دارَت عَلى الدَوحِ سُلافُ القَطرِ - صفي الدين الحلي

دارَت عَلى الدَوحِ سُلافُ القَطرِ
فَرَنَّحَت أَعطافَهُ بِالسُكرِ

وَنَبَّهَ الوُرقَ نَسيمُ الفَجرِ
فَغَرَّدَت فَوقَ الغُصونِ الخُضرِ

تُغني عَنِ العودِ وَصَوتِ الزَمرِ
تَبَسَّمَت مَباسِمُ الأَزهارِ

وَأَشرَقَ النَوّارُ بِالأَنوارِ
وَظَلَّ عِقدُ الطَلَّ في نِثارِ

وَباكَرَتها دِيَمُ الأَمطارِ
فَكَلَّلَت تيجانِها بِالدُرِّ

قَد أَقبَلَت طَلائِعُ الغُيومِ
إِذ أَذِنَ الشِتاءُ بِالقُدومِ

فَمُذ حَداها سائِقُ النَسيمِ
عَفَّت رُبى العَقيقِ وَالغَميمِ

وَباكَرَت أَرضَ دِيارِ بَكرِ
أَما تَرى الغَيمَ الجَديدَ قَد أَتى

مُبَشِّراً بِالقُربِ مِن فَصلِ الشِتا
فَاِعقُر هُمومي بِالعُقارِ يا فَتى

فَتَركُ أَيّامِ الهَنا إِلى مَتى
فَإِنَّها مَحسوبَةٌ مِن عُمري

فَاِنهَض لِنَهبِ فُرصَةِ الزَمانِ
فَلَستَ مِن فَجواهُ في أَمانِ

وَاِشرَب عَلى الناياتِ وَالمَثاني
إِنَّ الخَريفَ لَرَبيعٌ ثانِ

فَاِتمِم حُلاهُ بِكُؤوسِ الخَمرِ
فَصلٌ لَنا في طَيِّهِ سُعودُ

بِعَودِهِ أَفراحُنا تَعودُ
يَقدِمُ فيهِ الطَائِرُ البَعيدُ

في كُلِّ يَومٍ لِلرُماةِ عيدُ
كَأَنَّهُ بِالصَرعِ عيدُ النَحرِ

هَذي الكَراكي نَحوَنا قَد قَدِمَت
فاقِدَةً لِإِلفِها قَد عَدِمَت

لَو عَلِمَت بِما تُلاقي نَدِمَت
فَاِنظُر إِلى أَخياطِها قَد نُظِمَت

شِبهَ حُروفٍ نُظِمَت في سَطرِ
تَذَكَّرَت مَرتَعِها فَشاقَها

فَأَقبَلَت حامِلَةً أَشواقَها
تُجيلُ في مَطارِها أَحداقَها

تَمُدُّ مِن حَنينِها أَعناقَها
لَم تَدرِ أَنَّ مَدَّها لِلجَزرِ

يا سَعدُ كُن في حُبِّها مُساعِدي
فَإِنَّهُ مُذ عِشتُ مِن عَوائِدي

وَلا تَلُم مَن باتَ فيها حاسِدي
فَلَو تَرى طَيرَ عِذارِ خالِدِ

أَقَمتَ في حُبِّ العِذارِ عُذري
طَيرٌ بِقَدرِ أَنجُمِ السَماءِ

مُختَلِفُ الأَشكالِ وَالأَسماءِ
إِذا جَلا الصُبحُ دُجى الظُلماءِ

يَلوحُ مِن فَوقِ طَفيحِ الماءِ
شِبهَ نُقوشٍ خُيّلَت في سِترِ

في لُجَّةِ الأَطيارِ كَالعَساكِرِ
فَهُنَّ بَينَ وارِدٍ وَصادِرِ

جَليلُها ناءٍ عَنِ الأَصغارِ
مَحدودَةٌ مِنذُ عُهودِ الناصِرِ

مَعدودَةٌ في أَربَعٍ وَعَشرِ
شُبَيطَرٌ وَمِرزَمٌ وَكُركي

وَصِنفُ تَمٍّ مَعَ إِوَزٍّ تُركي
وَلَغلَغٌ يُشبِهُ لَونَ المِسكِ

وَالكَيُّ وَالعَنّازُ يا ذا الشَكِّ
ثُمَّ العُقابُ مُلحَقٌ بِالنِسرِ

وَيَتبَعُ الأَرنوقَ صِنفٌ مُبدِعُ
أَنيسَةٌ إِنسِيَّةٌ إِذ تُصرَعُ

وَالضَوُّ وَالحِبرَجُ فَهيَ أَجمَعُ
خَمسٌ وَخَمسٌ كَمُلَت وَأَربَعُ

كَأَنَّها أَيّامُ عُمرِ البَدرِ
فَاِبكُر إِلى دِجلَةَ وَالأَقطاعِ

فَإِنَّها مِن أَحمَدِ المَساعي
وَاِعجَب لِما فيها مِنَ الأَنواعِ

مِن سائِرِ الجَليلِ وَالمَراعي
وَضَجَّةِ الشيقِ وَصَوتِ الحُضِر

ما بَينَ تَمٍّ ناهِضٍ وَواضِعِ
وَبَينَ نَسرٍ طائِرٍ وَواقِعِ

وَبَينَ كَيٍّ خارِجٍ وَراجِعِ
وَنَهضَةِ الطَيرِ مِنَ المَراتِعِ

كَأَنَّها أَقطاعُ غَيمٍ تَسري
أَما تَرى الرُماةَ قَد تَرَسَّموا

وَلِاِرتَقابِ الطَيرِ قَد تَقَسَّموا
بِالجِفتِ قَد تَدَرَّعوا وَعَمَّمواَ

لَمّا عَلى سَفكِ دِماها صَمَّموا
جاؤوا إِلَيها في ثِيابٍ حُمرِ

قَد فَزِعوا عَن كُلِّ عُربٍ وَعَجَم
وَأَصبَحوا بَينَ الطِرافِ وَالأَجَم

مِن كُلِّ نَجمٍ بِالسُعودِ قَد نَجَم
وَكُلِّ بَدرٍ بِالشَهابِ قَد رَجَم

عَن كُلِّ مَحنيٍّ شَديدِ الظَهرِ
مَحنِيَّةٌ في رَفعِها قَد أُدمِجَت

أَدرَكَها التَثقيفُ لَمّا عوِّجَت
قَد كُبِسَت بُيوتُها وَسُرِّجَت

كَأَنَّها أَهِلَّةٌ قَد أُخرِجَت
بَنادِقاً مِثلَ النُجومِ الزُهرِ

قَد جَوَّدَت أَربابُها مَتاعَها
وَأَتعَبَت في حَزمِها صُنّاعَها

وَهَذَّبَت رُماتُها طِباعَها
إِذا لَمَسَت خابِراً أَقطاعَها

حَسِبتَها مَطبوعَةً مِن صَخرِ
إِذا سَمِعتُ صَرخَةَ الجَوارِحِ

تَصبوا إِلى أَصواتِها جَوارِحي
وَإِن رَأَيتُ أَجَمَ البَطائِحِ

وَلَم أَكُن ما بَينَها بِطائِحِ
يَضيقُ عَن حَملِ الهُمومِ صَدري

مَن لي بِأَنّي لا أَزالُ سائِحا
بَينَ المَرامي غادِياً وَرائِحا

لَو كانَ لي دَهري بِذاكَ سامِحا
فَالقُربُ عِندي أَن أَبيتَ نازِحا

أَقطَعُ في البَيداءِ كُلَّ قَفزِ
نَذَرتُ لِلنَفسِ إِذا تَمَّ الهَنا

وَزُمَّتِ العيسُ لِإِدراكِ المُنى
أَن أَقرِنَ العِزَّ لَدَيها بِالغِنى

حَتّى رَأَت أَنَّ الرَحيلَ قَد دَنا
فَطالَبَتني بِوَفاءِ نَذري

تَقولُ لي لَمّا جَفاني غُمضي
وَأَنكَرَت طولَ مَقامي أَرضي

وَعاقَني صَرفُ الرَدى عَن نَهضي
ما لِلَّيالي أولِعَت بِخَفضي

كَأَنَّها بَعضُ حُروفِ الجَرِّ
فَاِنهَض رِكابَ العَزمِ في البَيداءِ

وَاِزوَرَّ بِالعيسِ عَنِ الزَوراءِ
وَلا تُقِم بِالمَوصِلِ الحَدباءِ

إِنَّ شِهابَ القَلعَةِ الشَهباءِ
يَحرُقُ شَيطانَ صُروفِ الدَهرِ

نَجمٌ بِهِ الأَنامُ تَستَدِلُّ
مَن عَزَّ في حِماهُ لا يَذِلُّ

في القَرِّ شَمسٌ وَالمَصيفِ ظِلُّ
وَبلٌ عَلى العُفاةِ مُستَهِلُّ

أَغنى الأَنامَ عَن هُتونِ القَطرِ
لَو قابَلَ الأَعمى غَدا بَصيرا

وَلَو رَأى مَيتاً غَدا مَنشورا
وَلَو يَشا الظَلامَ كانَ نورا

وَلو أَتاهُ اللَيلُ مُستَجيرا
أَمَّنَهُ مِن سَطَواتِ الفَجرِ

لُذ بِرُبوعِ المَلِكِ المَنصورِ
مُحيي الأَنامِ قَبلَ نَفخِ الصورِ

باني العُلا قَبلَ بِنا القُصورِ
قاتِلَ كُلِّ أَسَدٍ هَصورِ

مَلَّكَهُ اللَهُ زِمامَ النَصِرِ
مَلكٌ كَأَنَّ المالَ مِن عُداتِهِ

يَرى حَياةَ الذِكرِ في مَماتِهِ
قَد ظَهَرَ العِزُّ عَلى أَوقاتِهِ

وَأَشرَقَ النورُ عَلى لَيلاتِهِ
كَأَنَّها بَعضُ لَيالي القَدرِ

أَصبَحَ في الأَرضِ لَنا خَليفَهُ
نَعِزُّ في أَربُعِهِ المَألوفَه

قَد سَمَحَت أَكُفُّهُ الشَريفَه
وَأُلهِمَت عَزمَتُهُ المُنيفَه

بِكَسرِ جَبّارٍ وَجَبرِ كَسرِ
يَخضَعُ هامُ الدَهرِ فَوقَ بابِهِ

وَتَسجُدُ المُلوكَ في أَعتابِه
وَتَخدُمُ الأَقدارُ في رِكابِه

تَرومُ فَضلَ العِزِّ مِن جَنابِه
وَتَستَمِدُّ اليُسرَ بَعدَ العُسرِ

مُحَكَّمٌ ناءٍ عَنِ الأَغراضِ
وَجَوهَرٌ خالٍ مِنَ الأَعراضِ

يُهابُ كَالساخِطِ وَهوَ راضِ
قَد مَهَّدَت آرائُهُ الأَراضي

وَأَهلَكَت كَفّاهُ جَيشَ الفَقرِ
لَمّا رَأى أَيّامَهُ جُنودا

وَالناسَ في أَعتابِهِ سُجودا
أَرادَ في دَولَتِهِ مَزيدا

فَأَعتَقَت أَكَفُّهُ العَبيدا
وَاِستَعبَدَت بِالجودِ كُلِّ حُرِّ

يا مَلِكاً تَحسُدُهُ الأَملاكُ
وَتَقتَدي بِعَزمِهِ الأَفلاكُ

يَهابُهُ الأَعرابُ وَالأَتراكُ
لَهُ بِما تُضمِرُهُ إِدراكُ

كَأَنَّهُ مُوَكَّلٌ بِالسِرِّ
قُربي إِلَيكُم لا العَطاءُ سولي

وَوُدُّكُم لا غَيرَهُ مَأمولي
إِذا جَلَيتُ كاعَبَ الفُصولِ

لا أَبتَغي مَهراً سِوى القَبولِ
إِنَّ القَبولَ لا لِأَجلِ مَهرِ

لا بَرِحَت أَفراحُكُم مُجَدَّدَه
وَأَنفُسُ الضَدَّ بِكُم مُهَدَّدَه

وَأَربُعُ المَجدِ بِكُم مُشَيَّدَه
وَالأَرضُ مِن آرائِكُم مُمَهَّدَه

وَالدَهرُ بِالأَمنِ ضَحوكُ الثَغرِ
© 2024 - موقع الشعر