل
إنه لن يجيء
لن يجيء وإن عبر المستحيل
أبدا لن يجيء
لن يراه فؤادي البريء
من جديد يثير الرياح
لتسد علي السبيل
في هدوء الصباح
أبدا لن يجيء
لن يجيء!
وأسمع قهقهة حاقده
إنه جاء. يا لضياع رجائي الكبير
في دجى اللا برنث الضرير
وأحس اليد المارده
تضغط البرد والرعب فوق هدوئي الغرير
بأصابعها الجامده
إنه جاء .. فيم المسير؟
سأودع حلمي القصير
وأعود بجثته البارده
وتمر مر الحياة
وعدوي الخفي العنيد
خلف كل طريق جديد
في ليالي الأسى الحالكات
خلف كل سحر
وأره يطل علي مع المنتظر
مع أمسي البعيد
مع ضوء القمر
في الفضاء المديد
أين أين المفر
من عدوي العنيد
وهو مثل القدر
سرمدي، خفي، أبيد
سرمدي، أبيد.
© 2024 - موقع الشعر