حوار مع القلم! (نهج نهج البردة) - أحمد علي سليمان

أمِن تذكُرِ مبعوثٍ ، وذي سلَمِ
شجَّ الجَوَى مُقلتي ، وانسابَ نهرُ دَمي؟

في بُردةٍ سُطِرَتْ من أعصُر سلفتْ
أو (نهجها) ، نُقشتْ فَوَّاحَةَ النَّغم

مبعوثَ خالقنا ، هذي تحيتنا
حُباً نقدمها ، بالقلب والقلم

بالحب ننشدها في غير ما ثقل
للآل قاطبة ، والصحب ذي السَّلَم

روحي فداكَ ، وأولادي وما ملكتْ
يدي ونفسي ، ومَا سادتْ به رَحِمي

عُذراً ، فقد كُتبتْ بالحزن أحْرفُها
بالدمع أنشودتي مكروبةُ الرَّنَم

مات البشيرُ ، فلا الدنيا تُعوّضنا
والنفسُ دامية ، في غاية الألم

كان الرسولُ لهذا الكون كوكبَهُ
وكان يعطي الضيا إطلالةَ النُّجُمِ

وكان - بين الورى - إشراقُهُ ألقِّا
وقد أتى قومَنا بالمنهج اللَّقِم

أقام دينَ الهُدى فيهم على عَمَدٍ
وشيّد الحق في الدنيا على دِعَم

وحقق العدلَ بين القوم أجمعهم
وأغدق القِسطَ مثل الوابل الرَّذِم

محمدٌ صفوة القيّوم خالقنا
وجوهرُ الخير في أزواجه العُصُم

ويَعرف الكل أوصافاً له قُرئَتْ
عند اليهود ، لدى الأحبار والنُّهُم

دعا الجميعَ إلى التوحيد محتملاً
أذى الضَّلال وسُوآي كلِّ مُجتَرِم

أنِ اعبدوا الله رباً واحداً أحَداً
أحيا البرايا على الدنيا من العدم

ونزِّهُوا اللهَ عن مِثل وعن شَبَهٍ
دعوا الضلال ، وخلوا رِبْقَةَ الصِّنَم

جل المليكُ ، فلا المخلوقُ يشبهه
وعز رب الورى الديانُ ذو النِّعم

دعا الرسولُ إلى الإسلام مَن كفروا
ورسّخ الحق في الدنيا مع القِيَم

وحطم الشركَ ، لا (عُزى) ولا (هُبَلٍ)
ولا (مَناة) ، فمن يُسلم فيُحتَرَم

ودمَّر الفسق ، لا عُهرٌ ولا طُرقُ
أتى بدين مَهيب الجاه مُعْتَلِم

وطهَّر البيتَ من أصداء تصديةٍ
ومِن مُكاءٍ جهير غيرِ مُنكَتِم

وأدِّبَ الكُفرَ ، فاندكتْ براثنُه
وأشهر السيفَ صدقاً ، والوطيسُ حَمِي

وحاطه الصحبُ في أجواء ملحمةٍ
فقاد جمعهمُ مثل السنا التَّمَم

جيشُ الرسول ، له في الحرب مَجلدةٌ
أكرمْ به من خَمِيس بالغِ العِظَم

وجاهد الصحبُ كلٌ حسْب طاقته
رِعاءُ شاةٍ ، وباتوا سادةَ الأُمم

على البِطاح أسودٌ في إغارتهم
ليوثٌ حرب على الأعداء كالحُمَمِ

رهُبانُ ليل ، ففي المحراب أدمعُهم
وفي النهار كمثل القاصل العَرِم

تعلم الصحبُ من أخلاق أسوتهم
تقوى الإله وطيبَ القول والشِّيَم

لا يستوي مَن رسولُ الله أسوتُهُ
ومَن له أسوة في الدود والحَلَم

أقام صرحَ التُّقى المختارُ قدوتُنا
وأنقذ الناسَ مِن مستنقع الإِزَم

واليومَ غابتْ عن الأقوام دولتُهُ
من الوجود ، فحلتْ لعنةُ النِّقَم

كذاك غابتْ عن الآفاق شِرْعتُه
فاستفحل الشرُ في تدميره العَمَم

وعاث في الأرض جبارٌ ومجتريءٌ
وزال مَن كان يرعى بَيْضَةَ الحُرَم

دمُ الحنيفة في الأرحاب مُنسكبٌ
وصَبّ جامَ المنايا خائنو الذِّمَم

تجندل الحقُّ في الأشلاء منتحراً
يبكي على أهله بالوصفِ والكَلِم

أهلُ الصليب على أفراحهم سهروا
وفِرقةُ الحق ماتت في دُجى الظُّلم

وأصبح الحق في القرطاس مُنطرحاً
على الرفوف ، كمثل الصخر والأَكَم

وجاهرَ القومُ بالتضليل خالقَهم
يحيا الجميعُ على الإفلاس في نَهَم

فلا فضيلةَ في أجوائهم ظهرتْ
ولا عفافَ سوى التدجيلِ في النُّظُم

ولا حياءَ ، ولا طُهرًا يُتوّجهم
كلا ، وعيشُ البرايا داكنُ السُّدُم

ومَن يُذكرُ بالرحمن مُضطهَدٌ
ومَن يُعربدُ بين الخلق كالعلَم

ومَن يقولُ (كفى) تلقاه منتحراً
بمِشفر المفتري ، ثم الرقيبُ عَمِي

وغُيِّبَ الهَديُ في القرطاس مبتئساً
كالبحر أطَّ بأمواج له بُهُم

ومنتهى الجِدِّ راياتٌ له رُفعتْ
لا يعبأ اللهُ بالأشكالِ والسِّيَم

إن ادعاءَ الهُدىَ أمرٌ له ثمنٌ
ومَن أحب جنانَ الله لم يَنَمِ

تساقطَ العِلمُ في الدينار مكتفياً
وبِيعَ للمشتهي ، كالشاء والنَّعَم

قد اشتراه الهوى مِن أهله ، فرضُوا
وطُوِّع العلمُ ، مثل العبدِ والخدم

تُعِلِّمَ العلمُ للدنيا ، فصار لها
مَطية رُكبَتْ ، كالنعل في القّدَم

ويحَ الدُّعاةِ ، ففي تطويعهم رتعوا
لا تحسبوه لكم شيئاً مِنَ اللَّمَم

وتُقْرأُ الآي في فحوى مُناسبةٍ
كأنما تُلِيَتْ في جَوْقةِ العَجَم

لا يفهم القومُ إلا ما يُمّتِّعُهم
على البُطون تراهم واسعي الكَرَم

عنِ الكتاب أيادِ القوم قد حُسِرتْ
فلا تعلُّمَ ، لكنْ عيشةُ الغَنَم

كم غافلٍ ضلّ عن هَدي يُزيِّنُهُ
يرى الفلوسَ ، كمثل المَنهْلِ الشَّبِمِ

ثم النساء ، فحدّثْ ثم لا حرجٌ
تبرجٌ ، وسفورٌ ، دونما ندم

أنَّى اتجهتَ ترى عُرياً يموجُ هَوىِّ
والعطرُ منتشرٌ في عالم النَّسَم

ذاتُ الحجاب (على الموضات) حِشمتُها
بالأمس عِفتها في ذِروة القِمَم

واليوم يعبثُ في تفكيرها حُمُرٌ
رهن المسير على الأرياحِ والدِّيَم

تُطِيع مَن كفروا ، كأنها أمَة
وإن بدا الحق تشكو وطأةَ الصَّمَم

يُزخرفون لها هزلاً تتوق له
كذاك قد دفعوا بالسُّم في الدَّسَم

تعدّد الزيفُ ، والتوحيدُ ما حقه
يوماً ستسحقه إرهاصة القُحَم

ثم الشبابُ له الأكفانُ قد نُسِجَتْ
يغشى الكبائرَ ، يحيا في لَظَى الجُرُم

مَن كان ينشر وحْيَ الله مجتهداً
على الأنام ، ويُزكِي نفحةَ الرُحَم

اليوم جاثٍ على أعتاب غانيةٍ
يؤزّه العِشقُ للغاداتِ في ضَرَمِ

حتى المناسكُ ، هذا الجيلُ ضيَّعَها
كأنما جيلنا في رقدة الرَجَم

فلا صلاةٌ ، ولا ذكرٌ ، ولا خُلُقٌ
واليومَ صامَ الورى ، والجيلُ لم يَصُم

تغيَّرَ الحالُ ، أمسى الليثُ ضفدعة
وأمَّةُ الحق غاصتْ في دُجى السَّأَم

وعندها الحقُ ، لكن لا يطيبُ لها
ترمي الدواء ، وتشكو ثقلة السَّقَمِ

أرضٌ تضِيعُ ، وأركانٌ مُضيعة
والذل عمَّ ، وضاعتْ نخوة الشَّمَم

يا أمةً صُبغتْ بالضنك هيبتُها
إذ أوغلتْ سيرَها في كُدرةِ الغَمَم

تبخترَ الجَورُ في أرجائها فرحاً
ليقمعَ العدلَ بالتسفيه والوَغَم

وينطقُ الزيفُ في الأرحاب دون حيا
وعُصبةُ الحق قاست شدة البَكَم

طال الرقادُ ، ووحيُ الله موقظُنا
والفجرُ آتٍ يُجَلِّي دلْجَةَ السَّخَم

وصل ربِّ على المختارِ أسوتِنا
والتابعين مِنَ الأعرابِ والعَجَم

© 2024 - موقع الشعر