من يوميات شقة مفروشة - نزار قباني

1
هذي البلاد، شقة مفروشة
يملكها شخص يسمى عنترة
يسكر طول الليل عند بابها
ويجمع الإيجار من سكانها
ويطلب الزواج من نسوانها
ويطلق النار على الأشجار، والأطفال،
والعيون، والأثداء..
والضفائر المعطرة...
2
هذي البلاد كلها..
مزرعة شخصية لعنتره
سماؤها
هواؤها
نساؤها
حقولها المخضوضرة..
3
كل البنايات هنا
يسكن فيها عنتره
كل الشبابيك..
عليها صورة لعنتره..
كل الميادين هنا
تحمل إسم عنتره..
4
عنترة يقيم في ثيابنا
في ربطة الخبز..
وفي زجاجة الكولا..
وفي أحلامنا المحتضره
في عربات الخس، والبطيخ،
في الباصات،
في محطة القطار،
في جمارك المطار،
في طوابع البريد،
في ملاعب "الفوتبول"،
في مطاعم (البيتزا)..
وفي كل فئات العملة المزورة..
5
مدينة مهجورة.. مهجره..
لم يبق فيها فأرة، أو نملة..
أو جدول، أو شجره..
لا شيء فيها يدهش السياح
الا الصورة الرسمية المقررة
للجنرال عنتره.
في غرفة الجلوس،
في الحمام،
في المرحاض،
في ميلاده السعيد،
في ختانه المجيد،
في قصوره الشامخة..
الباذخة.. المسورة..
6
ما من جديد
في حياة هذه المدينة – المستعمره
فحزننا مكرر
ونكهة القهوة في شفاهنا
مكرره..
فمنذ أن ولدنا
ونحن محبوسون
في زجاجة الثقافة المدورة..
واللغة المدوره..
ومذ دخلنا المدرسة
ونحن لا ندرس إلا سيرة ذاتية واحدة
تخبرنا عن عضلات عنتره..
ومكرمات عنتره..
ومعجزات عنتره..
ولا نرى، في كل دور السينما
إلا شريطاً عربياً مضجرًا
يلعب فيه عنتره!!
7
لا شيء في إذاعة الصباح نهتم به
فالخبر الأول فيها
خبر عن عنتره
لا شيء في البرنامج الثاني سوى
عزف على القانون
من مؤلفات عنترة.
وباقةٍ من أردأ الشعر..
بصوت عنتره..
ولوحة زيتية
من خربشات عنترة..
8
هذي بلاد
يمنح الكتاب فيها صوتهم
لسيد المثقفين عنتره
يجملون قبحه.
يؤرخون عصره.
وينشرون فكره.
ويقرعون الطبل
في حروبه المظفره..
9
لا نجم فوق شاشة التلفاز
إلا عنتره.
بقده المياس..
أو ضحكته المعبره.
يوماً، بزي الدوق والأمير.
يوماً، بزي الكادح الفقير.
يوماً، بزي الواحد القدير.
يوماً، على دبابة روسية..
يوماً، على مجنزرة..
يوماً، على أضلاعنا المكسره..
10
لا أحد..
يجرؤ أن يقول (لا)..
للجنرال عنتره.
لا أحد..
يجرؤ أن يسأل أهل العلم في المدينه
؟؟؟
؟؟؟
إن الخيارات هنا محدودة
بين دخول السجن..
أو بين دخول المقبرة..
11
لا شيء..
في مدينة المليون تابوت..
سوى تلاوة القرآن..
والسرادق الكبير..
والجنائز المنتظرة.
لا شيء..
إلا رجل يبيع في حقيبة
تذاكر الدخول للقبر..
يسمى عنتره..
12
عنترة العبسي
لا يتركنا دقيقة واحدة
فمرة، يأكل من طعامنا.
ومرة، يشرب من شرابنا.
ومرة ، يندس في فراشنا.
ومرة، يزورنا مسلحاً
ليقبض الإيجار..
عن بلادنا المستأجرة..
13
هل ممكن؟
هل ممكن؟
أن يستقيل الله من سمائه
وأن تموت الشمس،
والنجوم،
والبحار،
والغابات،
والرسول والملائكة..
ولا يموت عنترة؟؟
لندن 1990
© 2024 - موقع الشعر