قصة المنتقبة مع قطتها! - أحمد علي سليمان

فجعتُ لمَا أصابكِ يا هُريرة
وفقدُ الوُلد مِن أعتى المَضرة

ودمعُ العين فوق الخدّ يجري
وفي قلبي لمَا أضناكِ حَسرة

وفي نفسي عَذاباتٌ تداعتْ
تفتّ حُشاشتي ، فغدوتُ عِبرة

وفي الوجدان مِن شَجواكِ قِسْط
يُحَرّقهُ ، كأن القِسط جَمرة

وقِصّتُكِ العجيبة أحرجتْني
وإن تكُ قِصة حدثتْ لهرة

رأيتكِ في شديد البرد وَجْعى
تُكابدُ حيرة من بعد حيرة

فلا مأوى يقي من سُوء بردٍ
ولا بيتٌ ، ولو في جوف حُفرة

ولا أهلٌ لهم جُودٌ وبذلٌ
وإخلاصٌ وإنجادٌ ونُفرة

ولا أصحابَ صحبتُهم غِياثٌ
إذا ما صاحب آذتْهُ عُسرة

فقلتُ: أغيثُ مَن وَهنتْ قواها
وأتحِفُها بألوان المَسرة

وأجعلها تُعَز بما تُلاقي
من الإحسان قد ألْفتْهُ جهرة

فحُزتُ لها مكاناً لا يُبارى
وأقسِمُ لم تكن - في الدار - وفرة

ولكنْ قلبُ مُشفقةٍ عليها
تكلفَ برّها ، فأنالَ بِرّه

وجئتُ لها بمطعومات حُبْلى
على وشْك الولادة دون عَثرة

فلم أجمعْ عليها في ضناها
شقا ألمين ، ما في الجسم قدرة

وبعد مَخاضها ولدتْ وقرّتْ
وذاقتْ باهتمامي خيرَ قرة

وأرضعتِ الصِغارَ لهم مُواءٌ
وقضّتْ أمّهم - في اليُسر - فترة

ولكنْ إخوتي خفروا جواراً
وآذوا هِرتي ، يا للمَعرة

لقد أخذوا الصِغار بدون رفق
فحطمَ صُنعُهم أمّاً وأسرة

وجندلَ خاطري حُزني عليها
فأحزاني حُزونُكِ يا هُريرة

فقلتُ لهم: ألا أين اليتامى؟
فقالوا لي: هنالك خلفَ صخرة

فقلتُ: إذنْ ، فدُلوني عليها
فقالوا: الليلُ جَنّ ، نسيرُ بُكرة

فقلتُ لهم: أخاف يمتن جوعاً
فقالوا لي: الطعامُ حوتْه صُرة

فقلتُ لهم: وهل ماءً أخذتم؟
فقالوا : ما أخذنا منه قطرة

فبتُ الليل في قلق وشكوى
وكنتُ وصفتُ ما فعلوهُ غدرة

وبعد الفجر قلتُ لهم: هلموا
ومن مائي الفراتِ مَلأتُ جَرة

وقد عرفوا المكان ، فلم يَضِلوا
ولكنْ لم نجدْ أثراً لهرة

فقلتُ لهم: ألا التمسوا وجدّوا
فقالوا لي: التمسْنا غيرَ مرة

إذنْ ضاع الصغارُ ، فلا سبيلٌ
إلى لقيا ، أعيدوا البحث كَرة

لعل الصخرة اشتبهتْ عليكم
فقالوا لي: لنا بالدرب خِبرة

فقلتُ لهم: لقد جَرّعتموني
عذاباً كأسُه – واللهِ - مُرة

يمينَ الله آذيتُم فؤادي
وأوقدتُم به كَرْباً وجَمرة

ففرجْ ربَنا كرْبي وضنكي
وخفف ما تُعانيه هُريرة

مناسبة القصيدة

قصة المنتقبة مع قطتها! (كثيرٌ من الناس للأسف يتصورُ أن أخواتِنا المؤمناتِ الحشيماتِ المنتقباتِ قاسياتُ القلوب! وهذا غير صحيح ، فمعظمهن رقيقات الحال رحيمات القلوب ، ضِعف غيرهن من النساء! كيف؟ إن هذا فيهن كطبيعة في كل النساء ، ثم زادَهن الإيمانُ والتوحيدُ رقة حال ورحمة قلب! إن هذه القصة لإحدى المنتقبات قصة حقيقية ، كانت تحكيها إحداهن لغيرها ، وأنا أسمع ، فلما أتمّتْ قصتها إذا بعينيّ تهمِلان ، فحولتُ دموعهما شعراً ، فكانت هذه القصيدة! تقول هذه الموفقة الصالحة – ولا نزكي على الله أحداً – بأنه كانت لها قطة فرضتْ نفسها عليها! وراحت تتمسح في عباءتها غادية رائحة ، ولسان حالها يستعطفُ هذه الأخت في هذا الشتاء القارس ، أن توفر لها مأوى وتضمن لها إقامة مجانية في دارها ، حِسبة لله تعالى! تقول: فعلت القطة هذا كله مع أفراد البيت كبيراً وصغيراً ، فلم يأبه بها أحد ، ولم يلتفت إليها أحد! حتى جاء الدورُ عليّ! وكنتُ الأخيرة ، والقطة بالغت في المساومة والتوسل والطلب! ولأن المنتقبة رقيقة القلب ذكية اللب ، فهمت من الإشارة ، ولم تعمد إلى عصا أو نعل ، تضرب به القطة وتطردها إلى الشارع ، شأن قاسيات القلوب عديمات الرحمة من النساء! (أما طردُها بالمعروف تأكل من خِشاش الأرض ، ويتولاها من خلقها سبحانه ، فلا بأس به)! ولكن الاعتراض هنا على الضرب بالعصا أو النعل! تقول الأختُ بأنها قامت باستضافتْها في بيتها على حد تعبيرها! وكانت هذه القطة على وشك الولادة. فمن رقة قلب أختنا الصالحة اتخذتْ لقطتها مكاناً ، وهيأتْها لاستقبال الهُريرات الصغيرات الرضيعات! ولم تشأ أن تجمع عليها آلاماً ثلاثة: (ألم الولادة وألم فقدان البيت والمأوى وألم الشتاء ببرده القارس) على حد تعبير الأخت! واشترت لها طعاماً من مالها الخاص! وما أن ولدت قطتها حتى فرحت القطة والأخت بالصغار! وبينما كانت الأم تُرضعهن كانت الأخت تداعبهن! واستمر الحال على هذا فترة فيها بدأت القطط الصغيرة تمشي! وجاء الجميع ما لا يسُر! حيث جاء إخوتها الصغار ومعهم أبناء خالتهم ، وأخذوا القطط الصغيرة في غياب أمهن! وذهبوا بهن بعيداً عن الدار! ووضعوهن خلف صخرة رجاء أن يلعبوا بهن آنفاً! وعادت الأخت فوجدت القطة تموء بحزن ولا تأكل ما تقدمه لها ، فذهبت على الفور إلى مكان الهريرات فلم تجد واحدة منهن! فسألت: فأخبرها أهل الدار بأن الأولاد كانوا يلعبون معهن ويتعبثون بهن! فسألت الأولاد عند المغرب ، فأخبروها بأن القطط وراء صخرة بعيدة عن الدار! فقالت: اذهبوا بي إليها! فاتفقوا على أن يكون ذلك في الصباح الباكر! وبالفعل ذهبت معهم والتمست الهريرات فلم تجد واحدة منهن! تقول: فحزنتُ كأنهن من بقية أهلي! وبعدها ذهبت قطتها إلى غير رجعة فازداد حزنها أكثر! يا قومنا والله العظيم معظم قلوب المنتقبات أرق من النسيم ، ولهن حس مرهف وشعور نبيل ، يندر أن يكون في غيرهن!)
© 2024 - موقع الشعر