صِدْقُ الوَلاءِ يَدْفَعُ البَلاءَ ــ أشرف الصباغ

للكتاب: أشرف الصباغ،


حُبُّ الأوْطَانِ يَمْلأُ وِجْدَانَ الإنْسَانِ، فَهُوَ عَلَى حُبِّ وَطَنِهِ مَجْبُولٌ، وَمَا دُونَهُ ـ عَدَا البَلَدِ الحَرَامِ ـ مَفْضُولٌ، فِيهِ شَبَّ وَشَابَ، وَلا يَعِيبُ عَلَيْهِ فِي حُبِّهِ مَنْ عَابَ.
وَمَا بَيْنَ الفَيْنَةِ وَالفَيْنَةِ يَهْتِفُ قَلْبِي بَيْنَ ضُلُوعِي، مَا قَدَّمْتَ لِهَذَا الدِّينِ ؟ مَا قَدَّمْتَ لِهَذَا الوَطَنِ ؟
فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَجْمَعَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ صِحَّةَ الدِّينِ وَصِدْقَ الانْتِمَاءِ! وَلَيْسَتْ صِحَّةُ الدِّينِ وَصِدْقُ الانْتِمَاءِ عِبَارَاتٍ يُرَدِّدُهَا الإنْسَانُ، وَلا شِعَارِاتٍ يَرْفَعُهَا الدَّعِيُّ، وَلا كَلِمَاتٍ يَلُوكُهَا اللِّسَانُ فِي غَفْلَةٍ مِنَ القَلْبِ، وَتِيهٍ مِنَ العَقْلِ؛ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ صِدْقُ العَبْدِ حِينَ يُوَافِقُ وَفَاءً بِلا مَلَلٍ، وَيُرَافِقُ عَطَاءً دُونَ كَلَلٍ، وَبِقَدْرِ مَا تَنْشُبُ أَظَفْارُ النَّقْصِ، تَعْصِفُ بِالعَبْدِ رِيحُ الضَّعْفِ، وَبِقَدْرِ مَا يَسْتَجِيبُ لِهَوَاجِسِ الفِتَنِ، تَمُوجُ بِهِ أَمْوَاجُ المِحَنِ قَالَ الحَارِثُ المُحَاسَبِيُّ : ( الصَّادِقُ هُوَ الذِي لا يُبَالِي لَوْ خَرَجَ كُلُّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ الخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلاحِ قَلْبِهِ، وَلا يُحِبُّ اطِّلاعَ النَّاسِ عَلَى مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنْ حُسْنِ عَمَلِهِ ).
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ : ( اُصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ، فَإِذَا صَدَقْتَ اللهَ عِشْتَ بَيْنَ عَطْفِهِ وَلُطْفِهِ، فَعَطْفُهُ يَقِيكَ مَا تَحْذَرُ، وَلُطْفُهُ يَرَضِّيكَ بِمَا قَدَّرَ ) .
وَفِي ضَجَّةِ الأحْدَاثِ يَتَفَاوَتُ الإحْسَاسُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَتَنَاثَرُ الهِمَمُ، وَتَتَسَاقَطُ القِمَمُ، إِلا مَنْ رَحِمَهُ اللهُ، وَمِنْ شِرَاكِ فِتْنَةٍ عَصَمَهُ .
وَمَا أَدَقَّ وَأَرَقَّ مِيَزَانَ الانْتِمَاءِ ! فَمَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ فِي جُمُوعِ النَّاسِ حَوْلَكَ وَجَدْتَ تَبَايُنًا وَاسِعًا، وَتَفَاوُتًا شَاسِعًا.
• فَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَارَقَ صِدْقَ الانْتِمَاءِ، وَخَاصَمَ الوَفَاءَ، وَعَادَى الوَلاءَ، فَلا يَنْفَعُهُ ـ حِينَئِذٍ ـ فَيْضُ إِحْسَاسِهِ، وَلا يَرْفَعُهُ يَنْبُوعُ عَاطِفَتِهِ .
• وَتَرَى فَرِيقًا عَرِيضًا وَسَوَادًا عَظِيمًا مِنْ ضَحَايَا المَسْخِ وَالتَّغْرِيبِ، يَسْتَبِيحُونَ التَّفْجِيرَ، وَيَسْتَحِلُّونَ التَّخْرِيبَ، فِي غِيَابِ التَّرْبِيَةِ الإيمَانِيَّةِ وَالتَّنشِئَةِ الصَّالِحَةِ، جَرَّدَهُم شَيَاطِينُ الإنْسِ وَالجِنِّ مِنْ كُلِّ سَبِيلٍ تُقَرِّبُهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ فَاسْتَجَابُوا لِنِدَاءِ التَّدْمِيرِ، وَسَكُّوا أَسْمَاعَهُمْ عَنْ نِدَاءِ العَلِيِّ القَدِيرِ، حَتَّى صَارُوا لِلْفِتْنَةِ سَادَةً، وَلِلْغِوَايَةِ قَادَةً .
وَتَرْمُقُ فِي جَنَبَاتِ الكَوْنِ صِنْفًا يُتَاجِرُ بِالأحْدَاثِ، وَيَنْفُخُ فِي بُوقِ الفِتْنَةِ بَيْنَ النَّاسِ، يَنْفُثُ سُمًّا، وَيَنْشُرُ هَمًّا؛ لِتَعُمَّ الفَوْضَى، وَيَسْتَبِدَّ بِالنُّفُوسِ اليَأْسُ، وَالكَيِّسُ المُوَفَّقُ الذِي يُلازِمُ الحَقَّ بِصِدْقٍ، وَيُرَابِطُ الحَذَرَ مَعَ إِيمَانِه بِالقَدَرِ، وَيُقِيمُ بَيْنَه وَبَيْنَ الشَّطَطِ جُسُورًا مَانِعَةً، وَسُدُودًا نَاجِعَةً .
وَقَدْ تَدْفَعُ الإنْسَانَ لِتَرْكِ وَطَنِهِ أَسْبَابٌ مُلِحَّةٌ، وَهِجْرةٌ لِقَضَاءِ مَصْلَحَةٍ، مِنْهَا فِتْنَةٌ فِي الدِّينِ، فَيَبْحَثُ لِنَفْسِهِ عَنْ بَلَدٍ أَمِينٍ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الرِّزْقِ، فَيُهَاجِرُ مُسْتَمْسِكًا بِعُرَى الصِّدْقِ، وَشِعَارُهُ: ( وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْتُ )، وَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ هِجْرةٍ شَرْعِيَّة، وَهِجْرةٍ هَجَرَتِ الآدَابَ المَرْعِيَّة، فَالبَوْنُ بَيْنَهُمَا وَاسِعٌ، وَالفَرْقُ عَظِيمٌ شَاسِعٌ، وَالهِجْرَةُ إِلَى غَيْرِ بِلادِ الإسْلامِ حَرَامٌ حَرَامٌ، إِلا ضَرُورَةً تَدْفعُ عَنْ صَاحِبِهَا الآثَامَ، وَالعُلَمَاءُ فِي النَّاسِ كَالقَمَرِ بَيْن نُجُومٍ حَوَاهَا الظُلَم، قَالُوا بِشَأْنِ السَّفَرِ إِلَى غَيْرِ بِلادِ الإسْلامِ: تَجُوزُ بِشُرُوطٍ ثَلاثَةٍ، فَاعْقِلَهَا وَلا تُغَلِّبْ عَلَى الدِّينِ حَدَاثَةٌ، فَأَلْقِ سَمْعَكَ لَهَا، وَأَحْضِرْ قَلْبَكَ لِتَعِيَهَا، وَتَدَبَّرْهَا تَدَبُّرَ طَالِبِ الحَقِّ، لا مُعْرِضًا عَنْهُ، أَوْ نَافِرًا مِنْهُ.
• أَوْلا: أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الإنْسَانِ عِلْمٌ يَدْفَعُ بِهِ الشُّبُهَاتِ.
• ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ دِينٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ.
• ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا لِلسَّفَرِ لِضَرُورَةٍ مِنَ الضَّرُورَاتِ المُعْتَبَرَةِ.
وَكَمْ قَصَّرَتْ بِلادٌ وَبِلادٌ، فَلَمْ تُوَفِّرْ لأهْلِهَا قَلِيلَ الزَّادِ، فَتَضِيقُ مِنْهُمُ الصُّدُورُ، وَيَرْكَبُونَ فِرَارًا مِنْهَا البُحُورَ، وَتَطْمَحُ نُفُوسُهُمْ لِلسَّفَرِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لا مَفَرَّ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَقِّقُ أَمَانِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي فِي التِّيِهِ أَيَّامَهُ وَلَيَالِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَؤُوبُ مَسْرُورًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ مَحْمُولا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعِيشُ فِي اسْتِقْرَارٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَايِنُ الأخْطَارَ.
فَحُسْنُ الانْتِمَاءِ وَصِدْقُ الوَلاءِ يَدْفَعُ البَلاءَ وَيَجْلِبُ الرَّخَاءَ.
كتبه / أشرف الصباغ

© 2024 - موقع الشعر