أبتاه عُذراً - أحمد علي سليمان

أبي فؤادي - من المأساة - مَحزونُ
مُذ أدخِلتْ عَنبرَ الموتى الجثامينُ

فجعتُ لمّا أتى الجُثمانُ ثاعِبة
جراحُهُ ، وأبي واللهِ مَغبون

والدمعُ أغرقَ جُثماناً صُلِيتُ بهِ
والعزمُ - بالألم الرهيب - مقرون

خارتْ قوايَ ، وخانتْني مُجالدتي
وكم تخيبُ – لدى البلوى – أظانين

لم أقوَ قط على أدنى مُجابهةٍ
إذ سَربلتْ عَزمتي أناتُ مطعون

علمتني الجد في ترْح وفي فرح
وعِزة النفس – للأمجاد - عُربون

أرشدتني لخِلال كنتُ أجهلها
وكان فيها – من الفتون - تحصين

فحُزتُ - في الطب والتطبيب - مَنزلة
يَغارُ - مِن وَصفها - الشم الأساطين

وكِيلَ مدحٌ وإطراءٌ وتهنئة
وكم أقيمتْ على الحُسْنى البراهين

واليوم تحت يدي الجُثمانُ أنظرُهُ
والقلبُ منفطرُ الآهات مَحزون

لواعجُ البؤس تكويهِ وتجرحُهُ
وما له في الذي أضناه تسكين

عُذراً أبي أنني لم أحم دِيرتنا
من الأعادي لهم بأسٌ وتمكين

أتوا على الدار ، والأحقادُ تسبقهم
وأهلُ داري محاويجٌ مساكين

همُ استباحوا الحِمى استباحة عجبتْ
لها العقولُ ، فما لها موازين

ما ذنبُ شعب حِماهُ اليومَ مُغتصَبٌ
وغاصبُ الدار والأصقاع ملعون؟

ما ذنبُ طِفل غدتْ جسومُهم مِزقاً؟
وهل يُفيدُ ذوي الأموات تأبين؟

هل ذنبُهم أنهم عاشوا بلا وطن؟
أم أن موطنهم حقاً (فِلسطين)؟

أحرجتني يا أبي بالصمت يُلجمُني
وفي صِماتِك تهتاجُ المَضامين

اذهبْ إلى قبرك الميمون مبتشراً
وكل قبر شهيدِ الحق مَيمون

عهداً سنثأرُ يا أبتاه ، نحن لها
رئبالة ، نحن في الهيجا عرانين

عليك رحمة رب الناس ما طلعتْ
شمسٌ ، وعاودَ بعد البدء عُرجون

مناسبة القصيدة

أبتاهُ عُذراً! (عسيرٌ على الإنسان أن يعجز عن حماية ذويه فضلاً عن حماية نفسه التي بين جنبيه! ولكنها إرادة الله تعالى! ولعل المِحن تُعقِبُ المِنح! ولعل الجراح تولدُ الأفراح! وأشهدُ بالله تعالى أن مِحنة طبيب قصيدتنا عاتية وقاسية للغاية! حيث كانت مناوبتُه ليلية في المشفى الذي يعمل فيه! وهو يعمل تحديداً في قسم الاستقبال والسجلات على حد ما علمت! المهم أنه ابتُليَ ابتلاءً شديداً عندما جاؤوا بجثثٍ لموتى انتُشلت من تحت الأنقاض ، بسبب القصف العشوائي الهمجي البربري الوحشي ، الذي استهدف المدنيين العزل في بيوتهم في أرض الرباط! وجيء بجُثث الموتى في عربة كبيرة لنقل البضائع! (ميتٌ فوق ميت) ، وكانت الجثث أشبه ما تكون بأضاحي العيد ، وذلك بعد أن تم ذبحُها ليُذهب بها إلى المَسلخ! وكان على الطبيب المُناوب تحريرُ شهادات الوفاة لهم! وإلى هنا فليست هناك مفاجأة ، لأن ذلك الطبيب يُحرر المئات من هذه الشهادات كل يوم! ولكنه فوجئ بجُثة أبيه من بين الجثث! فراح ينتحبُ ويبكي بحُرقةٍ ، ويقول: يا أبتاهُ عُذراً أنني لم أستطعْ حمايتك ولا الذود عنك! وإنما الذي أستطيع عمله لك فقط هو تحرير شهادة الوفاة ، وطي صفحتك إلى الأبد ، ولف جثتك في قماش التحضير للغسل والتكفين! ولكن لك مني وعدٌ أكيد أن لنا مع الأعداء ثأراً لا ننساه مطلقاً! بل نعد له العدة!)
© 2024 - موقع الشعر