مقدمة ديوان مواسم الغياب للدكتور لقمان شطناوي (تقديم الدكتور علاوة كوسة) - لقمان شطناوي

تقديم:
بقلم: د. علاوة كوسة (الجزائر)
 
إنّ الحديث عن الشعرية العربية المعاصرة هو حديث عن حراك فني رهيب وعن حركة تجريبة لافتة على المستويين: الشكلي والضمني، فلقد انتبه الشاعرُ العربيّ المعاصر إلى أنّ الخوض في تجربته الشعرية إنما هو أمرٌ ذاتيٌّ يعنيه وتجربةٌ فردانية تخصّه، تكتبه وتصوّر رؤاه وتعكس عصرَه بالصورة التي ترضيه، وهذا ما جعل التجربةَ الشعريةَ العربيةَ المعاصرة بين مدِّ التجريب وجزْرِ الأصالة، وبينهما راحت كثيرٌ من التجارب الشعرية المعاصرة- والشبابية على وجه الخصوص – تعيد تشكيلَ الرؤية الشعرية وفْق مرجعياتها الفنية وخصوصياتِها الإبداعية وتصوراتِها الواعية لما يمكن أن ينبني عليه مستقبلُ القصيدة العربية في رؤية استشرافية ورؤيا عارفة.
أدركت أنّ من النماذج الشّعرية المعاصرة التي تصدّق هذه المناوراتِ الشعريةَ الجديدة، هي المجموعة الشعرية ''مواسمُ الغياب'' للشاعر الدكتور '' لقمان شطناوي ''، هذه الدّررُ الشعرية التي تشكل هالةً من الدهشة فورَ قراءتها الأولى، وحين تعيد القراءةَ مراتٍ، بعمق وتأمل فإن القصائد ذاتَها ترسم في أفقك القرائي رؤى جديدةً، تخترق آفاقَ توقعاتك بما تكتنزه من دلالات متوارية ومقولاتٍ تتجدد مع كلّ مقاربة قرائية، وحين تحاول بكل ما تمتلكه من منظومة نقدية أن تحلّل وتقرأ هذه النصوص الشعرية بشيء من النقد فإن ''الذات القارئة'' تتشظى بفعل الدفقات الدلالية اللامتناهية لهذه النصوص العارفة الحالمة العميقة التي لا تغفو على رؤية واحدة بل تصحو على رؤى كثيرة قائلةٍ، سائلةٍ، شاملة.
يتجسد كلُّ هذا انطلاقا من العتبة الأولى للمجموعة الشعرية وهو العنوان ''مواسمُ الغياب''، بما يحمله من إشارات زمنية بصيغة الجمع ''للمواسم'' عاكسا هذه المسافاتِ الزمنية الطويلة بكل قسوة وألم وأسى وانتظار، حين تقترن هذه اللفظةُ بشرارة لفظية ثانية وهي '' الغياب''، ليحمل العنوانُ مما يحمل من الدلالات، إشاراتٍ للبعد، الغياب، التنائي والفقد والانتظار، فتعيد القصائدُ استحضارَ الغائب، برائحة كل الذين شهد التاريخ العربي غيابهم وفقدهم، كما جسدته الالتفاتاتُ الكثيرة العميقة لبعض النصوص الغائبة، كقصة سيدنا يوسف، وغيابه، فغياب هدهد سليمان، لذا حمل العنوان دلالاتِ الغياب والفقد بقوة ،وفتح أبوابا للتأويل أمام قارئ ظلّ على مدار النصوص مستحضرا كلّ الغائبين.
تدخل وعوالمَ النصوص بعد العنوان لتلتقي عتبةً نصية هامة في الدرس النقدي المعاصر وهي عتبة ''الإهداء'' التي أولاها الشعراءُ المعاصرون أهمية قصوى لما تساهم به في تشكيل رؤية فنية للعمل الشعري، واللافت في هذه المجموعة أن لقمان قد أهدى نصوصه لرفيقة العمر، ولكن بطريقة شعرية وهو ما جعلني أصنف نص الإهداء كقصيدة إضافية لقصائد المجموعة الأخرى، التي تنوعت إيقاعاتها وموسيقاها الخارجية بين بحور شعرية مختلفة، بين سحر الكامل وهدوء الرجز فحماسية المتدارك وحركية المتقارب، وهو ما يجعل القارئَ يحسّ بتنويع جميل وانسيابيةٍ إيقاعية بهية.
عدّ اللغويون والفلاسفةُ اللغةَ بيتَ الوجود، وأن الشاعر ينكتب من خلالها إشاراتٍ ورموزا تنقل عوالمَه إلى الآخر/المتلقى ليعيد تشكيلها وفق رؤاه ومرجعياته ،وينتج نصوصا جديدة، ولقد جعل الشاعر'' لقمان شطناوي'' من اللغة بيتا لعوالمه الشعرية وفضاءً أثثه بصور شعرية جديدة مختلفة لا تقترب من النمطي المتعود عليه، وجاءت لغتُه عميقةً بدهشة ومنزاحةً بحدة، وحمالةَ دلالات برهبة، يحذوها مدٌّ رومانسيّ حزين، وجزْرٌ واقعيٌّ أسيّ، فجاء أسلوبُ الشاعر بمذاق الواقعية السحرية التي عهدناها في الروايات الأمريكو- لاتينية ،وفي أشعار'' طاغور'' ونيرودا'' و''شيلي''، لغة تقترب من الواقع بسحر وتحلّق في آفاق التخييل حالمةً رائية.
نقلت إلينا نصوصُ المجموعة كثيرا من عوالم الأنوثة وبواطنِ المرأة، وأسئلةِ المدينة، وجراحاتِ الوطن، وتشظياتِ الذات وصورةِ الآخر، كانت النصوص تتأرجح بين ألم قابع في كل الجهات يتربص بالإنسان، وبين أمل تحمله عيونُ المستضعفين وتخبّئه للسنوات العجاف، سنواتِ الشتات والفرقة العربية والخيبة الفلسطينية والجرح السوري الغائر العميق، سنوات تهتز فيها أركان '' البيت الشآمي'' ولكنها لن تسقط بإرثها وتاريخها وتراثها ورجالها.
لم يكتفِ الشاعرُ بوصفٍ جاهز للحاضر ولكنه راح يستحضر النصوصَ الغائبة ويتناصّ مع روائع من القصص القديم والأساطير التي تختزن من الدلالات والعبر ما يعجّل بتوظيفها وبآليات واعية في النصوص الشعرية، كأسطورة العنقاء، وحكاية الهدهد وبلقيس وسبأ، بخيالات حكائية لشهرزاد التي لها مدّخر من القصص المستوحاة من واقعنا العربي، كما استحضر أرضَ اليباب، والغياب والخراب، وتفاحة َ آدم والجنة، بلمسات سيّابية موغلة في الألم، وبسفريات سندبادية شاهقة في المغامرة واكتشاف الذات العربية بعيون شعرية معاصرة تمثلها '' مواسمُ الغياب'' لشاعر خرج علينا بمجموعة شعرية بهية فقطّعنا أيدي البلاغة القديمة الجاهزة وأنبهرنا بصور شعرية وعوالم فنية تنقلنا إلى جيل الكتابة الشعرية الجديدة التي تعدّ مستقبلَ الشعرية العربية.
د.علاوة كوسة.
سطيف( الجزائر)27-08-2016.
© 2024 - موقع الشعر