حوار ثوري مع طه حسين - نزار قباني

ضوءُ عينَيْكَ أمْ هُمْ نَجمَتانِ؟
 
كُلُّهمْ لا يَرى .. وأنتَ تَراني
 
 
 
لستُ أدري مِن أينَ أبدأُ بَوْحي
 
شجرُ الدمعِ شاخَ في أجفاني
 
 
 
كُتِبَ العشقُ ، يا حبيبي ، علينا
 
فهوَ أبكاكَ مثلما أبكاني
 
 
 
عُمْرُ جُرحي .. مليونَ عامٍ وعامٍ
 
هلْ تَرى الجُرحَ من خِلال الدُخانِ؟
 
 
 
نَقَشَ الحبُّ في دفاترِ قلبي
 
كُلَّ أسمائِهِ ... وما سَمَّاني
 
 
 
قالَ : لا بُدَّ أن تَموتَ شهيداً
 
مثلَ كُلِّ العشّاقِ ، قلتُ عَسَاني
 
 
 
وطويتُ الدُّجى أُسائلُ نفسي
 
أَبِسَيْفٍ .. أم وردةٍ قد رماني ؟
 
 
 
كيفَ يأتي الهوى، ومن أينَ يأتي؟
 
يعرفُ الحبُّ دائماً عنواني
 
 
 
صَدَقَ الموعدُ الجميلُ .. أخيراً
 
يا حبيبي ، ويا حَبيبَ البَيَانِ
 
 
 
ما عَلَينا إذا جَلَسْنا بِرُكنٍ
 
وَفَتَحْنا حَقائِبَ الأحزانِ
 
 
 
وقرأنا أبا العلاءِ قليلاً
 
وقَرَأنا (رِسَالةَ الغُفْرانِ)
 
 
 
أنا في حضرةِ العُصورِ جميعاً
 
فزمانُ الأديبِ .. كلُّ الزّمانِ ..
 
 
 
*
 
 
 
ضوءُ عينَيْكَ .. أم حوارُ المَرايا
 
أم هُما طائِرانِ يحترِقانِ ؟
 
 
 
هل عيونُ الأديبِ نهورُ لهيبٍ
 
أم عيونُ الأديبِ نَهرُ أغاني ؟
 
 
 
آهِ يا سيّدي الذي جعلَ اللّيلَ
 
نهاراً .. والأرضَ كالمهرجانِ ..
 
 
 
إرمِ نظّارَتَيْكَ كي أتملّى
 
كيف تبكي شواطئُ المرجانِ
 
 
 
إرمِ نظّارَتَيْكَ ... ما أنتَ أعمى
 
إنّما نحنُ جوقةُ العميانِ
 
 
 
*
 
 
 
أيّها الفارسُ الذي اقتحمَ الشمسَ
 
وألقى رِداءَهُ الأُرجواني
 
 
 
فَعلى الفجرِ موجةٌ مِن صهيلٍ
 
وعلى النجمِ حافرٌ لحصانِ ..
 
 
 
أزْهَرَ البرقُ في أنامِلكَ الخمسِ
 
وطارَتْ للغربِ عُصفورَتانِ
 
 
 
إنّكَ النهرُ .. كم سقانا كؤوساً
 
وكَسانا بالوردِ وَ الأقحُوانِ
 
 
 
لم يَزَلْ ما كَتَبْتَهُ يُسكِرُ الكونَ
 
ويجري كالشّهدِ تحتَ لساني
 
 
 
في كتابِ (الأيّامِ) نوعٌ منَ الرّسمِ
 
وفيهِ التفكيرُ بالألوانِ ..
 
 
 
إنَّ تلكَ الأوراقِ حقلٌ من القمحِ
 
فمِنْ أينَ تبدأُ الشّفتانِ؟
 
 
 
وحدُكَ المُبصرُ الذي كَشَفَ النَّفْسَ
 
وأسْرى في عُتمةِ الوجدانِ
 
 
 
ليسَ صعباً لقاؤنا بإلهٍ ..
 
بلْ لقاءُ الإنسانِ .. بالإنسانِ ..
 
 
 
*
 
 
 
أيّها الأزْهَرِيُّ ... يا سارقَ النّارِ
 
ويا كاسراً حدودَ الثواني
 
 
 
عُدْ إلينا .. فإنَّ عصرَكَ عصرٌ
 
ذهبيٌّ .. ونحنُ عصرٌ ثاني
 
 
 
سَقَطَ الفِكرُ في النفاقِ السياسيِّ
 
وصارَ الأديبُ كالبَهْلَوَانِ
 
 
 
يتعاطى التبخيرَ.. يحترفُ الرقصَ
 
ويدعو بالنّصرِ للسّلطانِ ..
 
 
 
عُدْ إلينا .. فإنَّ ما يُكتَبُ اليومَ
 
صغيرُ الرؤى .. صغيرُ المعاني
 
 
 
ذُبِحَ الشِّعرُ .. والقصيدةُ صارَتْ
 
قينةً تُشتَرى كَكُلِّ القِيَانِ
 
 
 
جَرَّدوها من كلِّ شيءٍ .. وأدمَوا
 
قَدَمَيْها .. باللّفِ والدّورانِ
 
 
 
لا تَسَلْ عن روائعِ المُتنبّي
 
والشَريفِ الرّضيِّ ، أو حَسَّانِ ..
 
 
 
ما هوَ الشّعرُ ؟ لن تُلاقي مُجيباً
 
هوَ بينَ الجنونِ والهذيانِ
 
 
 
*
 
 
 
عُدْ إلينا ، يا سيّدي ، عُدْ إلينا
 
وانتَشِلنا من قبضةِ الطوفانِ
 
 
 
أنتَ أرضعتَنا حليبَ التّحدّي
 
فَطحَنَّا النجومَ بالأسنانِ ..
 
 
 
واقتَلَعنا جلودَنا بيدَيْنا
 
وفَكَكْنا حجارةَ الأكوانِ
 
 
 
ورَفَضْنا كُلَّ السّلاطينِ في الأرضِ
 
رَفَضْنا عِبادةَ الأوثانِ
 
 
 
أيّها الغاضبُ الكبيرُ .. تأمَّلْ
 
كيفَ صارَ الكُتَّابُ كالخِرفانِ
 
 
 
قَنعوا بالحياةِ شَمسَاً .. ومرعىً
 
و اطمَأنّوا للماءِ و الغُدْرانِ
 
 
 
إنَّ أقسى الأشياءِ للنفسِ ظُلماً ..
 
قَلَمٌ في يَدِ الجَبَانِ الجَبَانِ ..
 
 
 
يا أميرَ الحُروفِ .. ها هيَ مِصرٌ
 
وردةٌ تَستَحِمُّ في شِرياني
 
 
 
إنّني في حُمّى الحُسينِ، وفي اللّيلِ
 
بقايا من سورةِ الرّحمنِ ..
 
 
 
تَستَبِدُّ الأحزانُ بي ... فأُنادي
 
آهِ يا مِصْرُ مِن بني قَحطانِ
 
 
 
تاجروا فيكِ.. ساوَموكِ.. استَباحوكِ
 
وبَاعُوكِ كَاذِبَاتِ الأَمَانِي
 
 
 
حَبَسوا الماءَ عن شفاهِ اليَتامى
 
وأراقوهُ في شِفاهِ الغَواني
 
 
 
تَركوا السّيفَ والحصانَ حَزينَيْنِ
 
وباعوا التاريخَ للشّيطانِ
 
 
 
يشترونَ القصورَ .. هل ثَمَّ شارٍ
 
لقبورِ الأبطالِ في الجَولانِ ؟
 
 
 
يشترونَ النساءَ .. هل ثَمَّ شارٍ
 
لدموعِ الأطفالِ في بَيسانِ ؟
 
 
 
يشترونَ الزوجاتِ باللحمِ والعظمِ
 
أيُشرى الجمالُ بالميزانِ ؟
 
 
 
يشترونَ الدُّنيا .. وأهلُ بلادي
 
ينكُشونَ التُّرابَ كالدّيدانِ ...
 
 
 
آهِ يا مِصرُ .. كَم تُعانينَ مِنهمْ
 
والكبيرُ الكبيرُ .. دوماً يُعاني
 
 
 
لِمَنِ الأحمرُ المُراقُ بسَيناءَ
 
يُحاكي شقائقَ النُعمانِ ؟
 
 
 
أكَلَتْ مِصْرُ كِبْدَها .. وسِواها
 
رَافِلٌ بالحريرِ والطيلَسَانِ ..
 
 
 
يا هَوَانَ الهَوانِ.. هَلْ أصبحَ النفطُ
 
لَدَينا .. أَغْلى من الإنسانِ ؟
 
 
 
أيّها الغارقونَ في نِعَمِ اللهِ ..
 
ونُعمَى المُرَبْرَباتِ الحِسانِ ...
 
 
 
قدْ رَدَدْنا جحافلَ الرّومِ عنكمْ
 
ورَدَدْنا كِسرى أنوشِرْوانِ
 
 
 
وحَمَيْنا مُحَمَّداً .. وعَلِيَّاً
 
وحَفَظْنا كَرامَةَ القُرآنِ ..
 
 
 
فادفعوا جِزيَةَ السّيوفِ عليكُمْ
 
لا تعيشُ السّيوفُ بالإحسانِ ..
 
 
 
*
 
 
 
سامِحيني يا مِصرُ إنْ جَمَحَ الشِّعرُ
 
فَطَعْمُ الحريقِ تحتَ لِساني
 
 
 
سامحيني .. فأنتِ أمُّ المروءَاتِ
 
وأمُّ السّماحِ والغُفرانِ ..
 
 
 
سامِحيني .. إذا احترَقتُ وأحرَقْتُ
 
فليسَ الحِيادُ في إمكاني
 
 
 
مِصرُ .. يا مِصرُ .. إنَّ عِشقي خَطيرٌ
 
فاغفري لي إذا أَضَعْتُ اتِّزاني ...
© 2024 - موقع الشعر