كلابها أصدق من أهلها! - أحمد علي سليمان

تُزري بأهل التقى شهادة الزورِ
وكم بها خُربتْ في الأرض من دُورِ

لا يَشهدُ الزورَ إلا مَن به سَفهٌ
وما له في البرايا أي تقدير

يُضَللُ الناسَ بالبُهتان يُشْهرُهُ
سيفاً يَذودُ به عن الأساطير

ويْحَ الأكاذيب أملاها ، ورَوّجَها
حتى يُضَللَ ألبابَ الجماهير

حتى أتى الدورُ مَن بالباطل اشتغلوا
في قريةٍ خبُثتْ ، تحيا على الزور

ومنهمُ رَجُلٌ تزوّجَ امرأة
سِراً ، ولمّا يكنْ فيها بمشهور

ولم يكنْ مُحسناً يوماً لزوجته
إذ كان يظلمُها بدون تبرير

وكابدتْ عِيشة طالت مَرارتُها
واستقبلتْ باصطبار كل تكدير

حتى إذا استحكمتْ قيودُ زيجتِها
لاحَ الطلاقُ - بآفاق الدجى - نورا

وبعده انطلقتْ في ساح محكمةٍ
حتى تُشَهرَ بالحليل تشهيرا

وتشرحَ الحال للقاضي ليَعذرها
وقال للزوج: سُقْ – للأمر – تبريرا

فضاقَ ذرعاً لكذاب بغى وطغى
فلم يؤثّرْ – على قاضيه – تأثيرا

وزاد: لستُ لها زوجاً ، ألا اعتبروا
وهل يُصدّقُ قاضينا الأساطيرا؟

وقال قاض لنسأل شاهديك إذن
حتى نُبَصّرَ – بالأمور – تبصيرا

فأنكرَ الشاهدان الأمرَ ، واعترفا
بما يُخالفُ نص العقد تغريرا

وقال قاض لها: الكلابُ ترشدُنا
حتى نُفنّد تدليساً وتزويرا

هل تأخذين بما نقول يا امرأة؟
أم تكتفين بما نظرتُ تنظيرا؟

قالت: وهل تصدقُ الكلابُ إن سُئلتْ؟
قالوا: سننظر نبْحاً بات تقريرا

فسار قاض ، وسارتْ خلفه قَصصاً
فوقرتْها كلابُ الحي توقيرا

وأقبلتْ نحوها تُزجي مَودتها
كما تُسَر بقوم ساكَنوا الدورا

فطلقوها مِن الزوج الذي كرهتْ
وناصحوها بترك الدار تخييرا

لا خيرَ في قريةٍ بالزور قد عُرفتْ
ولا تُقدّرُ أهل الصدق تقديرا

وأصْدقُ الأهل فيها أكلبٌ شهدتْ
فبَصّرتْنا بدعوى الحق تبصيرا

هذي حقوقكِ قد جاءتكِ كاملة
وفي طلاقكِ كان الخيرُ مذخورا

مناسبة القصيدة

(إنه لعارٌ شنيعٌ أن تكون كلابُ قريةٍ أصدقَ من كثير من أهلها! فلم تشهدِ الكلابُ زوراً ولم تغش ، ولم تخدعْ ، كما يشهد الزور ويغش ويخدع بنو آدم! وأكبر من هذا العار أن نصف بعض المشركين والوثنيين والمَلاحدة بالكلاب! لماذا؟ والجواب: لأن في هذا ظلماً للكلاب ، حيث إنها لم تنكرْ وجودَ الله ، ولم تنسب إلى الله الولد! والمسألة بدأت مذ كانت هناك قرية ، ابتليَ أهلها بالكذب وشهادة الزور ، وفي هذه القريه تزوج رجل بامرأة سراً ، وكان زواجاً شرعياً أمام قوم ، وبحضور شهودٍ ، وبحضور وكيل النكاح ، وبمهر مُعَجّل! وبعد فترةٍ اختلفَ الزوجان ، لأن الخلاف سُنة مطردة! ولو كان بيتٌ يخلو من الخلافات الزوجية ، لكان أولى البيوت بهذا بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -! ولكن الحكمة تكمنُ في علاج الخلافات! ولكن الزوجة ضحية قصيدتنا ، كان زوجها قد طردها من المنزل ، وسلبها جميعَ حقوقها! فذهبت إلى القاضي مُشتكية٠ وقالت: تزوجني زواجاً شرعياً ، ويشهد بذلك فلان وفلان٠ وطلب القاضي حضور الزوج والشاهدين ، فأنكر الزوجُ والشهود معرفتهم بهذه المرأة ، أو حتى أنهم رأوها سابقاً٠فانتدب القاضي زميلين له في المحكمة ، لينظرا معه في هذه القضية الغامضة! ونظر القاضي المنتدب للشاهدين جيداً وللزوجة أيضاً ، وسألها: هل عند زوجك كلاب؟ فأجابت: نعم! قال: وهل تقبلين بشهادة الكلاب وحكمهم؟ فقالت: وهل تصدق الكلاب؟ إن زوجي يطعمها ويرعاها خيرَ رعاية! فقال القاضي: أعتقد أنها ستصدق! فقالت المرأة: نعم أقبل شهادة الكلاب! فقال القاضي الثاني المنتدب ، وقد أدرك حِكمة زميله في محاولة تبين الحقيقة: خذوها إلى بيت هذا الزوج ، فإن نبحتِ الكلابُ عليها ، فهي غريبة تكذب! وإن رحّبتْ بها وهشت وبشت ، فهي صاحبة الدار٠ وهنا ارتبك الزوجُ والشاهدان ، واصفرت وجوههم. فقال القضاة الثلاثة معاً: خذوهم فاجلدوهم ، فإنهم يكذبون٠ ثم قال القاضي الأول الذي نظر القضية وطالع الدعوى لأول مرة: بئستِ القرى التي كلابُها أصدقُ من أهلها! وفي هؤلاء الأباعد شاهدي الزور ، وفي هذه الكلاب الصادقة ، التي بنباحها استفتحتْ على القضاة في محكمتهم ، أنشدتُ من شعري هذه القصيدة مُندداً بشهادة الزور وأصحابها!)
© 2024 - موقع الشعر