عرقوب الغربة - أحمد علي سليمان

يميناً ستمطر هذي السحبْ
بإذن الإله ، فلا تنتحبْ

تصَبَّرْ تنلْ كل ما تشتهي
وأحسنْ تنل كل ما ترتقب

وإما وجدت الفؤاد انزوى
فدعْ للورى دارَهم ، واغترب

سيطوي اغترابُك كل العنا
ويُبدِلك الله ما قد كتب

رفاقاً ، وفِكراً ، ودربَ الهدى
فغامرْ بقلبك ، لا تنسحب

فإن اغتراب الفتى آية
على عزمه الثابت المحتسب

وكلُ غريب له عَزمة
تدل على الأمل الملتهب

وكل طريدٍ له همة
تجَلي عن النفس كل النصب

وطالت على حُرقتي غربتي
وأثّر في القلب قيحُ اللهب

عجوزٌ عقيمٌ أيا غربتي
يزمجرُ - في وَجنتيك - العطب

وشاخ الفؤادُ على خيبةٍ
وهذا أريجُ الحياة ذهب

غزاكِ المشيبُ على غفلةٍ
وباتت عِظامُك مثلَ الحطب

وضاعَ الشبابُ ، وضاعَ الهوى
ولن ينفعَ اليوم ذكرُ النسب

عجوزٌ تمرّق منها النهى
وتهزلُ في الدرب ، يا للعجب

عجوز تقوَّس عُرقوبُها
وعشعشَ في ساعديها الحَدَب

تصيحُ بوجه الصغير الذي
يمازحُ أيامَه باللعب

وتقضي على الأمنيات التي
تُشجِّع في النفس حب الأدب

ستطوي العجوزَ رحى عزمتي
لنا النصرُ ، ليس لهذي غلب

ويوماً يعود الشبابُ الذي
تباعدَ في السير خلف الحُجُب

وينقشعُ الغيم من جوِّنا
ويوماً ستُمطر هذي السحب

لنا اللهُ ، ليس لنا غيرهُ
وإنا رضينا بما قد كتب

مناسبة القصيدة

(ألا ما أشبهَ الغربة بالمرأة العجوز الشمطاء ، التي أكل الدهرعليها وشرب كما يقولون. وفي الوقت نفسه لا تزال العجوز الشمطاء الدردبيس الحيزبون تتصابى ، وتأخذ بأسباب الفتنة والإغراء وجذب الأنظار إليها. إن قصيدة (عرقوب الغربة) واحدة من القصائد التي وصفتُ فيها الغربة التي أعيش. وغربتي تختلف عن غربة الآخرين. إذ إنني بين قومي وفي دياري كنت غريباً ، واليوم أصبحتُ بعيداً عن كل هؤلاء. غير أن الغربة الثانية ضاعفت مرارتها نكباتٌ آخر ، منها خيانة الصحب وغدرالرفاق ، وشمت العدو وتشفي الشامت. الأمر الذي جعلني إن كتبت عن الغربة ، أكتب بكل أسىَ وحسرةٍ وتوجع وألم وشجن. وعموماً أصبر وأحتسب ، رجاء أن يكون لي نصيبٌ من قوله – صلى الله عليه وسلم - (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً ، فطوبى للغرباء). ولقد اتفقت المعاجم العربية كلها على المفهوم اللغوي البحت للاغتراب على أنه البعد والنَّوى والغربة عن الوطن والدار ، فيعرفه ابن منظور في لسان العرب فيقول: "الغربُ: الذهاب والتنحي عن الناس ، وقد غرب عنا ، يغربُ ، غربًا. وغَربَ وأغرب وغررّ ضبه وأغربَه أي نحَّاه ، والغربة والغرب: النزوح عن الوطن والاغتراب. وفي معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي: والغربة: الاغتراب من الوطن ، وغرب فلان عنا يغرب غرباً ، أي تنحى ، وأغربتُه وغرَّبته ، أي نحيته ، والغربة: النوى والبعد. (الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ كتاب العين). قال الأستاذ / عبدالجواد خفاجي تحت عنوان (الغربة والاغتراب) ما ملخصه: (يمكننا إذن بالنظر في المعاني اللغوية القاموسية أن نقرر أن هاتين الكلمتين: (الغربة والاغتراب) تلتقيان في الاشتقاق اللغوي ، وهذا يعني أنهما تلتقيان من حيث الدلالة المعجمية والاصطلاحية ولا خلافات جوهرية بينهما. فقد جاء في المعجم الأدبي أن الغربة تعني: "عاطفة تستولي على الناس ؛ فيعيشون في قلق وكآبة لشعورهم بالبعد عمّا يهوون أو يرغبون فيه. وقد تبرز هذه العاطفة في شكلين ، أحدهما في حالة الابتعاد عن ملاعب الفتوة وديار الأحبة ، والثاني في حالة الشعور بأن العالم كله سجن اُقحِم فيه! ورغم هذه التوافقات بين المصطلحين إلا أن الاغتراب يظل المفهوم الأكثر دوراناً على ألسنة الباحثين.)هـ. الغربة كلها مرار في مرار ، وكم كتبت عن الغربة وعن مخالبها ولهيبها. ولا يدرك ذلك إلا من فارق الأحباب إلى مغتربه ، وفارق الخلان والمخلصين من الأصدقاء والرفاق إلى منفاه ، كما لا يدركه إلا من عانى فوق اغترابه من خيانة المعارف ونفاق الصحب وخذلان الأصدقاء وغدر الخلان. ذلك أن مثل هذه السمة من النفاق والخيانة والغدر والخذلان تزيد آلام الغربة وعذاباتها ومصائبها. وهذه المرة أصورالغربة كما لو كانت عجوزاً شمطاء حيزبوناً دردبيساً لعبت بها الأيام: فلقد عشعشت في وجهها أشباحُ الشيب ، وشاخت المرأة العجوز تلك ، وأصبحت لا تقوى على الحركة ، وبالرغم من ذلك كله ، راحت هذه المرأة تتحدى الشبيبة في خضم الحياة ومعترك المعيشة ، الأمر الذي يستهجنه كل عاقل حصيف ، فهي كالغربة المريرة التي عشتها حقاً. وعندما تهزل العجوز متاركة وقار الشيب وحكمة الكبر يكون أمراً مستهجناً ممقوتاً! وهناك مسحة من التفاؤل في هذه القصيدة والتوقع بزوال الغربة ورحيل الكآبة يوماً ما ! عسى الله أن يكون ذلك قريباً!)
© 2024 - موقع الشعر