تَحْلِيَة ُ كِتَاب - أحمد شوقي

تَحْلِيَة ُ كِتَاب
فارسِيَّة ً

إنّ للفصحَى زِماماً ويَداً
حيّ الربيعَ حديقة َ الأرواحِ

في هيكل من سُندس فيّاح
هديَّة ُ السيِّدِ للسيِّد

يا غابَ بولون ، ولي
ذِمَمٌ عليك، ولي عُهودُ

يا ملكاً تعبَّدا
مُصلِّياً موحِّدا

لمنْ غُرة تنجلي من بعيد
بمرأى ً كما الحلم ضاح سعيد؟

لا السُّهد يدنيني إليه ، ولا الكرى
طَيْفٌ يزورُ بفضله مهما سرى

كانت لعيسى َ حرماً ، فانتهت
قانٍ، وأَبيضَ في الرُّبى لمَّاح

زمنٌ تقضَّى لِلهوَى
ولنا بِظلّكَ، هل يعود؟

مبارَكاً في يومه
والأَمسِ، ميموناً غدا

فهل أَنت لي اليومَ ما لا أُريد؟
تَخِذَ الدُّجى ، وسماؤه ، ونجومه

سُبُلاً إلى جنيفك ، لم يرضَ الثرى
صفوٌ أُتيحَ، فخذ انفسك قِسطَها

فالصفو ليس على المدَى بمتُاح
شيَّدَها الرُوم وأَقيالهُمُ

على مثالِ الهَرمِ المُخلَد
حُلُمٌ أُريدُ رجوعَه

يوم الزِّفاف بعسجَد وضَّاح
مُسحَّراً لأُمة ٍ

من حقها أَن تَسْعَدا
الغَيْمُ فيه كالنَّعام: بدِينة ٌ

ويُحصي علينا الزمانَ البعيد
وأتاك موفور النعيم ، تخاله

ملكاً تنمُّ به السماءُ، مُطهَّرا
صُحبة ٌ لم أشك منها ريبة ً

للقِرَى انتدب
يَحرُسُ الأَحمالَ، أَو يسقي مُصابا

لتجاوبِ الأَوتارِ والأَقداح
تُنبئُ عن عزٍّ ، وعن صَولة ٍ

وعن هوى ً للدين لم يخمُد
وهب الزمانَ أعادَها

هل للشبيبة ِ مَن يُعيد؟
قد جعلَتْه تاجَها

وعِزَّها، والسُّؤددا
غَرِدٌ على أَوتارِه، يُوحي إلى

عِلم الظلامُ هبوطه، فمشت له
أهدابه يأخذنه متحدِّراً

من زئبق، أَو مُلقَياتِ صِفاحِ
تملؤهُ من نَدِّها المُوقَد

يا غابَ بولونَ ، وبي
وجْدٌ مع الذكرى يزيدْ

وأعرضتْ بحيث مشى
وأطرقتْ حيث بدا

بيْنَا تَخَطَّرُ في لُجَيْنٍ مائجٍ
حَذَراً وخوفاً أَن يُراع ويُذعَرا

كان من همِّ نهاري راحتي
وندامَايَ ، ونقلى ، والشرابا

ومثل ما قد أودِعَتْ من حُلًى
لم تتَّخذْ داراً ولم تُحشدَ

خَفَقَتْ لرؤيتكَ الضلو
عُ، وزُلْزِلَ القلبُ العَميد

تجلُّه في حسنه
كما تُجِلُّ الفَرقدا

والبدر منكَ على العوالم يجتلي
بشر الوجوه وزحمة الأبصار

ورقدْتَ تُزْلِف للخيال مكانَه
بين الجفون، وبين هُدبِك، والكرى

كانت بها العذراءُ من فضَّة ٍ
ومَرِحْنَ في كَنَف له وجناح

كم يا جمادُ قساوَة ً؟
تُ، فما تَميلُ، ولا تَميد

أَنت شُعاعٌ من عَلٍ
أنزله الله هُدى

فما للغروب يَهِيجُ الأَسى
فهَنِئْتَهُ مثلَ السعادة ِ شائقاً

متصوراً ما شئتَ أَن يَتصورا
عيسى من الأُمِّ لدى هالة ٍ

والأُمُّ من عِيسى لدَى فَرْقد
كم ؟ هكذا أبداً جُحود؟

كم قد أَضاءَ منزلاً
وكم أَنار مسجدا

تطوى له الرقباء منصور الهوى
وتدوس ألسنة الوشاة ِ طظفَّرا

والماءُ في أَحشائها، مِلواح
مصوِّرُ الروم القديرُ اليد

هلا ذكرتَ زمانَ كنَّا
والزمانُ كما نريد؟

وكم كسا الأَسواقَ من
حُسنٍ، وزان البلدا

لولا امتنانُ العين يا طيفَ الرضا
ما سامحت أيامها فيما جرى

وأودعَ الجدرانَ من نقشه
بدائعاً من فنِّه المفرد

نطوِي إليك دُجَى الليا
لي، والدّجَى عنا يَذود

لولا التُّقى لقلتُ : لم
يحلُق سواك الولدا

باتت مُشوَّقة ً، وبات سوادها
وحلاكُما، ما البدرُ إلا أَنتما

فمن ملاكٍ في الدُّجَى رائحٍ
عند ملاكٍ في الضُّحى مغتدي

لُ، وليس غيرُك من يُعيد
إن شئت كان العير ، أو

إن شئت كان الأسدا
تعطى المنى ، وتنيلهنَّ خليقة

ففداك كلُّ مُتوَّجٍ من ساري
نُطْقِي هوًى وصبابة ٌ

وحديثهُا وترٌ وعُود
وإن تُرد غيّاً غوى

أَو تبغِ رُشْداً رَشَدا
الماءُ والآفاق حولت فضَّة ٌ

وهذا المنير الذي لن يُرى
شِعراً ليقرأَه، وأَنتَ القاري

حتى إذا ودّعت عانَقَت الثرى
ربَّ مَن سافر في أَسفارِه

مِثلِه القُبَب
الشاكياتُ وما عَرَفْنَ صبابة ً

وهو على الحائط غَصٌّ ندي
نَسْرِي، ونَسرحُ في فضا

ئك، والرياحُ به هُجودْ
والبيتُ أنت الصوتُ في

ه، وهو للصوت صَدَى
إلڑهيَّة ٌ، زُيِّنَتْ للعبيد

في ليلة ٍ قدِم الوجودَ هلالُها
فدنت كواكبُها تُعلِّمه السُّرى

فقلْ لمن شادَ ، فَهدّ القُوى
قوى الأجيرِ ، المُتْعَبِ ، المُجهَد

والطيرُ أقعدَها الكرى
والناسُ نامت والوجود

كالببَّغا في قفص
قيل له ، فقلَّدا

وتريه آثار البدورِ ليقتفي
ويرد له الميلادُ أن يتصدّرا

كأنَه فرعون لما بنى
لربّه بيتاً، فلم يَقصِد

فنبيتُ في الإيناس يغ
بطنا به النجمُ الوحيد

وكالقضِيبِ اللَّدنِ، قد
طاوع في الشكل اليدا

ناجيتُ مَن أَهوى ؛ وناجاني بها
بين الرياض ، وبين ماءِ سويسرا

عملاً أحسنَ ، أو قولاً أَصابا
أَيُعبدُ الله بسوْمِ الوَرَى

ما لا يُسام العَيْرُ في المِقْود
في كلّ رُكْن وقفة ٌ

وبكلِّ زاوية قُعود
يأْخذ ما عوَّدتَه

والمرءُ ما تعوّدا
حيث الجبالُ صغارُها وكبارُها

من كل أَبيضَ في الفضاءِ وأَخضرا
كنيسة ٌ كالفَدَن المعتلي

ومسجِدٌ كالقصر من أَصْيدِ
نَسقي، ونُسقى ، والهوى

ما بين أعيننا وليد
مما انفردتَ في الورى

بفضله وانفردا
تَخِذَ الغمامُ بها بيوتاً، فانجلت

مشبوبة َ الأجرام ، شائبة َ الذُّرَى
واللهُ عن هذا وذا في غنى ً

لو يعقل الإنسان أو يهتدي
فمِن القلوب تمائم

ومن الجُنوبِ له مُهود
وكلُّ ليث قد رَمى

به الإمامُ في العدا
وحلاكُما ، ما البدر إلا أنتما

وسواكما قمرٌ من الأقمار
والصخرُ عالٍ، قام يشبه قاعداً

وأَناف مكشوفَ الجوانبِ مُنذِرا
قد جاءَها الفاتحُ في عُصْبة ٍ

من الأُسُود الرُّكَّع، السُجَّد
والغصنُ يسجُدُ في الفضا

ءِ ، وحبَّذا منه السجود
أَنتَ الذي جنَّدتَه

وسُقْتَه إلى الردى
بين الكواكب والسحابِ، ترى له

أُذُناً من الحجر الأَصمِّ ومِشفَرا
رمى بهم بنيانها ، مثلما

يصطدِمُ الجلْمَد بالجلْمَد
والنجمُ يلحظنا بعيْ

ن ما تًحُولُ ولا تحيد
وقلتَ: كنْ لله، والس

لطانِ، والتركِ، فِدى
والسفحُ من أَيِّ الجهاتِ أَتيتَه

أَلفيته دَرَجاً يَموج مُدوّرا
لك في الفتح وفي أحدائِهِ

فَتحَ اللهُ حديثاً وخِطابا
فكبَّروا فيها ، وصلَّى العِدا

واختلط المشهد بالمشهد
حتى إذا دَعت النَّوى

فتبدَّد الشملُ النضيد
نثرَ الفضاءُ عليه عِقدَ نجومِه

فبدا زَبَرْجَدُه بهنّ مجوهرا
وما توانى الرومُ يَفْدُونَها

والسيف في المفْدِيِّ والمفتدِي
بتنا، ومما بيننا

بحر، ودون البحر بيد
وتنظَّمتْ بِيضُ البيوتِ، كأَنها

أَوكارُ طيرٍ، أَو خَمِيسٌ عسكرا
ليت هاجري

فخلتُها من قيصرٍ سعدُه
وأُيِّدتْ بالقيصرِ الأسعد

ليلي بمصرَ ، وليلُها
بالغرب ، وهو بها سعيد

والنجمُ يبعث للمياه ضيائه
والكهرباءُ تضيءُ أثناءَ الثرى

بفاتحٍ، غازٍ، عفيفِ القَنا
لا يحملُ الحقدَ، ولا يعتدي

هام الفراشُ بها ، وحام كتائباً
يحكي حوالَيْها الغمامَ مسيَّرا

مُطربٌ من ال
تجنِب السهلَ، وتقادُ الصذِعابا

منهم، وأَصفى الأَمنَ للمرتدي
حرقته، واحترقت به، فتولَّيا

برداً، ونار العاشقين تَسَعُّرا
وناب عمّا كان من زُخرف

جلالة ُ المعبود في المعبَد
والماءُ من فوق الديار، وتحتَها

وخِلالها يجري، ومن حول القرى
فيا لثأْرٍ بيننا بعده

أقام ، لم يقرب، ولم يبعد
مُتصوِّباً، مُتصعِّداً، مُتمهِّلاً

مُتسرِّعاً، مُتسلسِلاً، مُتعثِّرا
باقٍ كثأر القدس من قبله

لا ننتهي منه، ولا يبتدي
والأَرضُ جِسْرٌ حيث دُرْت ومَعْبَرٌ

يصلان جسراً في المياه ومعبرا
فلا يغرّنْك سكونُ الملا

فالشرُّ حولَ الصَّارمِ المُغْمَد
والفُلكُ في ظلّ البيوت موَاخِراً

تطري الجداولَ نحوها والأَنهُرا
ينبيك مصرعُه وكلٌّ زائلٌ

أَو ينزلَ التركُ عن السُّؤدَد
حتى إذا هَدأَ المَلا في ليله

جاذبتُ لَيلِي ثوبَه متحيِّرا
هذا لهم بيت على بيتهم

ما أَشبه المسجد بالمسجد
وخرجت من بين الجسور، لعلَّني

أَستقبِل العَرْفَ الحبيبَ إذا سرَى
فإنْ يُعادوا في مفاتيحِه

فيا ليومٍ للورَى أسود
آوي الى الشجرات، وهي تهزُّني

لكن أُداري، والمحبُّ يُداري
يشيب فيه الطفلُ في مهده

والجُلَّنارُ دمٌ على أَوراقِهِ
ويهزّ مني الماءُ في لمعانه

فأَميلُ أنظر فيه، أطمعُ أَن أرى
فكنْ لنا اللهمَّ في أَمسنا

فنقولُ عندكَ ما نقو
وهنالك ازدَهَت السماءُ، وكان أن

آنستُ نوراً ما أتمَّ وأبهرا!!
لولا ضلالٌ سابقٌ لم يقمْ

من أَجلكَ الخلقُ ولم يَقْعُد
فسريتُ في لألائِهِ ، وإذا به

بدرٌ تسايره الكواكبُ خُطَّرا
فكلُّ شرٍّ بينهم أَو أَذى

أَنت بَراءٌ منه طُهْرُ اليد
حُلُم أعارتني العناية ُ سمعها

فيه، فما استتممْتُ حتى فُسِّرا
فرأيتُ صفوي جَهرة ، وأخذتُ أن

سى يقظة ، ومُنايَ لَبَّتْ حُضَّرا
غيرَ محتسِب

وأَشرت:هل لُقيا؟ فأُوحِيَ:أَنْ غداً
بالطّود أبيض من جبال سويسرا

إن أَشرَقَت زهراءَ تسمو للضحى
وإذا هوت حمراءَ في تلك الذُّرى

فشروقُها منه أَتمّ معانياً
وغروبُها أَجلى وأَكملُ منظرا

حفظَ الدينَ مَلِيَّاً ، ومضى
يًنقِذُ الدنيا ، فلم يملك ضَهابا

تبدو هنالك للوجود وَلِيدة ً
تهْنا بها الدنيا، ويغتبط الثرى

وتضيءُ أَثناءَ الفضاءِ بغُرَّة ٍ
لاحَت برأْسِ الطَّودِ تاجا أزهرا

فسمعت فكانت نصف طار ، ما بدا
حتى أناف ، فلاح طاراً أكبرا

يعلو العوالم، مستقلاًّ ، نامياً
مُستعصياً بمكانه أَن يُنْقَرا

حتى إذا بلغ السُّمُوُّ كمالَه
وتغطت الأشباح ، لكن جوهرا

واهتزَّ، فالدنيا له مُهتزَّة ٌ
وأَنار، فانكشف الوجودُ منوّرا

ضقتُ فيه بال
فدنت لناظرها ، ودان عنانُها

وتبدّل المستعظم المستصغرا
واصفرَّ أَبيضُ كلِّ شيءٍ حولَها

واحمرَّ برْقُعُها وكان الأصفرا
تنفثُ الحبَب

وسما إليها الطَّودُ يأْخذُها، وقد
جعلتْ أعاليَهُ شريطاً أحمرا

مسَّته، فاشتعلت بها جَنَباته
وبدتْ ذُراه الشُّمُّ تحمل مِجْمرا

وإذا الحيُّ تولّى بالهوى
سيرة الحيذِ بَغَى فيها وحابى

فكأَنما مدَّتْ به نيرانَها
شَرَكاً لتصطاد النهارَ المدْبِرا

حرقته ، واحرقت به ، فتولَّيا
وأتى طُلولَهما الظلامُ فعسكرا

فشروقُها الأَملُ الحبيبُ لمن رأَى
وغروبُها الأَجلُ البغيضُ لمن درى

خطبانِ قاما بالفناءِ على الصَّفا
ما كان بينهما الصفاءُ ليعمُرا

مَن لِمُدْنَفٍ
تتغير الأشياءُ مهما عادوا

والله عزّ وجلّ لن يتغيرا
هي من أشِّ سبيلٍ جئتها

غاية ٌ في المجدِ لا تدنو طِلابا
أنهارنا تحت السليف وفوقه

ولدى جوانبه ، وما بين الذُّرى
رَجْلاً، ورُكْباناً، وزَحْلَقَة ً على

عِجلٍ هنالك كهربائيِّ السرَى
في مركبٍ مُستأْنسٍ، سالت به

قُضُبُ الحديدِ، تعرُّجاً وتحدُّرا
ينسابُ ما بين الصخور تمهُّلاً

ويخفُّ بين الهُوَّتين تَخطُّرا
وإذا اعتلى بالكهرباء لذروة ٍ

عصماءَ؛ همّ معانقاً متسوِّرا
لما نزلنا عنه في أُمِّ الذُّرى

قمنا على فرع السليف لننظرا
أرضٌ تموجُ بها المناظرُ جَمَّة ٌ

وعوالمٌ نِعْمَ الكتابُ لمن قرا
وقرى ً ضربن على المدائن هالة ً

ومدائنٌ حَلَّيْنَ أَجيادَ القُرَى
ومزارعٌ للنارظين روائعٌ

لَبِسَ الفضاءُ بها طرازاً أَخضرا
والماءُ غُدْرٌ ما أَرقَّ وأغْزَرا ‍‍!!

وجداولٌ هنّ اللُّجَيْنُ وقد جرى
فحشون أَفواهَ السهولِ سبائكاً

وملأْنَ أقبالَ الرواسخِ جوهرا
قد صغَّر البعدُ الوجودَ لنا، فيا

لله ما أحلى الوجودَ مصغَّرا!!
© 2024 - موقع الشعر