المرثية السليمانية في رثاء والدي - أحمد علي سليمان

أبي رحيلك أشجانٌ أعانيها
وذكرياتٌ تؤز النفسَ ، تشقيها

وبالفؤاد جوىً ، فاضت مَرارته
والروحُ تجترّ حزناً عالقاً فيها

مِن أين أبدأ يا أبتاه تعزيتي
والنفس تحتاجُ – عفواً – مَن يُعزيها؟

رحلت عني ، وللفراق صَولته
في غربةٍ وَأدتْ عزمي عوادِيها

ما اخترتها قِبلة ، ولا سعيتُ لها
ولم أكن - بأصيل الشعر - أطريها

ولا تفيأتُ ظِلاً أغدقته على
مَن أله القوتَ والدينار تأليها

بل امتثلتُ وصاياك التي ارتسمتْ
والقلبُ أمسى – مدي الأيام - يُمضيها

مِشوارُ عمْر ، وآمالٌ وتجربة
وهمّة تنثني - مِن فخرها - تِيها

وقصة نسجتْ - بالمجد - حَبْكتُها
وكل شهم مِن الأبنا سيرويها

طفولتي أنت حاديها ومُرشدها
وأنت - في لجج الأمواج - حاميها

فكم حنوت - على الطفولة - ابتليتْ
بالمُعضلات – بلا رفق – تعانيها

وكم حرصت على إحسان تربيتي
حتى تنقيَها مما يُدَسّيها

وكنت خير أب يؤوي رعيته
وبالدماء زكتْ والروح يفديها

وشدت صرحاً من الإباء ألمسُه
يزيدني - في الورى - عِزاً وتنزيها

وعِشت عَفاً ، فلم ترض الدنيّة في
كسب المعيشة حاضرها وماضيها

وكم نشدت لنا مُستقبلاً غرداً
وعِيشة تحتفي بمُستزيديها

وكم تألمت إمّا مسّنا ضررٌ
وللمصائب أيامٌ نقضيها

وكم تأثرت تبكي ما يحيقُ بنا
وللبليّات إن شطتْ بواكيها

أبي علِمتك تختارُ الصديق ، فلا
تصاحبُ العِيرَ ، أو تؤوي المَعاتيها

وتحفظ العهدَ إن عاهدت مُحتسباً
وللعهود رجالاتٌ توفيها

وكم رعيت حقوق الجيرة اشترعتْ
وما الحقوقُ إذا استغنى مؤديها؟

وكم صدقت بأقوال تبوحُ بها
إن الحقائق تعْلي شأن أهليها

وكم شقيت لنحيا في بُلهنيةٍ
أقولُ ذلك تصريحاً وتنويها

وكم تحمّلت فقراً مُدْقِعاً شرساً
وذبت - في ثقل البأساء - تفريها

واحتلت للعيش في سِر وفي عَلن
ولم تبينْ لنا الغايات تخفيها

وحِرتُ في نفحات النصح تبذلها
حتى رآني البرايا مِن محبيها

واحترتُ في حكمةٍ مازلت تنشرُها
حتى طواك - بسيف الموت - مؤتيها

وصرت عشراً من الأعوام مُحتملاً
مَرارة السُقم ، إذ فاضت دواعيها

ما ضقت ذرعاً بما تلقاه مِن ألم
بل اصطبرْت - على البلوى - تعانيها

واشتدّ نزعُك ، والأمراضُ ما رحمتْ
مَطاعنَ الشيب ، إذ عنتْ دواهيها

وحولك الكل ، لكنْ قلّ ناصحُهم
وما الرعية إن ضاقت براعيها؟

لم يكفلوك كما أبناءَهم كفلوا
ولم يئنوا لآهاتٍ تقاسيها

لم يرحموا الضعفَ قد ذل العزيز له
وقصة سنواتُ العمر تحكيها

لم يعذروا الشيخ هدّ الشيبُ قوّته
في حالةٍ تجتني إحساسَ رائيها

لم يقدُروا قدْر من ولّتْ شبيبته
وعاجلته ظروفٌ كان يَدريها

لم يُكرموك ، فقد زاغت بصائرُهم
والكأسُ دائرة ، والدهرُ ساقيها

أبي خبَرْتك قد أنشأت تجربتي
وجُدت بالفضل - مجهوداً - تزكّيها

علمتني الجدّ في الأمور أغلبها
مَزيّة عِشتَ - في قلبي - تنميها

لقنتني الحزمَ - في الحياة - دون هوى
وللمناقب كم وجّهت توجيها

عشنا صَديقين - بين الناس - تجمعُنا
محبة - بيننا - سَمَتْ معانيها

كم اختلفنا ، فلم تثمرْ مناقشة
إذِ اختفتْ في زواياها مراميها

ما نفعُ ألفِ نقاش دونما هدفٍ
إذ يُصبحُ القولُ تلبيساً وتمويها؟

كم اتفقنا على الآمال ننشدها
قبل الوسائل نمضيها وننويها

في عيشةٍ أصبحتْ - كالبحر - جامحة
فالجَزرُ يكبتها ، والمَدّ يُطغيها

وأنت - في إحن الأهوال - قائدها
وأنت - بالصبر والتصبير - راعيها

واليوم ترحلُ عن أهل وعن وطن
وزوجةٍ كنت - في البلوى - تُسليها

وقد عجزتُ - عن التوديع - مُعتذراً
ودمعتي - في لظى المأساة - أذريها

مؤبّناً والدي في غربةٍ قهرتْ
إرادة لم تكن يوماً تداجيها

مُشيعاً رجلاً كم عشتُ أكْبرُه
مُسترجعاً ذكرياتٍ غاب شاديها

عليك من ربك الرحمن رحمته
ما أشرقت - في الدنا - شمسٌ تُغشيها

© 2024 - موقع الشعر