الْعَلاقَةُ بَيْنَ النَّصِّ وَالسِّيَاقِ الثَّقَافِيِّ ـ أشرف الصباغ

للكتاب: أشرف الصباغ،


الْعَلاقَةُ بَيْنَ النَّصِّ وَالسِّيَاقِ الثَّقَافِيِّ ـ
كتبه/أشرف السيد الصباغ.
يُسْهِمُ السِّيَاقُ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي فَهْمِ مَعَانِي الألْفَاظِ، بِمَا يُحْدِثُهُ مِنْ تَرَابُطٍ بَيْنَ أَفْكَارِهَا، وَانْسِجَامٍ بَيْنَ عَنَاصِرِهَا، مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَى تَقْدِيمِ صُورَةٍ وَاضِحَةِ المعَالِمِ لائِحَةِ الملامِحِ لأفْرَادِ أَيِّ مُجْتَمَعٍ وَنُعُوتِهِمْ، وَيُعِينُ السِّيَاقُ عَلَى فَهْمِ طَبِيعَةِ سُلُوكِهِمْ فِي إِطَارِ المُجْتَمَعِ الَّذِي يَكْتَنِفُهُمْ وَيَعِيشُونَ فِيهِ، وَتَرْبِطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَفْرَادِهِ وَشَائِجُ تَتَّصِلُ، وَأَوَاصِرُ لا تَنْفَصِلُ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْفَكَّ الأَفْرَادُ عَنْ مُجْتَمَعِهِمُ الَّذِينَ هُمْ أَعْضَاءُ جَسَدِهِ وَأَرْكَانُ بِنَائِهِ، لَهُمْ أَدْوَارُهُمْ الاجْتِمَاعِيَّةُ البَارِزَةُ، وَقِيَمُهُمُ الثَّقَافِيَّةُ الجَائِزَةُ وَالنَّاشِزَةُ، فَإِذَا كَانَ دَوْرُ المُجْتَمَعِ يَتَمَثَّلُ فِي تَوْجِيهِ السُّلُوكِ، فَدَوْرُ الأَفْرَادِ اكْتِسَابِهِ وَالتَّحَلِّي بِهَ.
وَالقِيَمُ الاجْتِمَاعِيَّةُ لا يُمْكِنُ أَنْ تَتَكَشَّفَ إِلَّا مِنْ خِلَالِ فَهْمِ النَّصِّ المَشْحُونِ بِمَقَاصَدِ سِيَاقِيَّةٍ عَدِيدَةٍ، تَحْمِلُ بِيْنَ طَيَّاتِهَا كَثِيرًا مِنَ الظَّوَاهِرِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، الَّتِي تَتَبَدَّى فِي ضَوْئِهَا صُورَةُ المُجْتَمَعِ بِكُلِّ مَلَامِحِهِ؛ لِذَلِكَ فَرَضَتْ حَتْمِيَّةُ الارْتِبَاطِ بَيْنَ النَّصِّ وَالسِّيَاقِ نَفْسَهَا.
وَالنَّصَّ نَسِيجُ مُتَنَاسِقٌ الشَّكْلِ، تَتَنَاغَمُ دِلالاتُهُ حَتَّى تَصِيرَ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ كَلامٍ مَلْفُوظٍ، فِي أَيِّ زَمَانٍ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ، مَنْطُوقًا كَانَ أَوْ مَكْتُوبًا؛ لَكِنْ يَتَّسِمُ كُلُّ نَصٍّ عَلَى مَا يُسَمَّى بِالمُرْتَكَزَاتِ السِّيَاقِيَّةِ ـ عَلَى حَدِّ قَوْلِ " جون لاينز " فِي كِتَابِهِ "اللُّغَةُ وَالمَعْنَى وَالسِّيَاقُ" : "فَمَا مِنْ نَصٍّ إِلَّا وَلَهُ مُرْتَكَازَاتٌ سِيَاقِيَّةٌ تَكْشِفُ عَنِ المعَانِي المُنْغَلِقَةِ الَّتِي يَحْفَلُ بِهَا النَّسِيجُ النَّصِّيُّ، وَأَمَّا السِّيَاقَاتُ فَيَتِمُّ تَكْوِينُهَا وَتَحْوِيلُهَا وَتَعْدِيلُهَا بِشَكْلٍ دَائِمٍ بِوَاسِطَةِ النُّصُوصِ الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا المُتَحَدِّثُونَ وَالكُتَّابُ فِي مَوَاقِفَ مُعَيَّنَةٍ".
وَمِنْ ثَمَّ تَبْدُو الْعَلَاقَةُ وَثِيقَةً بَيْنَ السِّيَاقِ وَالنَّصِّ، أَوِ الْوَاقِعِ الاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاقِ الثَّقَافِيِّ؛ إِذِ السِّيَاقُ هُوَ الَّذِي يُسَاعِدُ عَلَى إِدْرَاكِ مُلَابَسَاتِ هَذَا الْوَاقِعِ بِاعْتِبَارِهِ أَدَاةً مَنْهَجِيَّةً فِي فَهْمِ النَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَ د/أحمد حساني فِي كِتَابِهِ "السِّيَاقُ وَالتَّأْوِيلُ مِنَ الإِشْكَالِيَّةِ الفُيُلُولُوجِيَّةِ إِلَى الإِشْكَالِيَّةِ اللِّسَانِيَّةِ" طَبِيعَةَ العَلاقَةِ بَيْنَ السِّيَاقِ والنَّصِّ: "أَصْبَحَتْ عَلَاقَةُ السِّيَاقِ بِالنَّصِّ قُطْبَ الرَّحَى فِي التَّحَوُّلِ المَنْهَجِيِّ لِلنَّظَرِيَّةِ اللِّسَانِيَّةِ المُعَاصِرَةِ الَّتِي تُوَسِّعُ مَجَالَهَا الإِجْرَائِيَّ لِتَشْمَلَ حُقُولًا مَعْرِفِيَّةً مُخْتَلِفَةٍ، الأَمْرُ الَّذِي جَعَلَهَا تَضْطَلِعُ بِإِعَادَةِ التَّفْسِيرِ الْعِلْمِيِّ الكَافِي لِكُلِّ الخِطَابَاتِ المُنْجَزَةِ فِي الثَّقَافَةِ الإِنْسَانِيَّةِ" .
وَبِذَلِكَ يَرْتَبِطُ تَحْلِيلُ سِيَاقِ الحَالِ أَوْ مَا يُسَمَّى بِـ (المَقَامِ) بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ العَنَاصِرِ وَالظُّرُوفِ وَالمُلَابَسَاتِ وَقْتَ الكَلَامِ الفِعْلِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ:
حَالُ المُتَكَلِّمِ وَالمُخَاطَبِ مِنْ حَيْثُ جِنْسُهُ وَعُمْرُهُ وَعَدَدُهُ، وَكَذَلِكَ غَائِبٌ أَمْ حَاضِرٌ، وَطَبِيعَةُ المُوْضُوعِ، وَالمَكَانَةُ الاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالمَنْزِلَةُ السِّياسِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الظُّرُوفِ المُعْتَبَرْةِ لِتَحْلِيلِ النَّصِّ تَحْلِيلا لُغَوِيًّا دَقِيقًا.
وَقَدْ أَفَاضَ وَفَصَّلَ "ابْنُ الأَثِيرِ" فِي هَذَا البَابِ، فَبَيَّنَ كَيْفَ تُوَجَّهُ طَبِيعَةُ العَلاقَةِ بَيْنَ المُتَخَاطِبِينَ بِنَاءً عَلَى المُسْتَوَى الثَّقَافِي.
وَهَذَا يُبَيِّنُ لَنَا كَيْفِيَّةَ الإِفَادَةِ مِنْ نَظَرِيَّاتِ المَعْنَى الَّتِى أَوْلاهَا القُدَمَاءُ المُحْدَثُونَ عِنَايَةً بَالِغَةً فِي مَعْرِفَةِ الفُرُوقِ الدِّلَالِيَّةِ بَيْنَ الأَلْفَاظِ المُتَقَارِبَةِ المَعَانِي وَتَنَوُّعِ اسْتِعْمَالاتِهَا، وَتَحْلِيلِ السِّيَاقَاتِ بِأَنْمَاطِهَا المُخْتَلِفَةِ، مِنْ خِلالِ الضَّوَابِطِ وَالمَعَايِيرِ الَّتِي قَدَّمَهَا عِلْمُ الدِّلالَةِ.
كتبه / أشرف السيد الصباغ

© 2024 - موقع الشعر