هرقل والمُلك الزائل! - أحمد علي سليمان

يا هِرَقلَ القوم قلْ لي ما الجوابْ
مُذ علمت الحق ، وانجابَ السرابْ؟

قد وزنت الأمرَ وزناً مُنصِفاً
واهتدى العقلُ إلى فصل الخطاب

تستقمْ إنْ أنت جافيت الهوى
ويزولُ الذنبُ إن صحّ المتاب

وتُلاقي اللهَ عبداً مُسلماً
إن أطاعَ الأمرَ أملاهُ الكتاب

وتنالُ الأجرَ مِن شعب يلي
حاكماً أنجاهُ مِن سوء العذاب

يُفلحُ الرومانُ إن هم أسلموا
ولرأس القوم في الأخرى الثواب

أي فوز بعد هذا ترتجي؟
يا عظيمَ الروم أفصِحْ ، ما الجواب؟

وهرقلُ الشعب بالمُلك اكتفى
لم يعُدْ يُجدي نقاشٌ أو عِتاب

آثرَ الدنيا وقصراً زائلاً
ومصيرُ الكل حَتماً للخراب

آثرَ الجيشَ به يغزو الدنا
وتناسى عامداً يومَ الحساب

خادعَ الكل ، ودَسّى نفسهُ
حيث مَنّاهم ببُهتان ، فخاب

قال غيرَ الحق إذ هم جادلوا
حيث إن الحق تَحْدُوهُ الصعاب

واستجابَ الكل للإفك الذي
قالهُ ذو الملك يُغري كالصواب

حاملاً أوزارَهم معْ وزرهِ
بئسَ حِملاً ، ثم أبئسْ بالمآب

هكذا الهزلُ ومن يحيا به
ليس عيشٌ بالتدسّي يُستطاب

مناسبة القصيدة

(إن قصة هرقل مع مُلكه الزائل لتُعطينا مؤشراً على أن الفقر الحقيقي هو فقر الإنسانية والمواقف. ورغم اقتناع الرجل بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدق رسالته ، إلا أنه آثر المُلك على الإيمان! على أنه مُلكٌ زائل لا يستحقُ تلك التضحية! في قلب الدولة الرومانية استدعى هرقل إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الأسقف الأكبر للإمبراطورية وكان اسمه "ضغاطر" فدخل عليه ، وكان الناس في بلاد الروم يحبون ويطيعون أمر هذا الأسقف الكبير ، فعرض عليه هرقل كتاب عجيب وصله من النبي محمد صلى الله عليه و سلم. فلما قرأ الأسقف الكتاب تهلل وجهه ، وقال: "هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر". فقال قيصر: فما تأمرني؟ فقال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه. فقال قيصر: أعرف أنه كذلك ، ولكني لا أستطيع أن أفعل ، وإن فعلتُ ذهب ملكي وقتلني الروم. فخرج الأسقف "ضغاطر" للناس ، ودعا جميع الروم إلى الإيمان بالله واتباع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعلن الشهادة أمام الجميع. إنه لموقف شجاع من هذا العالم الجليل ، ولكن الروم قومٌ بُهت ، لا يقبلون النصيحة بسهولة ، بل هم قومٌ مجادلون ومعاندون ؛ حيث اعترض الروم على كلام هذا الأسقف الكبير ، وأهانوه ، وتجاذبوه بينهم ، ثم قفزوا عليه قفزةً واحدة ، فضربوه حتى قتلوه. وكان هذا الأسقف أعظم شخصية في الدولة الرومانية ، حتى أنه كان أعلى من هرقل عند الناس ، وعرف هرقل بقتل هذا الرجل الكبير ، ولم يستطع أن يفعل أي شيء تجاه ذلك الفعل المشين ، لأنه يتوقع ذلك من الروم ؛ وفي هذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسيّ الذي يجلس عليه. وبعدها سار هرقل إلى حمص ، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه نبي ، فأذن هرقل بأبوابها فغلقتْ ، ثم قال لهم: يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد ، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم ، ويأس من الإيمان ، قال: ردوهم علي. وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عنه. وعقد هرقل مقارنة سريعة بين المُلك وبين الإيمان ، أي بين الحياة ممكَّنًا وبين الموت شهيدًا ، فأخذ القرار ، واختار الملك والحياة الدنيا ورفض الإيمان. بعد كل هذه القناعة أو هذا الاقتناع برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبكل هذا اليقين بنبوته ، لم يقف هرقل عند حدِّ عدم الإيمان ولم يقبل بالحياد. ولكنه سيَّر الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين مع إحساسه الداخلي أنه سيُغلب ، وأنه لن ينتصر على المسلمين ، ولكن هذا الإحساس لم يمنعه من اتباع الشياطين ، ومحاولة مقاومة الإسلام بداية من مؤتة ومرورًا بتبوك ، ومعارك متتالية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان والأناضول وغيرها ، ومع فشله في كل هذه المعارك ومع تناقص الأرض من حوله ومع ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يومًا بعد يوم ، إلا أن هرقل لم يؤمن ، ويبدو أن فتنة الكرسيّ لا تعدلها فتنة. وصدق قول الحق تبارك وتعالى إذ يقول: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، وقوله أيضاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}. إنه لا بد لنا من استلهام دروس الحياة من الماضي! ومن هنا يصدق المثل القائل: (من فات قديمه تاه)!)
© 2024 - موقع الشعر