فتنة الغربة - أحمد علي سليمان

خصصْتُك بالمديح العَذبِ أنتا
لأنك – في اغترابك – ما فتنتا

لأنك لم تبعْ ديناً بدنيا
ولا أخْراك – يا مِغوارُ - بعتا

ولا آثرت ما يَفنى فتردى
وما أكثرت – عند الضيق - ليتا

على الأقدار لم تسخط بتاتاً
معاذ الله ، بل كنت ارتضيتا

وضاقتْ عِيشة ، فصبرت ترجو
مِن الرحمن أخرى إذ دعوتا

وحاولت الخلاصَ تُريدُ حَلاً
وأعواناً – على البلوى - التمستا

وقررت الرحيلَ إلى ديار
تُعاينُ خيرَها إمّا ارتحلتا

ورب الناس يَسّرَ كل صعب
وبلغك السبيلَ إذِ انتويتا

ولم يَملأ فراغك عبقريٌ
يقول الحق بعدك ، مذ مضيتا

وعانت صُحبة وَليت عنها
وأنت تُريدُ رُؤية مَن صَحِبتا

وهاجَ الشوقُ ، لكنْ دون جدوى
وجابهت الصِعابَ بما تأتّى

فبيتُك حازهُ قومٌ رِعاعٌ
فقد غصَبوا مَتاعَك والبُيَيْتا

وما احترموا أمانة مَن تولى
حلالٌ - للأصاغر - ما ملكتا

ولاكُوا عِرضك الميمونَ عمداً
وقتَوا عنك ما قالوهُ قتّا

وقالوا: نحن أحسنا إليهِ
وقالوا: نحن زوّجناه بنتا

وقالوا: نحن لولانا لقاسى
مِن الدنيا المصائبَ جَد شتى

وقالوا: نحن زللنا صِعاباً
ودَاومنا - على كتِفيه - رَبْتا

وأنت تحارُ في كذب صُراح
وتؤثِرُ أن يكون الرد صَمتا

إذا الكذابُ بالغ في التجني
وتسأله متى تخزى وحتى

ولم يُقْصِرْ عن الدعوى استغاثتْ
وأنت لما يقول أشدُ مقتا

فقطعاً لن تدوم له الأحاجي
ويوماً يُبْهتُ الخداعُ بَهتا

وضاقتْ غربة بلغتْ مداها
وأنت - بها وبالأوضاع - ضِقتا

وواجهت الأنامَ بما لديهم
مِن العثرات أنت لها انتبهتا

وأرشدت الجميعَ إلى هُداهم
دعوت ليخلعوا وُثْناً وجبتا

فما اتبعوا ، ولا انصاعوا لذكرى
كأنك – للفضائل - ما هَديتا

وبعضٌ منهمُ نكِرَ الوصايا
وأخرسَ – للغريب الشهم - صوتا

لذا استعدى الأعاديَ لم يُبالوا
بحق في البقاع الجُرْدِ قلتا

غريبٌ أنت عن أهل ودار
فجُل القوم قد لفظوك أنتا

وتبحثُ في اغترابك عن صديق
يردك للصواب إذا ضللتا

ويمنحُك العزيمة لا تُبارى
ويُخرجُ منك تضييقاً وكبتا

ويُلهمك الثبات إذا توالتْ
عليك نوائبُ الدنيا فتُهتا

يُعينك إن ركنت إلى التدني
وينصحُ أنْ ضياعُك إنْ ركنتا

يُشاركُك التمسّك بالمعالي
إذا أنت الأفاضلَ قد عدِمتا

غريبٌ أنت غربتُك استبدتْ
برأي فيك أنت بهِ عُرفتا

فجاءتْ تحتويك لها احترازٌ
وتطلبُ منك أمراً قد أبيتا

تُريدُك أن تُطوّعَ نص شرع
لتربح ما تُريد إذا افتريتا

تُريد لك ارتزاقاً بالسجايا
لتُغدِق خيرَها إمّا ارتزقتا

ألست تُريدُ أموالاً وقوتاً
لتدرك ما تريد إذا اغتنيتا؟

فقلت لها وفي القلب احتسابٌ
حديثكِ قد غدا عَجْناً ولتا

ألا إنّ افتتاني ليس سهلاً
أموتُ ولا يُقال لي: افتُتِنتا

ألا يا ذا الغريبُ لك احترامي
لأنك – في الدغاول - قد ثبتّا

ولم تكُ مثلَ أصحاب الترائي
أضلُ طريقة ، وأضلُ سَمتا

يبيعون الديانة بارتزاق
وعنهم يا أخا التقوى اختلفتا

ومنهم قد رُئيت أجلَ شأناً
فأنت بنصر دينك قد ظفِرْتا

لئن هم عمّروا الدنيا بمال
فأنت بجنة الرحمن فزتا

لئن سعِدوا بألقاب وصِيتٍ
فإنك – باعتزازك – قد سعدتا

لئن رضخوا لغربتهم ، وضلوا
فأنت لها شمخت ، وما رضختا

وغربتُهم بهم فخرتْ وشادتْ
وغربتُك اصطلت قهراً وكبتا

عبيدٌ هم لغربتهم لئامٌ
وأنت غضنفرٌ فيهم ظهرتا

تهونُ حياتُنا ، والدينُ يبقى
وكيف تعيشُ إنْ ديناً خسرتا؟

مناسبة القصيدة

(اغترب كثيرون عن بلادهم في طلب العلم ، أو في طلب المال ، أو في سبيل الزواج ، أو في سبيل هذه الأشياء مجتمعة! والنية عند الله! لأنه سبحانه هو الذي يعلمها ويكافئ عليها وعلى العمل المنشود من ورائها! وصدق الله تعالى إذ يقول: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة). وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ يقول: (إنما الأعمال بالنيات ، وإن لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)! رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما! والحقيقة أنني تناولت الغربة في قصائد متعددة ، وأفردتُ لها مجموعاتٍ شعرية كذلك! وحاولتُ هنا تصوير آلام الغربة وعذاباتها وأشواقها ودروسها! ولكن وجه اختلاف هذه القصيدة عن سابقاتها هو أنني أبارك لأحد الغرباء الأبطال الأفذاذ من طلبة العلم ، وكان قد هاجر وتغرب ، ولم يتنازل في غربته عن ثوابته ومبادئه وتوحيده وعقيدته أبداً! ثم عاد إلى بلاده بكل ما كان يحمل من توحيد وعقيدة ومبادئ وقيم! ولم يُفرّط في شيء من هذا كما يفعل غيره من الذين فتنتهمُ الغربة. ومن هنا استحق هذا الغريب أن أحييه وأشيد به وأبارك له ثباته في وجه التحديات خارج دياره أمام فتنة الغربة ، وثباته وهو يرى سلب داره ومُمتلكاته ومُقتنياته ، ويُقابلُ ذلك كله بصبر وثباتٍ وعزيمة!)
© 2024 - موقع الشعر