لوعة الرحيل! (أم عبد الله) - أحمد علي سليمان

ما للقريض يئن كالمتجندلِ؟
ما للكلام يصولُ صولَ الجحفلِ؟

ما للمشاعر بُعثرتْ مَلَكاتها؟
ما للأحاسيس انزوتْ بتعجل؟

يا أم عبد الله إني باخعٌ
نفسي ، وما لي في الأسي من مَعْدل

تبكي عليكِ جوانحي وسريرتي
والدمعُ - في عينيَّ - لم يتزلزل

جُدرانُ بيتكِ لم تزل ملتاعة
ورنينُ صوتكِ - في الدنا - لم يرحل

حتى النسيمُ العذبُ في أرجائها
إن يذكُر الأيام دوماً يسأل

والأمسياتُ بغيرِ جمعكُمُ لظىً
والصُبحُ جاثٍ فوق هَامَة مِشعلي

والتلةُ الصهباءُ في ليلِ الدُجى
لكَز اللهيبُ رمالها في مَقتل

والبابُ مُوصدُ ليلَه ، ونهاره
يبكي الفِراق بلوعةٍ ، وتعلل

والسَّقف قد فطرَ العويلُ شُقوقه
يشكو الرحيلَ بكل دمع مُثقل

يا ليت شِعري إن مَخدعَ نومِكم
ثاوِ ، وإن يذكرْكمُ يتجندل

ونوافذ البيت الكئيب تصايحتْ
تهجو المساءَ بهيبةِ المتسلل

والمطبخ المقهورُ من فئرانه
يا للكسير المُستباح الأعزل

والصَّحن صحنُ البيت داعبه الهوى
فاشتاق للخلان شوقَ العُطبُل

والمجلس المِسكين شط به النوى
يرثو الضيوف بآهةٍ وتبتُّل

يا ليت شِعري كيفَ غاص البيت في
آلامه ، والشوق لم يترهل؟

يا دارنا عند (المُرور) اخشوشني
إن الفراق ينال منكِ ، فأجملي

وعِمي صباحاً يا عشيقةَ خاطري
وإليكِ شوقي رغم أنفِ المُيَّل

قرآنُ ربي ملءُ أذنكِ ، فاسمعي
وحديث (أحمدَ) - في الورى - لم يعمل

صوتُ الرضيعِ ، بكاؤه ، ضحكاتُه
بل حيثما يأتِ الرحيل يُحوّل

سُننُ المليك بأن نُفارق ساعةً
أواهُ من هذا المتاع المِكسل

رَحَلَ الجميع ، وعشعشت فيكِ العنا
كِبُ ، وانزوت بسماتُ ليل أليل

يا سعدَ سعدِ الشامتين جميعهم
فرحوا لكربٍ غائل مُتعجِّل

يا أمَّ عبدِ اللهِ دمعَكِ فاحذري
وتماسكي ، فالحق صعبُ المَحمل

عارٌ عليكِ الدمعُ بعد بليةٍ
فالدمعُ يُشمت فيكِ كلَّ العُذَّل

إن الحروف على قراطيسي أسىً
وأرى القريض يردُّ كفًّ المُرمِل

مِزقتِ فيّ العزم عزم قريحةٍ
وبُليتُ بالنجم البليدِ الأمْيَل

وأديمُ أرضي من دمائي مرتوٍ
وأنا المُعنى في العُباب المُمحل

والبؤس دهده لاهياً حُلو المُنى
والفرح فارقني بحُزن أوتل

وطعامُ صِبيتنا السَّراب وظله
لنزيح كدّ المُستهين المُبطِل

وشرابُهم من أُمسيات شقائنا
وأرى بكفيه العنا كالمُنصُل

يا أم عبد الله طالَ فراقنا
غيبتِ عنا في الفلاة الهَوجَل

كيف اللقاء؟ تكلمي وترفقي
إني أعيشُ - عن الجميع - بمعزل

والوهم خمَّش بالأظافر مُهجتي
وعلا الفؤادَ بمِخذمٍ وبمِعول

إن غبتِ عنا ، ثم طالت غُربتي
يا أم عبد الله سيفكِ ، فاحملي

فالشامتون هناك مَلءُ دروبنا
آهٍ لجمع - في الأذى - كالنَّهشل

هم ينسجون عذابنا بشِماتهم
أواه مِن فِعل القبيح الأهزل

ويُذل أعناقَ الجميع غرورُهم
وفسوقهم ، والعزُّ صعب المَنزِل

والذلُّ كأسٌ مُفجعٌ ومُروعٌ
وأنا أفضّلُ عنه كأسَ الحنظلِ

وكتابنا القرآنُ علمنا بأنْ
ندَع التدنيَ ، رغم مَن لم يعقل

والمسلم المَغوار ديدنُه المضا
إن عاش عن درب الإبا لم يَعْدل

بل هكذا القرآن يرشد أهله
لذرى الكرامة والرشاد الأكمل

كم في رياض الحق تسطع آيةُ
وبها يُحقق كلُّ خيرٍ مِكمَل

يا أم عبد اللهِ ، دينكِ فالزمي
فلزومُ دينك فيه عذبُ المنهل

أنت الغريبةُ في البقاع ، فحاذري
وخذي الحياة بعِفةٍ وتجمُّل

أنت الضحية إن كشفتِ مَسرةً
فعليكِ بالكتمان ، لا تتنصَّلي

وعليكِ بالقرآن ، ليلك والضحى
ودعي مقالة مُستريب مِجْهل

وتحلمي إن جار كلبٌ أو عوى
وزني فعالك دائماً ، وتمهلي

ولداكِ جوهرتان ، ليسا دُميةً
فضعيهما في العين كيلا تُهمِلي

قُومي من الليل المطلسم ركعةً
واجفي الفِراش رضية ، وتنفلي

وترفعي عن غِيبةٍ عَفويةٍ
وذري المصاطب ، أنتِ لم تتقولي

فلم اصطناعُ القول منكِ عزيزتي؟
إن اصطناع القول طبعُ الأرذل

إني - على الولدين - أسكب عَبرتي
وأنا العزيز ، فلستُ بالمُتطفل

لكنما قدرُ إلا له ، وليس شي
ئٌ غيره ، والعبدُ فليتحمل

ولئن ترَيْ شيئاً من الأوهام ملء
قصيدتي هو بعض حالي المُثكل

ذاك الذي يئدُ التصور في صمي
م قريحتي ، ويعوق كل تبسلي

يا أمَّ عَبدِ اللهِ قد جار النوى
حتى كوى دم عاشق في الأكحل

ولكم ذكرتُ حليلتي في غربتي
عبْر المساء المستريب الأليل

فوددتُ تحريق الكلام لأنه
وهمٌ تسربل بالرباب المُثقل

ووددتُ تمزيق القريض لأنهُ
غمر المشاعر بالسراب المُبطل

ووددتُ تحطيم اليراع لأنه
صاغ الخواطر بالمِداد المُخجل

ووددتُ تذويب الحُرُوف لأنها
نفرت كمثل الأخطبوطِ المُقبل

ووددت تدمير القوافي أنها
قد راوغت كالأفعوان الأهزل

يا أم عبدِ اللهِ ، تلك رسالتي
وسطورها عانت كوردٍ مُثعل

لكنما وجمتْ وُجوم حَجارةٍ
صَمّاءَ مثلِ الصمت ، لم تتحول

ولكم ذكرتك عَبَرها برويةٍ
وفزعتُ مِن هولِ المُصاب المُعضل

فسألت رب الناس نصراً عاجلاً
يجتث ما أدماه فعلُ الحَيقل

ولكم ذكرتُ صلاتنا وسماعنا
وقراءةً حيويةً ، بِتَهَلُّل

وسماعَ تدليل الصِّغار برقةٍ
وزيارة البحر العجيب المُذهل

وهناك يُرسل مَوجه متأرجحاً
ويمُدّ كفَّ البائس المُتسول

والشمسُ تبعثُ بسمةً ذهبيةَّ
نلهو بها مع أغنياتِ البُلبُل

معنا رضيعٌ نائمٌ وأخُوهُ يل
عبُ بالهدير ، بفرحةٍ وتغزل

ويُجمّع الأصدافَ ينثرها على
وجه المياهِ ببسمةِ المُتغزل

يضعُ المَحَار على الرمال كأنها
بيتُ العناكب في ثنايا الجدول

ولقد تُحدثه القواقع خِلسة
وهو الذي - من لحنها - لم يُذهل

حتى إذا شعر الصغير بنا نتا
بعه توقفَ عن حديثِ أشمل

وأخوه في نومِ يغطُّ وليس يس
ألُ في الدنا ، شبلان بين الأشبل

درسَ الحياة ، فلم يجد ثمناً لها
هيَ قِبلة المتبطر المُتبذل

لم تلتصقْ هذي الحياة بقلبه
ودمائه ، أو عِرقه أو مِفصل

لم يدخل الدينار يوماً قلبهُ
أنعم بصاحبِ عِزةٍ وتفضُّل

مِن أجل ذلك نام عند الشط ، لم
يَقلق لدنياهُ ، ولم يتململ

ما ذلك الشرفُ الرفيعُ أيا فتىً؟
شهماً أراك ، ولستَ بالمُتمحّل

واليوم قد رحل الجميع ، فلا أرى
في غربتي غير العميل الأرذل

ما من صديق ، أرتوي بلقائه
ويُحبني ، وأحبهُ بتَفَضُّل

ما من خليل يرفعُ الأحزانَ عنّ
ي ساعةً ، واهاً لكربٍ مُهْول

إلا أخاً في الله قد أحببته
يبكي على ألمي بكاءَ الثُّكل

رحل الأحبةُ عن ديار مشردٍ
خنقوه بين المفتري والأيبل

تركوه - في نارِ الخيانة - يكتوي
وهو البرئُ ، من الصنيع الأسفل

يا أم عبد الله هذي قصتي
سطرتُها بدم المَصيرِ الأشهل

أين الصِّغار بصُنعهم وصنيعهم؟
ولمن عتابي بعدهم ، وتدللي؟

غابوا عن العين التي دمعتْ لهم
يا قلبُ حَولقْ في المُصاب ، وحَوقل

لكنما عن قلبيَ المَجروح لم
ترحلْ حقيقتهم ، ولم تتحوّل

إني - على المأساة - أشرب دمعتي
أسفي على مُسترجعٍ ، ومُحمدل

أما القريض ، فهل يُعيدُ نضارتي؟
أنا في ريَاضِ الشعر لم أتجولِ

لكنما هي عادتي ، وطريقتي
فإذا بُليتُ فلي رسوخُ الأجبُل

هو ديدني عِندَ المُصاب هُو الكتا
بُ ، وثَم تذكيرٌ بمولانا العلي

ثمَّ التصبّر ، والصلاة بذلةٍ
والقلبُ فيها كالصفاة الجيهل

ثُمَّ القريض أبثه شكوى المُصا
ب بلا هوىً ، وبدون أي تَجَعُّل

وأُطيلُ ذِكرَ الله فيه مُردّداً
سُبحان ربِّ مُنعم مُتفضل

مُسترجعاً ، ومحولقاً ، ومحوقلاً
واللهُ ينصر ضعفَ كل مُبسمل

يا أم عبدِ الله آلمني الفِرا
قُ ، وهزني طولُ العنا والدَّهكل

كم كنتُ ألعب بالنعيم وبالثرا
ورأيتِ لي - في الناس - عذبَ المَنهل

واليومَ مَقلُوبٌ لنا ظهرُ المِجَ
نّ ، كأننا في عزنا لم نَدخل

زلَّت بنا أقدامُنا لمّا غفل
نا ، عن عبادةِ ربنا بِتذلُّل

وقد احترقنا عِندما عبثتْ أنا
مِلُنا بنارِ نفاقنا المُستأصل

إنا عرفنا الحقَّ فعلاً ، غير أنَّ
ا قد تبعنا غيره ، بترسُّل

واليومَ نستجدي الرغِيفَ المُر من
أعدائنا ، أبئس بذلُ النُّهضُل

وترينهم بَخِلوا بشيء من قما
مة بيتهم ، يرمونه بالمزبل

بالأمس كانوا يَمرحون ببيتنا
تباً لهم ، أقبحْ بشر أراذل

يا أمَّ عبدِ اللهِ عانت أُمتي
من قاصماتِ مُرةِ لم تَعدِل

سُحقت جميعُ ديارِها ، واليوم في
ذيلِ الشعوب ، ورهن أمر الأيبُلي

سِيقتْ بغير هوادةِ ، وكأنها
إبلٌ تمُرُّ سُدىً ، فلم تُتأبَّل

أُخِذتْ إلى الشيطان يأكلها ويش
ربُها ، فويلٌ للأكول الأوتل

وأقام مَجدَ الآل فوقَ رِقابها
بالله يَومُ الفتحِ لم يُتَأثل

ونراهُ أوصى بالأذى أعوانه
فلكفر إبليسٍ مَضى بتأسُّل

وأذلَّ شعباً ، واستباح وديعةً
وقد اقتفي أثر الهَوَى بِتأصُّل

والقومُ في دَركِ الضلالةِ نافقوا
وبنوْا سُقوط ضلالهم بتأفُّل

وتنكر الشيطان للجمع الذلي
ل ، ومَن يعش يُرضي العِدا يُستأكل

يَمتصُّ مِن دَمِ قومه ما يشتهي
ويَهيج في الدنيا هِياجَ الزَّعبَل

مأكولُه خِرفان جمعِ مُعرضٍ
كيفَ الطريقُ إلى التهامِ الخيعل؟

ولقد نظرتُ إلى الحَميرِ فما وجدْ
تُ مزمجراً ، فهتفتُ: لا تتأمل

إن الحمير تزِفُّ للشيطان أج
مل غادةٍ ، أتراهُ لم يَتَأَهَّل؟

وإذا تمعَّر وجهُ أي مُوحدٍ
متميز ، والجمعُ لم يستبسل

ليُحق حقاً ، أو ليُبطل باطلاً
فالسُّحقُ والتشريدُ للمتبسل

وإذا به عند الطَواغى دافعاً
ثمَنَ الشجَاعةِ والكلام الأمثل

هو وحدهُ في النائبات منافحاً
عن دينه ، وتراهُ لمْ يتغافل

هو ليس يعبأُ بالعذاب وبالأذى
فله اصطبارٌ كاصطبار الدعبل

هو ليس يخشى الموت وثاب الخُطا
هو جلمدٌ في الحقِّ مثل الأجدلي

هو عطرُ هاتيك الحياة وروحها
هو باذلٌ للماءِ بَذلَ الجدول

لكنما هذي القلوبُ حجارةٌ
هي صَلدةٌ بأُناسِهَا كالجَرول

تحيا لتُشبع شهوتيْ بطن وفر
جٍ ، كالغراب المُستميتِ الأحجلِ

لو أنها أُخِذتْ مِن الشهوات تل
محُ خيلها قُدُماً تَمَرُّ كجحفل

بالأمسِ كانت في الذُرى دنيا وأخ
رى ، لا تَذِل لمجرمِ أو بُهصُل

تحيا لتعبدَ ربَّها ، وشؤونُها
في القوم - فوق الأرضِ - لم تتبلبل

بالأمس كانت أمَةً تحيا لدي
ن قيَّم ، جمِّ الشمائل مِكمل

هي فوق كل الخلقِ نورٌ يزدهي
هي في الدنا كالمارد المُتبَلل

وطعامها خيرُ الطعام وللمُحا
ربِ سَيفُها ، ويُبادُ خلفَ الجَندل

أعداؤها في الذيل ليسوا يأكلو
ن سِوى بقايا مِن نقيع الحُتفُل

ولها المَقاماتُ العُلا ، ولغيرها
مِن كل شيء بائِداتُ الحِسفِل

مَن نال مِنها أدبتهُ ليوثُها
إذ كيف تعبثُ نملةٌ بالمُرمل؟

من قال فيها قولةً مكذوبةً
في ظهرهِ الجَلاَّد لم يتغّزل

لكنْ يَردُّ الحقَّ ممن قد بغى
والسيف تِرياقُ الدنئ الأرذل

كانت لنا ذخراً ، وكانت مَعقلاً
للدين والإيمان خَير المَعقل

كانت لنا نُورَ الدُّروب ونجدةً
أكرمْ بأيامِ الجُدُود العُسَّل

واليوم في قاع التَّردي ترتدي
ثوبَ الضلالة ثوبَ كُل مُضلل

السَّيد المِغوار بات مُسيّداً
أعداءَه ، ويزورُهم بتجمل

بَعثَ الصليبُ هشيمه في أرضنا
والحق ضاع ، ترينه لم يعمل

يا أمَّ عبدِ اللهِ ضاعت بَيضةٌ
وتقلدَ الشيطان بأسَ الصيقل

والجمعُ لاهٍ في تَرَدِّي عُهره
والفِطرةُ انتكستْ سُدىً بتبذُّل

ورياحنا ذهبتْ ، وضاع إباؤنا
وترين مَن يقل الهُدى يُستبدل

فالكون منتظمٌ ، ويعبد ربه
والجمع في الغمرات ، لم يتعدل

وإذا بدت في الدار نبتة صحوة
تسمو بقنو النخلة المتعثكل

وتريد خيراً للحمير ومرتعاً
وتعيد أمن الواجف المتخلخل

وتعيد هَديَ الله في الأرض التي
بالأمس كانت في الجناح الأمثل

دَفعتْ مقابل دينها أجيالها
وتجرعتْ دمها بنصل الصيقل

وتشرّبتْ بالموت أصقاعُ الحمى
للهمّ لطفك بالنساء الثكل

بالأمس كانت من ديار المسلمي
ن ولاية ، في حِضنها المتجمل

وعلى رؤوس القوم (عمروٌ) ينثني
تيهاً ، يجوبُ رياضها بتنقل

هو قد أقام الدين فيهم جهرة
وبرغم أنف المُشرك المُتمحل

زالت عن الأرض السليبة سُلطة
وَثنية ، يا للعُتاة العُزل

والمشركون بكَوْا أصيل (حضارة)
شركيةٍ ، مَن لم يَلمْ لم يعذل

لمَّا رأوا بأس الأباة الفاتحي
ن تروّعوا ، حسِبوا حساب الصيقل

وأزال (عمروٌ) أمة وثنية
وأقام صرح المسلم المُتعقل

سُقيا لعهدك يا أمير ديارنا
أواه من دمعي الغزير المُرْسل

أبكي غياب الدين وحدي سيدي
متحيراً في شغل نفسي المُمْحل

النعلُ في قدميك أشرف من وجو
هِ شياهنا ، سُقيا لعز الأنبل

والريق في فيك الطهور تمجّه
أنقى وأطهر من قطيع الدوبل

وسلا الجزور بأرضكم يا سيدي
وبُعيض شيء من تراب الخشبل

أنقى من المتألهين عُتاتنا
ومن الشباب الفاسق المُترهل

مَن بدلوا هدْي الإله وشرعه
وفق المزاج المستهين الأوحل

أما العُتاة فبدّلوا ، وكذا الشبا
ب تصامموا ، والكل لم يتهيل

شبّتْ على هذا الضلال شِياهُنا
وعليه تقضي عمرها بتكهل

والأمر أمر عقيدة يا سيدي
فاز الذي عن علمه لم يعْدل

مَن كان يجهل أصل دين ينتمي
فرضاً له ، وتراه لمّا يسأل

هو لم يزل في زيفه لا ديننا
أفتى بهذا القطع هَدْيُ الكُمّل

هي بعض ما ترك الأوائل حِسبة
هي رهْن أمر المستفيد المُقبل

مَن كان مستناً عليه بمن مضى
ومعينُهم عندي رطيبُ المَنهل

يا أم عبد الله آذاني الجوى
وتوشح الليلُ العبوسُ بمِنجل

وأقامتِ الأوهامُ عندي مأتماً
وتضرمت في القلب نار الدهكل

والأمنياتُ تبعثرتْ عبر الدجى
والخل أمسى كالبعير الأخزل

وتفصدتْ مني العيونُ تحجراً
تبكي الفراق ، كأنها في مِرجل

أنى اتجهتُ أراكمُ في واقعي
في فكرتي ، في مشربي ، في مأكلي

وأظل أرمقكم بكل طويّتي
وبنور طيفٍ عبقري أفكل

وتمر أنسام الحياة رهيفة
تحنو على قلبي الذبيح المُقفل

ويحين وقت رحيلها ، فتشير لي
فأقول: يا أنسام لا تتعجلي

ويعِنّ طيف عِيالنا في حجرتي
ما بين زاهٍ لونه ، أو كربل

ويظل ينشر عطره في واحتي
ما بين ميمنةٍ ، وأخرى شمأل

ويقول شعراً في النسيم ، كأنه
بالرمز ، لم يقطعْ ، ولمّا يفصل

هو راكبٌ متن العبير مغرّداً
وأحسّ وقع مسيره بترجل

يا أم عبد الله أين جواركم؟
كُبّلتُ بعد رحيلكم بالغرزل

حتامَ يرحمني وصالُ حليلةٍ
واكرب قلبي من حبيب مقول

هو حافظ حق الوصال ، وعنده
لقيا حبيب القلب أغلى مأمل

ها ناوليه العزم ، يوماً وانظري
سيكون في الهيجاء مثل القفصل

أو صدقيني ، إنه مترفعٌ
وعلى المهيمن في الأمور توكلي

هو ليس يحسب للخطوب حسابها
فسلاحُه التوحيدُ قبل المنصل

يا أم عبد الله إن العين تد
معُ من أليم فراقكم ، بتهمل

والقلب عنفه الكرى بسياطه
وعتاب طيفٍ ناعسٍ ومُجَمل

ولواهناتِ الدمع طرفٌ باسمٌ
يرنو بشوق ساطع ومُذيل

أعني دموع طويتي وعواطفي
هي في الشجون كما النبات المُبقل

أنا لست من يُخفي المشاعر لحظة
أنا ثائر ، أنا لست بالمترهل

والدمع في عيني شديد وخذه
لكنما في الحق مثلُ النهضل

وكتائب الضُلال أزبدتِ العَدا
وتفننت في ضربة المتقول

وتقولتْ ، وتحللتْ ، وتكبرتْ
وتظاهرت بمحبة ، وتكمل

كتبت إلى الشيطان تشكو ما ترى
وتنصلتْ من كل حق مُخضل

كتبتْ إليه تؤزه ، وكذاك قد
ذهبتْ إليه بلوعة المتبتل

لتدله فعلاً على جند الإله
وحزبه ، بكلام زيفٍ مبطل

نسي البغاث بأن رب الناس فو
ق رؤوسهم يا للعظيم المبتلي

هو يبتلي أحبابه وجنوده
قبل اللقاء بساح يوم فيصل

هو كهفهم ، هو نصرهم ، هو قصْدُهم
سبحانه من قاهر متفضل

هو يقصف الفرعون يمحو كفره
ويُحيله هدراً وبعضَ تبكل

يا أم عبد الله أوهامٌ بدتْ
في خاطري ، ثم انتهتْ بتحول

ودنا الخيال وقال لي: لا تنفعلْ
وإذا الهواجسُ فوق جسم مرطل

تنهال فوق عظامه بسيوفها
وتحطم المسكين دون تولول

والحزن سامرني ، وبدد وحشتي
من يفعل السوآى يهنْ ويُغربل

أما الوشاة ففيّ باعوا واشتروْا
قسّمتْ بين مُبددٍ ومُغفل

أنا في العيون وضعتهم ، وعزلتُ نف
سي عن دويّ مكائدٍ وتزحل

أنا ما اعتديت على الوشاة لحيظة
أنا لست للدنيا هنا بالمِرول

أكرمتهم يوماً ، ولم أكُ حاذراً
ليس الكريم على الرفاق بحيقل

آثرتهم عن أهل بيتي بالذي
ملكتْ يدايَ بكل حب أكمل

أعطيتهم كل الأمان ، ولم أخنْ
أنا لم أعرّضهم لصولة غشفل

صارحتهم ، ودفعتُ سِري عندهم
أنا لم أسلمهم لمِخلب غيطل

ومنحتهم وقتي ، ولم أكُ نادماً
إن الجواد بوقته لم يبخل

ودفعتُ طفلي بين أيديهم ليع
رف صحبه ، ويُسر بعد تدلل

وأمِنتهم في كل قول قلته
من خاف بأس الناس لمّا يُجزل

ودفعت طعمة أهل بيتي عندهم
وأكلتُ ما استبقيتُ لي من حتفل

في يوم عُرسك قد عَصرتُ مدامعي
وتُركتُ في المَيدان ترك المُهملِ

فُرضتْ عليَّ تنازُلاتٌ جَمةٌ
فزأرتُ: أني لستُ بالمُترهل

وتركتُ مسجدهم ، وسرتُ بمفردي
وسِتارُ بيتي حوله لم يُسدل

والمسرحيةُ أُحكمتْ حَلَقاتُها
والعَذلُ لاهٍ في خِداعِ المَحفل

وصُويحباتُكِ قد ملأنكِ فرحةً
بدُفوفِهن ، ودندناتِ البُلبُل

أنشدن رغم صيامهن ، وقد ملأ
ن الجَو شعراً كالنسيم الشلشل

وسَعدتِ فِعلاً بين أنقى صُحبةٍ
وبقيتُ - وحدي - صامتاً كالهَيكل

وأخذتُ يُمنى زوجتي بطلاوةٍ
ودخلتُ بيتي ، والهنا لم يُقبِل

فهتفتُ أن لا يدخُلنْ بَعدي الهَوا
ءُ ، ففارقوا ، والعُذرَ لم أتقبَّل

صَليتُ بالزَّوج العِشاء ببيتنا
وتلوتُ آي الذِّكر في الرُّكن الخَلي

ومكثتُ – دهراً – في (المخيم) هانئاً
ورأيتُ زرعاً يانعاً في المَشتل

في الصُبح أذهب كي أعيذك من طُوىً
وكذاك مِن ثوب رثيثٍ مِبذَل

وأعود - بعدَ الظُّهر - مُرتاحاً ، وطُع
مة بيتنا خجلى تُضئُ تَفضلي

عامانِ في كنفِ المُروج ، وحِضنِ أح
لام الشتاء قضيتها ، لم أحفل

يأتي الشتاءُ نحبّه ، ويحبنا
إن الشتاءَ بأرضكم لم يختل

أما الطيور ، فقد بنتْ أعشاشها
وتجمعتْ ، مرحى بأندى جَحفل

وكذلك الحَقلُ الفَخورُ يُحبُّنا
لكِ قد تمطى أمسه ، واليوم لي

والماءُ مُنسابٌ يلي قنواته
بالخير جادَ ، وبالهناءِ المُجزل

ودجاجُ أُمّكِ في الروابى باحِثٌ
عن قوته ، إنْ في الذُّرى أو مَعزل

وأرانبُ المَطر المُسجى ترتوي
فعلى مَساعيها العَنا لا ينطلي

والَبطُّ قد عبثَ الغَرَامُ بريشه
فإذا به - في الأرض - لم يترسَّل

بل غاص في أعماق نهرِ باسم
والريشُ ملتفٌ كصوف المِغزَل

والزَّهرُ فوق الزهر ، يُقري ضيفه
حتى السَّحاب ، يُظلنا بِتطَفل

والوَردُ تِلوَ الورد يأسرُ حبنا
والعِطرُ من جوفِ الربا لم ينسل

ونسائمُ الغيمِ المُغنِّي تنتشي
طرباً ، وتأتي من أعالي الأجبُل

ومفاتنُ الفرح المُغردِ تنثني
تِيهاً ، وتصدحُ بالغِنا كالبلبل

بعثتْ رسائلها لنا مَربوطةً
بخُيوطها ، أعلى جناحِ الجوزل

والشمسُ تُرسلُ في الضحى إشراقها
وترينَ شمسك باللقا لم تعدل

والليلُ لمّاحُ السَّنا مُتعطرٌ
في سرعة ، ما إن يَحلَّ فيرحل

والأفقُ ماضٍ في مُغازلةِ الرُّبا
ويبيتُ يُظهرُ نَشوةَ المُتهول

حتى الطَّريق يُحبُّ فينا حُبنا
ما إن نَسِرْ فوق البِطاح فيَخجل

هل كُلُّ ذلك تَذكرين عزيزتي؟
حتى تَذودي تارةً ، وتُخذِّلي

هل بَعد هذا ينتهي إخلاصُنا؟
عجباً لحُب باهتٍ مُتزلزل

أنا لا أُصدّق أنَّ هذا سَمتنا
يا للأسى إن شئتِ عني فاسألي

فِي اللهِ قد أحببتُ حُبكِ وافترش
تُ قصائدي ، وزرعتُ خير السُنبل

وتفيأتْ رُوحي جميل مودةٍ
بعد الزواج المُخبتِ المُتجمل

فلم التحرشُ بالمُحب وحُبه؟
(ما الحبُّ إلا للحبيب الأول)

قد قال ذلك شاعرٌ يُردي الهوى
أنا لستُ سماعاً لِقيل أهزل

(نقّل فؤادك حيثُ شئت من الهوى)
سيموت قلبي – اليوم - إن يتنقلِ

وأعُود أسأل أم عبد الله سُؤ
لَ متيّم مُتوددٍ مُتغزل

هل بعد ذلك تنقضي آمالُنا
ونعود نضربُ في الرماد المُمْحل؟

هيا بنا نبني دعائم مجدنا
فالفوز للمِقدامِ ، لا للمُبطِل

إني على المَلهاةِ أشربُ حُرقتي
وأبيتُ يكويني أليمُ تَعَللُّي

أتذكرُ الماضي وحُلو دُروبه
واليومَ أنظرهُ كبعضِ الطيسَل

أتذكرُ الأيامَ ، كيف تناثرتْ
وسْط الرُكامِ بِمِخذم وبمعول

أتذكرُ الناسَ الكثيرةَ حَولَنا
ورغيد عيش في الزمانِ الأرغَل

أتذكر الأفراحَ ملءَ عُيُوننَا
كيفَ استكانت للعُتاة البُسل؟

أتذكرُ الأُم الحًنون ، وطفلها
والآن تتركُهُ لِلوم العُذل

بل كيفَ ذاك الوهمُ أمسَى واقعاً
وطيُوف عُمرِ المَرءِ لم تتجمل؟

حتى الهَزارُ العّذبُ أضناه الهَوَى
وهُوَ الكريم فلم يكن بالحيقل

وكذا الزُهورُ الذابلاتُ بأرضنا
عُصفتْ ، وتاهت لانغمار المَوئل

أتذكرُ الأطيار صادِحة الصدى
خلف العَريشِ تعطرتْ بالمَندَلِي

أتذكرُ الساعاتِ قد قضيتُها
أتلو ، وأكتُبُ في سُكُونِ مُسبل

أتذكرُ الأغنامَ تُحدث ضَجةً
ليست تخلَّى عن حديثِ مُهَتمل

أتذكرُ الغيثَ المغيث بدارنا
لو كان يُجمَعُ في عميق المَوشل

أتذكرُ البرد الطعين ، وقد برا
هُ شتاؤنا ، وعلا الندى بالهُلهُل

أتذكرُ الكتكوت يَنقر بيضةً
ما إن ير الدُّنيا حلتْ يتفخلِ

ويسير خَلفَ الأمِّ تسبقُهُ الخُطا
مُتميزٌ في سيرِهِ كَالقِسمل

أتذكر اللُّقيا بهمس حائر
والشوقُ يقطعُها كسيفٍ مُقصل

ويُثيرُ عاطفةَ المُحبِّ تشفياً
فيزيدُ في ترنيمةِ المُتسطيل

أتذكرُ السَّهر المَريرَ بليلنا
يَكوي المشاعر ، في المساء الأليل

أتذكرُ القُرآن في خلواتنا
قد كان يمحو ضيقَ كُل مُكدَّل

أتذكرُ الفذ الكَريم بنُوره
كيف (الكتابُ) يَصوغُ نُور المَعقل

أما (الفوارقُ) فهو مصباحُ الدجى
يا للفوارق من حُسام فيصل

إنْ في (الكتاب) أوِ (الفوارق) شيخُنا
رجُل العَطَاء العَبقريّ الأكتل

إنْ في (الدقائق) ثُم بَعدُ (مقوما
تُ دقائق) ، القولُ ليس برَهبَل

الفذ قد كشف الضلالة باليرا
ع وبالفعالِ ، وردَّ كيد الخيعل

والفذ أظهر دينهُ وسط البُغا
ث ، ولم يخف بأس الكَفُور الأرعل

والفذ صاغ كتابه بدمِ الشهي
د ، وروحُه في الغيّ لم تترتَّل

والفذ مهما أكثروا تجريحهُ
في الحق ليس بخانع مُترعبل

والفذ لن يستعدي الشيطان أو
أذنابه ، إما يُهنْ فيُحسبل

إن التحاكم للطواغى ردةٌ
أتخافُ أسْدٌ مِن عُواءِ الخَيطل؟

لا يملك الفرعونُ شيئاً في الدنا
فعلام نضربُ في العَمَى كالمُيَّل؟

وعلام نُعطيه الأمان ، وقد طغى؟
والظلمُ في الآفاق لم يتدلدل

أتذكرُ الأسفارَ في أرحابنا
وهضابنا ، وقفارنا ، والأجبُل

بالبرِّ أو بالجو كان رحيلُنا
أو بالسفائن ، عبر ماءِ النوفلِ

كم ذا تعبنا من أليم رحيلنا
كم ذا تعنينا لبُعد المأمل

أتذكرُ الأهوال كيف ركبتُها
وظللتُ فيها كالجَرَاد المِمغل؟

أتذكرُ الفجر الخَجُول هنيهةً
لا ينكر الخِلانَ غيرُ مُغفل

وألاحق السحَر الوَليدَ أبثهُ
نجوى المَشوقِ لنُورِ يوم مُقبل

خاطبتُهُ: أبشرْ أيا سَحَر المُنى
إني - على الآهات - لم أتخذل

في لحظةٍ مُلتاعةٍ ألفيتهُ
قد ضاع في أرض فلاةٍ مِجْهَل

أتذكرُ الحرب الضَّروس ببيتنا
ضدي ، وإني لستُ قط بمجهل

كلُّ يلمع سَيفهُ ، ويحدّه
ليكون أمضى من نصال الفِرزل

عجباً لأمر قرابةٍ ، وأخوةٍ
ابنٌ يُقطع بالحُسام المُقصل؟

إن الكَلاَم لعاجزٌ عن وصفكم
ترمون مُسلمَ بَيتِكُم بالنهشَل

وطُردتُ طرد مُعربدٍ ، ومخرّبٍ
وانفلّ ظهري ، كالبعير الأخزل

ومكثتُ أياماً ، أبيت على الطُّوى
وكأنني في القوم (كلبةُ حَوملِ)

وهرعتُ للأصحاب ما رفعُوا الأذى
فمشيت - بين شوراع - كالدلدل

يهتاجُ في جوفي اللظى ، وإذا ظمئ
تُ فإن رِيّي من نمير الحَومل

يلتاعُ في قلبي الوفا ، وإذا
أردتُ الأكل يُشبعني رطيبُ الحُنبل

ويئنُّ دمعي ، والسَّرابُ هو الدوا
يا ليتني مِن سُمه لم أنهل

ويئن في عقلي صَّدى ماض ثوى
وأنا رثيتُ رحيله بتعقلي

والأكلُ جافٍ قِرددٌ ، ولئن أرد
تُ خِتامهُ ، أمسكتُ بعض الحيصل

أما قراطيسُ القريض فبعثرو
ها في المتاهة في صخور الجَرول

فاعجب لهذا يا زهير ، وغنني
شعراً على أنات آهة (دِعبل)

فالكلُّ يضرب فيّ ضرب مُجالدٍ
وكأنهُ بالفأس لم يتركَّل

حتى الأُخيّةُ ، لم تُراع أخُوةً
ضربتْ بشيء من هزيل المِرْول

حتى الرضيعةُ كابرت في ضربها
بهُراء لغوِ صائب ، ومُرهبَل

وسنِىُّ عُمري في اللظى قضّيتها
متشتتاً ، كالأفعوانِ المُجفِل

إني - إلى بيت عريق - أنتمي
إني لمِن نَسبِ أصيل مِكمل

أنا جّدُّ جدي في الشجاعة ضيغمٌ
أنا مِن عشير ذي مَقام مِزيل

أنا ليس في قومي رقيع فاسق
بل ، ليس فيهم من خليعِ مِمذل

هم في إغاثة مُستغيثٍ صُبُّرٌ
وفوارسٌ في الحرب لم تتقثعل

هُم في الصعيد ، وفي التلال أشاوسٌ
وعلى الجبالِ ، وفي رمال عقنقل

لكنهم ماتوا ، وعاشت حِفنةٌ
منسوبةٌ لثرى الصعيد المُخضل

ليسوا كمن رحلوا ، ولكنْ جَوقةٌ
تُركتْ على جسر الحياة المُهمل

قد جاوز الستين كهلٌ طاعنٌ
في الفن يشقى شِقوةَ المُتبذل

وتراهُ تُبكيه المَلاهِيَ دائماً
عجباً لهاتيكَ العيون الهُمَّل

كهلٌ أضاع العُمرَ في شتى الفنو
ن ولم يَزل ، يا للعجوزِ الرَّهدَل

راع تسلط بالغُرور ، ولم يَزلْ
متسلطاً ، يَلهو بعيش غيدل

يا أمَّ عبدِ الله أتعبني القري
ضُ وهزّني ، والجهدُ يملأُ قَيهلى

وإذا علمت مرارتي ، وحرارتي
ومُصيبتي ، إن كُنتِ في جهل سَلِي

يُخبرْك كُلُّ الناس أني ثابتٌ
رغم الشَّقا ، بل أمرُ إعيائي جَلي

لكنما مُتصبرٌ ، فترفقي
رحِمٌ أنا لكِ ، فاقطعيني ، أو صِلي

بل أنت - بعد الله - عَوني في الدنا
والعيشُ - بعدَ الظعن - لم يتحفل

أنا بعدكم نَصَبٌ ، ويعلمُ ربُّنا
يا لي هنا من ضائعِ ومُخردل

فلقد رَحلتم ، ثُم شَطَّ بي البكا
والوهمُ في كيل الشقا لم يذأل

واللهُ يعلمُ أنَّ عِطر شبيبتي
ولىَّ ، وضاعت أُمنياتُ المِزيل

إن قلتُ إني ضِعتُ في شطحاتِ در
بي ، ما كذبتُ ، وقبلُ لم أستسهل

بابي على ذنبي أراهُ مَغلقاً
بل حيثما أجدِ الهوى أتململ

أيامَ كُنتم ملء عيني كنتُ في
كبد السما ، أرنو لأرقى مَنزل

لمّا تعُقني في الحياة كوارثٌ
وكذاك لم أحفل بأقسى دهكل

نارُ الحياةِ نجوتُ منها سالماً
أمسِي وأصبح مثلَ أيّ سَمَندل

نارُ الرُّكام الجاهلي ردمتُها
ومحوتُ مِن رأسي رُموزَ سَبَههل

نارُ النفاق تعقبتني مِن جنو
دِ فراعن ، كانت كمثل الدُّمل

هي أحرقت بيتي وثوبي والصحا
ب ، وليس تحرقُ زمجراتِ القُفصل

نارُ العَمَالة في الضمير كما اللظى
والنفسُ أدمُعها كمثل الحَومل

وتظن بالأشراف ظناً سيئاً
جداً ، وتحْسنُ ظنها بالغشفل

كانت لنا يا أم عبدِ الله دا
رٌ ترتدي ثوباً بهيم المِفشل

ويلفُّها سُورُ الحديقة شامخاً
بيدي ملأتُ رُبُوعه بالكَربل

وجعلتها وطن الجميع ، ولم أش
حّ بها لنا ، أنا لَستُ قطُّ بفصعل

بالآي آي الذكر قد زينتها
حتى غدت بالصدع أطيبَ منهل

ووضعتِ لؤلؤتيكِ تحت سَمائها
والروحُ تزجي السير سير الخَيزل

ورأيتُ فيكِ الأم تعطي عطفها
وحنانها ، عجباً لأم مُطفِل

والآن فرقنا (العَميل) بفعله
وكلامه ، عجباً لكيدٍ مُختل

هو أمر ربكِ ، لا تخافي قَط أو
تتألمي ، عيبٌ عليكِ ، تحملي

كانت لنا بين الأنام مكانةٌ
ونهيم في عيش رطيب غيدل

ولكِ الشهامةُ والكَرامة والعُلا
يا أمِ عبد اللهِ زينتِ الحُلي

وإذا مَشَيت ، فللمسير شُروطهُ
ولباسُهُ ، أخفاك كُلُّ تَزيُّل

وأظلُّ في سِري أقولُ تولها
وأظل أذكر ربنا بتسبحُل

إني ولؤلؤتاكِ نعرف فضل أمٍ
حُبها أثرى ربوعَ المَوئل

إى ، أنت أمٌ للحليل وللوليد
وإن أبى هذا قطيعُ القُمَّل

أنت الحَنانُ ، وأنتِ غيثُ حَيَاتنا
أنعم بغيثٍ طيبٍ مُتشلشل

بل أنت رِزقٌ ساقهُ المولى لنا
في ليل عُمر عابسٍ ، ومُليل

إي أنت والأولاد بحرُ سفينتي
والشرُ في الأولاد لم يتكمهل

أنتم نسيمُ شبيبتي ، وقريحتي
وجنانُ ماءٌ من سحائب هُتل

أنتم دوائي إن مرضت وموئلي
أنتم حياتي رغم (زيدٍ) أو (علي)

روحي فِداءُ حياتكم ، هذي وصي
ة ديننا ، سُحقتْ جموعُ العُذل

من أجلكم أطأ الحياةَ بعزمتي
وكذا الربا إن كنتُ لم أتوعل

أنا ليس تُعجبني الحياةُ ذليلةً
وكليلةً ، فالجُبن طبعُ الأقزل

كانت لنا دارٌ ، وكُنتِ ضِياءها
والدِّينُ زيَّنها بكل تَجَمُّلِ

كم أسعدَتنا فِكرةٌ ورؤىً ، وكم
أسعدْتِنا بطعَامكِ المُقرنفل

كم ذا درسْنا العِلمَ في دار الهَنا
والحق قلناهُ ، ولم نتعلل

وإذا كِلابُ الأرض تهدم دارنا
رغم النفاق وأهله في القسطل

عجباً لأمر كلاَمِهِم ، وفعالهم
القِردُ يَصعد فوقَ هَامِ الشمشل؟

والخُنفساءُ تُهدِّد الأُسْد الضَّوا
ريَ بالردى ، أحقرْ بفعل كبرتَل

وذُبابةٌ تُردي قطيع سلاحفٍ
وتقُصُّ بالمِقراضِ خُفَّ العندل؟

وينالُ هِرُّ من عُقاب جَارح
ويُقيمُ مِتراساً بِوجهِ عقرطل؟

أتَفُتُّ في عضُد الصقور يَمامةٌ؟
وتنال من نَسر ربيبةُ عَنظل؟

أينالُ كَلبٌ قد عوى من هيثم؟
وتنال ريحٌ من تلالِ الأعبل؟

أتسَوّدُ الأوهامُ وِفقَ هُبُوبها
ومِزاجِها ظَهرَ الجوادِ الأرحل؟

أيُخوّفُ الجَملَ القويَ بقَضهِ
وقضيضةِ - بالله - ظِلُّ الأرخُل؟

والحُوتُ في جَوفِ البِحار ببأسهِ
أيخافُ شيئاً مِن تحدي الغنجُل؟

والطَّيرُ في جَوَّ السَّماء مُرفرفاً
أيخافُ يوماً مِن تلوي الزعبل؟

والبحرُ هَل بعضُ الرَّماد يُريبه؟
أم هلْ يُعكرُ بانهمار الكندلي؟

والأرضُ - قولوا - هلَ تُبدِّد نورهَا
وجمالها - يوماً - ظِلالُ الكهبل؟

إنِّ السَفينةَ في عُباب المَاء تم
خرُ لا يُرى منها شِراعُ الكوثل

رُبانُها بالنصر قد عقد اللوا
قد بات - في الأحلام - لم يَتَقيَّل

والراكبون ثَلاَثَةٌ: أمٌ ولؤ
لؤتان ، نُورهما بدا كالكربل

مِن حُبكَ الفياض يا ملاحُ فاب
ذل للجميع ، وكِلْ لهُم بالقنقلِ

وإذا جَهلتَ الدرب في البَطحاء خذ
هم صَوبَ وادٍ عند سفح العَوكل

وأعذهُمُ بالله مِن شَر الهَوىَ
واحمدْ ، وكبّرْ واصطبرْ ، بل هَلِّل

واقدُر لِميعاد الصَّلاة ، وصَلها
مَعهم ، وقل للطفلِ كَبِّرْ ، حيعل

وإذا بُليتَ بِنعمةٍ فاحمد ، ولا
تكُ لاهياً أبداً ، فلستَ بمِقمل

في هودج التوحيد فاستُر أسرةً
واحذر مِنَ الشَّيطانِ نزعَ المِفشل

واغمُر هَوَاكَ الحُرَّ في قارورة الت
وحيد ، بل وأتِمّ غلق السوجل

يا أمَّ عبدِ اللهِ قد خُتم القصيدُ
بفرحةٍ ، خَلفتْ دُعاءَ المُثكَل

إني على الأيام أشكو مِن (أنا)
(لأنا) بثوب في المُصيبةِ هِدمل

وعَزفتُ عن نَسجِ القريض إلى هُنا
لرتابتي ، مِن باكيات الطَّيسل

عجز اليراع ، فلم أُطق تكرارهُ
للفظِ كالقطرات لم تتفحَّل

وطغى الوداع على المِداد فمصهُ
عُوفيت يا قلم المُحبِّ المُثقل

وتمزق القِرطاسُ من ألم الجوى
فاشتاط كالرجل الغَضوب الفُقحل

والشِّعر ضاق بغُصةٍ ، عجباً لأم
رك ، كيف مُنذُ البدء لم تُظهرهُ لي؟

فلأشكونّ الحالَ للهِ الذي
خلقَ الوَرَى والكون ، مولانا العَلي

ولأحبسن قصيدتي في سِجنها
إذ إنها صِيغت بِغير تَجمل

لو أنها - في الجَاهليةِ - ألفتْ
لَمِشت بثوب في الحواضر خلخل

إن القريضَ قد اشتكى طُولَ الرقا
د ، بلوعة الأمل الضَعيفِ القُنصل

إنَّ القريض صديقُ هَمِّي ، أكحُلي
أيعيشُ إنسانٌ بِغيرَ الأكحُل؟

في الكربِ يَصحبنُي ، يُداعب وحدتي
وأراه مُنتبهاً ، ولمَ يتمكحلِ

وأُحِبُّ فيه جَزَالةً ، ورصانةً
كعُيون غِيدٍ في الشكاية هُمّل

ولقد حَفَفت قوافيَ الأشعار ح
فّ مُجمل ، قد فاق حفَّ السودل

وبكلِّ لفظٍ مات قد حبّرتُها
كجواد عُرب بائدٍ ، ومُسرول

في طَستِ ديِوان اليَعَارب قلبتْ
فلقد غمَستُ يراعها في السَّيطل

فتعنترتْ ، وتزهّرت فغدت كما
تَبدو الحقيقةُ في نَقِي سجنجَل

ولسوف تَعضلُ بالسفيهِ ، فلا يعي
منها ، كشعر شائكٍ ، ومُفلفل

ويضِّج شِعري في مدادي باكياً
يا ويح شِعر في المَسيرِ عرندل

والدرهمُ المنكود ولىَّ هارباً
وبُليت بالفقر الكظيم الحِسفل

والماءُ ماءُ العيش ولى مدبراً
سُقيا لماء بالتآلف سَلسل

وكذا العقائلُ أدبرت إلا العقيلةُ
زوجتي ، لم تبقَ غيرُ حزنبل

وجميلُ كلِّ العَيشِ يَمَّم وجههُ
نحو الجَفَا ، لم يبق غيرُ الحِسفل

وغضنفرُ الأصحاب فارق صَحبهُ
عجباً له ، لم يبقَ غيرُ الحِسقَل

يمشي على الأشواك صاحبُكم هنا
مترنحاً ، ذات اليمين وأشمُل

والثوبُ فوقَ إزاره مُتهَتَّكٌ
يا عيب ثوبٍ ذابلِ مُترعبل

والجِسم مَزقهُ الأديمُ ، وشجَّهُ
كخبيصِ قَمح آسن ، ومُرمَّل

والعَقل طارده اللظى بسلاحه
كنسيم هَجر جامح ، ومُرَهل

والشَّهم طَوَقَهُ النفاقُ بزيفه
كإزار سِحر ، بالضلال مُمرجل

والروحُ تُوغِلُ في الهروب طليقةً
كجوادِ قوم في السِّباقِ هَمَرجَل

والقلبُ يَخفقُ يشتكي أهل النفا
ق ، وما له عن نقدهم من مَعدل

نسَبُ التزيي بالمُسُوح مخيمٌ
قُوتلت من نسب بئيس مِكسل

وغلامُنا فوقَ المَكَائِدِ قد عدا
عجباً لأمركَ مِن غُلام مِكمل

يا أم عبدِ الله دونك مُلحتي
لفح الرحيلُ الشِّعرَ لم يتكربل

إني على لحن الرحيل عزفتُها
فإذا بها كالبُلبل المُتفخِّل

إن الرحيل للفظةٌ هَدراةٌ
تشوي النُخاعَ بذي العِظام النُّحل

في مُستهل قصيدتي بيتان
مرتجفان أسألُ فيهما ما طاب لي

ما للقريض يئنُّ كالمتجندل؟
هُو من صنيع مُنافق ، ومُبرقِل

ما للكلام يَخَافُ بأسَ الجَحفَل؟
مِن حقهِ ، هُو مُبتلىً بالأرذل

ما للمشاعر قصرتْ خُطواتها؟
مَعذورةٌ ، والويل للمُتمحِّل

ما للأحاسيس انزوتْ بتضاؤل؟
تبكي الوفاء ، بدمع ليلٍ أليل

إياكَ بعد اليومِ تهذي بالسؤا
ل لمن طغى ، ما أنت بالمُترهل

واصبر لأمر الله ، وارجُ ثوابه
سُبحان ربك مِن حَكيمٍ أول

وكذاك صَلِّ على النبي وآله
والتابعين المتقين الكُمّل

وإلى قصيدٍ شائق مُتشوق
هو في ضمير الغَيبِ وحيُ تأملي

فالشعر أُغنيةُ الحياةِ واُنسها
والشعرُ ينبوع الهوى المُتغزل

© 2024 - موقع الشعر