أبجديات شعرية! - أحمد علي سليمان

الشعرُ يُخرجُ ما - في القلب - يختبئُ
حتى يُشَفى عن الخواطر الخبءُ

وكم يزيد مَعينَ العقل تبصرةً!
فلا تراه - إلى الأوهام - يلتجئ

وكم يُلاحي لتُجْلى كلُ داجيةٍ!
لأنه بسنا الشعور يدّرئ

وكم يناضلُ في سِر وفي علن
بجُعبةٍ بسِهام الحق تمتلئ!

وكم يُشَخِّص داءاتٍ وأدوية
فيها يُصيبُ ، وقد ينتابُه الخطأ!

وكم يُلمّعُ غاياتٍ ويُتحِفها
من بعد أن نالها ببأسه الصدأ!

وكم يُزيلُ دياجيراً تسربلنا!
هل بالدياجير وهجُ النور ينطفئ؟

وكم يُعَبّئُ طاقاتٍ ويَشحذها!
وقبلُ كانت تني طوعاً وتهترئ

رصيدُ تجربةٍ كانت مُغيّبة
فلم تعدْ - في سُويدا القلب - تختبئ

ما صادقُ الشعر إن قِسْنا ككاذبه
إلا إذا اشتبه الغسّاق واللبأ!

والشاعرُ الحق مَن يسمو به الأدبُ
فعنده - لِسَنا الفضائل - الغلبُ

يُثري القريضَ بما يُزجيه مِن دُررٍ
يرجو الثواب مِن المولى ، ويحتسب

ولا يُسَخِرُ - في الإسفاف - موهبة
إذ ليس يَصرفه - عن جَده - اللعب

لا وصفَ غانيةٍ يُودي بهمّته
وكيف يهزل مَن - للشرع - ينتسب؟

ولا يُطوّع - للطغيان - ما كتبتْ
كَفٌ بتقوى إله الناس تختضب

ولا يُدَشّنُ ، فالتدشينُ مَخبثة
يهواه قومٌ - إلى الرذائل - انجذبوا

ولا يُرائي بأشعار مزوّرة
قِوامُها الزيفُ والتمويهُ والكذب

ولا يتاجر بالأبيات ما احترمتْ
ديناً ولا قِيماً ، إذ عافها الأدب

لكنْ يَذودُ عن الأخلاق مُحترباً
وكلُ شهم - لأجل الخُلق - يَحترب

مستعذباً كل ما يلقاه في فرح
كأن سامرَه - في المِحنة - الطرب

ما الشعرُ إن صاغه حُثالة بُهُتُ
مِن الشريعة والفضائل انفلتوا؟

عزيفهم لا يساوي الحِبرَ خط به
منذ استجابوا إلى الشيطان ، وانتصتوا

وأوغلوا السيرَ في متاهةٍ برئتْ
مِن العفاف ، إلى أن شابها العَنت

فأفسدوا الناسَ والأمصار قاطبة
وعمّ أرضهُمُ البلاءُ والقلت

وتلك عُقبى الألى باعوا ضمائرَهم
وللمفاسد والقبائح التفتوا

ما الشعرُ إن طفحتْ فسقاً قصائدُه
وبات عمداً - على الإسلام – يفتئت؟

وما اكتفى - بخِلال الشر - يُشعلها
ناراً على أمّة التوحيد تنكلت

ولا اكتفى بالذي ألقاه من شُبَهٍ
بين الخلائق يُزكِي وهْجَها العَتت

ولا اكتفى بمبادي الكفر رَوّجها
جبراً وقهراً على أيدي الألى بُهِتوا

ليَذهبِ الشعرُ إن غارتْ طلاوته
وليَخسأ القومُ - عن تفنيده - سكتوا

كم من قصائدَ منها النور ينبعثُ!
جلتْ ، فليستْ- لمَا يشينُ - تمترثُ

نأت عن الشر والسوأى ، فما انحدرتْ
إلى الحضيض ، فما أرزى بها الخبث

واستشرفتْ لجليل اللفظ تنسجُه
ثوباً يُغرّد - في طياته - الحدث

وصورتْ ما ارتأى ضميرُ شاعرها
وزانها - في الأداء - الحب والخوث

وعندما أنشدتْ - في الناس - تاق لها
كلُ الكِرام وجَدّوا ، فانجلى العبث

فأورثتهم مِن الجمال أطيبَه
فلم يُمِلهم - عَن الفضائل - الرفث

وهيّجتْ - لخِلال الخير - مَن أخِذوا
بما احتوته - مِن الضياء - ينبعث

وسطرتْ - في قلوب الناس - ملحمة
تفوقُ خندمة ، يقودُها البعث

قصائدٌ تمنح الحياة فاقدها
كما تحِنّ - إلى المعيشة - الجُثث

وإنما ثلثا أفكارها قِيمٌ
واللفظ والوزن والبلاغة الثلث

وكم قصائد أملاها الألى هرجوا
من بعد أن جَرّهم – للباطل – الهَوَجُ!

وأخلدوا جُملة إلى جهالتهم
كأنهم بالذي تكلفوا ابتهجوا

وأغلبُ الناس - بالأشعار - قد فتِنوا
وللجميع - لدى تبريرهم - حُجَج

كيف استباح الألى خطوا قصائدهم
أخلاقَ شِرعتنا ، أولئك الهمَج؟

صاغوا التهتك أشعاراً مزركشة
وبالأباطيل هم على الورى خرجوا

كيف استمالوا الغثا لنصر باطلهم
ولقنوهم مواويلاً بها لهجوا؟

هذي الأهازيجُ مهما دفّ مُنشدُها
لها ، فمنها وربّي يبرأ (الهزج)

وكم - على الشعر - مرّتْ شرُ أزمنة!
وكان منها أصيلُ الشعر يَختلج

وكبلتْ أزمة إبداعَ كوكبةٍ
مِن الأباة ، متى يا قوم تنفرج؟

وكابدَ الشعرُ حتى غصّ رونقه
بما يُلاقيه حتى طالتِ الحِجج

والكل يشكو ، وبالتبرير يَفتتحُ
ويستهين بما قد عاش يَجترحُ

فشاعرٌ نافقَ الطاغوتَ مُنتظراً
منه النوالَ ، فبئسَ النولُ والمنح!

وشاعرٌ ناولَ الفسّاق أغنية
فيها يُرَوّجُ للسوآى ، ويَمتدح

وشاعرٌ باعَ - للشيطان - ذمته
فشعرُه اليومَ فجٌ مُقرفٌ وقح

وشاعرٌ - في هوى النسوان - منجدلٌ
أودى به العِشقُ والغرامُ والمَرح

وشاعرٌ حَبّرَ الأوزانَ صادية
هذا (طويلٌ) ، وهذا بعدُ (مُنسرح)

وشاعرٌ جندَ الأشعارَ طيّعة
في حرب مَن ناوأوا الضلالَ ، أو نصحوا

وشاعرٌ في سبيل المال أطلقها
دعاية بالقريض الغث تتشح

وشاعرٌ كأسُه - بالرجز - مُترعة
وهزله - في بقاع الأرض - مُفتضح

فيم التشاكي وهم باعوا ضمائرهم؟
وهل يُنالُ بما هم أحدثوا فلح؟

إني لأعجب مِن باغ ويَصطرخ
ولكنة عَجمتْ شكواه ترتضخ

أصادقٌ هو في دعوى يردّدها؟
أم كاذبٌ وعليه الأمرُ يبتلخ؟

كم يدّعي الطهرَ مَن خاست سريرته
وقلبه - بقتام الإفك - متسخ!

كيف استكان لمَا حاكتْ هواجسُه
مِن التخرّص - بين الناس – يرتسخ؟

لم يَرجُم الشعرَ إلا أهلُ صنعته
من الذين - لأصحاب الهوى - رضخوا

فقدمّوه لهم قربانَ طاعتهم
كأنهم - مِن هُدى الشريعة - انسلخوا

واستخدموه سيوفاً يذبحون بها
قوماً بآنافهم - ضد البلا - شمخوا

وبعد أن شقيتْ بهم شبيبتنا
وردّدوا كل ما أهلُ الخنا نسخوا

جاء الجميعُ بآهاتٍ مجلجلةٍ
ومَن غوى والذي أغوى الورى اطرخوا

وهم بما ارتكبوا ، خطوا نهايتهم
فما استدام لهم عِز ولا بَذخ

حتى الشواعرُ في الفوضى لهن يدٌ
كأنهن - بساحات الوغى - أسُدُ

أنشدن ما يفسد الدنيا بلا خجل
فشِعرُهن - إلى الأخلاق - يفتقد

والدُورُ تشهدُ ، والشاشاتُ شاهدة
وليس ينكرُ ما أقوله أحد

والأمسياتُ بما ذكرتُ ناطقة
إني - على كل ما تزجيه - أعتمد

مِن كل حسناءَ تُبدي حُسنها طمعاً
فيما تؤمّلُ ، أين الوعيُ والرَشَد؟

وكيف تظهرُ - للدنيا - مفاتنها
وفي التزيّن بالمكياج تجتهد؟

ألا تغار - على الحريم - كوكبة
مِن الرجال - بفرط الغيْرة - انفردوا؟

ما قيمة الشعر إن ألقته غانية
تُهدي تبرّجها لمن له سجدوا؟

وكيف تدعو إلى خير تخالفه
وإن تكن - للذي نحياه - تنتقد؟

إني أراها - بهذا الطرح - كاذبة
خاب التخرّصُ والتدليسُ والفند؟

إن التهتك - بين الصِيد - منتبذُ
وليس يعجبُ إلا مَن به أخِذوا

وكم تبذلَ - في الأشعار - مُرتزقٌ
خالي الوفاض ، فما في كيسه قذذ!

فراح يُسرفُ - في التشبيب - مبتذلاً
إذ غاله قدمُ الهيفاء والفخِذ

بضاعة رخصتْ في سوق مَن سفلوا
وكل مَن يشتري يَخزى ويُنتبذ

والدِينُ يَعصمُ مَن يأوي لشِرعته
وفي التقى والعفاف النجوُ والنقذ

ويخذلُ اللهُ مَن – بالباطل - التحفوا
ولهواً الآيَ والحنيفة اتخذوا

لو أحسنوا القصدَ ما ضلوا ، ولا ارتكسوا
ولا الضلالاتِ مِن أعدائهم شحذوا

واللهُ ناصرُ مَن طابت سرائرُه
وعند رب الورى - للحائر - العوذ

فأصلِحوا أيها العادون ، والتمسوا
رضا الملك ، وبالنصح النبيل خذوا

ونحن ننتظرُ الأشعار داعية
إلى الرشاد به يَسترشدُ الفلذ

مازال شعرُ الخنا يُغري الألى مَكروا
بنا ، فهم - بالذي صاغ - الغثا انبهروا

وعيّرونا بما صغتم بدون حيا
مِن القصائد منها القلب ينفطر

تثيرُ في الناس إن - قِيلتْ- غرائزهم
حتى تظل - مِن اللهيب - تستعر

ولا تخاطبُ - في الآنام - عاطفة
إلى المبادئ والأخلاق تفتقر

ولا تصحّحُ مفهوماً بأدمغةٍ
قد استقرّ ، وفيه الشر والضرر

ولا تجدّدُ فِكراً - في القلوب - ثوى
وكم تصِحّ - إذا ما جدّدَتْ – فِكَر!

ولا تُغيّر أوضاعاً تزلزلنا
مضى على مُكثها - في دارنا - عُصُر

ولا تُبَصّر مَن ضلوا بمنهجهم
حتى يُقيموه في الدنيا ، وينتصر

ومِن هنا قالها الأعداءُ معلنة
أنا - إلى دَرَكِ السفول - ننحدر

فهل تفيقون مِن كيدٍ يَحيقُ بنا؟
أم غرّكم بالذي سطرتمُ السكَر؟

إني أهيبُ بكم ، فالفرصة انتهزوا
وأدّبوا شِعرَكم ، وبعدها ارتجزوا

فإن فعلتم سيُطري الشعرُ سامرَكم
ويَحتفي بكمُ (البسيط) و(الرجز)!

وينشدُ الجيلُ مُعتزاً قصائدَكم
جَلّ القريضُ - على التوحيد - يرتكز

وتحصدون مِن الألقاب أعذبها
وتفحمون الألى - عن ظلها - عجزوا

وتقتدي بكمُ الأجيال واعدة
ويستعينُ بكم مَن - للذرى - برزوا

وتُصبحون - لمن رامَ الهُدى - هدفاً
لقد يكون - إلى أشعاركم - عَوَز

وتؤجرون - على الأشعار - سَجّلها
قومٌ مغاوير ما نمّوا ، وما لمزوا

وما استبدّوا بآراءٍ مُدمرةٍ
وما استطالوا على قوم ، وما غمزوا

وما استباحوا - مِن الأعراض - أشرفها
وما استحلوا حِمى قوم ، وما همزوا

ولم يخطوا - لأجل المال - ما ارتجلوا
من القريض ، وما حازوا وما كنزوا

كم سجّل الشعرُ مِن أنباءَ تُلتمَسُ
منها الأحاديثُ ، والأحداثُ تقتبسُ!

كم احتوى مِن تواريخ الألى سبقوا!
وبالتواريخ - عند البحث - يُؤتنس!

وكم وقائعَ بالأشعار قد حفظتْ!
لولا القريضُ لكان النصّ يندرس!

وكم - به - نصِر الإسلامُ في ملأ
في النيل منه ومن أحكامه انغمسوا!

وكم به ذاد (حسانٌ) بلا وجَل
عن النبي ، فهذا شاعرٌ مَرس!

صدّ الأعاديَ بالأشعار صاعقة
لكل بيتٍ سنا ، كأنه قبس

وسلّ مما افترَوْا ظلماً (محمدَنا)
فكابدوا سَلّهُ بالكاد ، وابتأسوا

وكان جبريلُ روحُ القدس ناصرَه
بعد المليك بإرشادٍ له أسس

بدعوة مِن رسول الله خالصةٍ!
الشعرُ فجْرٌ بها أيّانَ ينبجس

وهل كمثل دُعا النبي مَكرُمة؟
طابَ النبيّ! وطابَ اللفظ والنفس!

وكم قضايا بساط الشعر تفترشُ
بها يزولُ - عن البصائر – الغبَشُ!

وكم علوم عِيارُ الشعر زللها
وكلُ تال - لِمَا تحويه - يندهش!

وكم مواقفَ نظمُ الشعر حَجّمَها
عن التشعّب ، فيها الطغمة احتمشوا!

وكم مشاكلَ بالشعر النديّ مَضتْ
والقومُ بعدَ مُضِي الغمّة احترشوا!

وكم علائقَ قوّى الشعرُ واهنها
فأصبحتْ - في رياض الشعر – تنتعش!

وكم عُرىً نُقِضَتْ مِن بعد قوّتها
والشعرُ أرجعَها بالحب تنتفش!

وكم بقاع غزاها المُعتدون ضحىً
واستسلمتْ أممٌ ، وأزهقتْ عُرُش!

فاستبسل الشعرُ في استرجاع ما غصبوا
وخاف - مِن هوله - المستعمرُ الوبش

وكم لأجل البطون احتجّ مَن حُرموا!
كم يُحرجُ الهازلين الجوعُ والعطش!

فأشبع الشعرُ مَن – للعزة - انتفضوا
فهم بشِعر الإبا أمجادَهم نقشوا

فهؤلاء على إعزازهم حرصُوا
ومِن حظوظ هوى نفوسهم خلصُوا

وضمّنوا الشعرَ آياتٍ تجمّله
وللأحاديث - في أبياته - حِصص

وخللوهُ أقاصيصاً مُحققة
ما الشعرُ إن غابت الآيات والقِصص؟!

وزركشوه بأمثال غدتْ حِكَماً
ولم تمِله عن الإجادة الغصص

لم يُرخصوه لشار لا يُثمّنه
ما الشعر إن غاله التزهيدُ والرِّخص؟!

فهؤلاء - على إجلاله - دَرَجوا
خاب المزادُ ومَن زادوا ومَن نقصوا!

إن القصائد إن هانت فقد وئدتْ
والأمرُ ليس - على الكِرام - يختبص

إما قصائدُ عَزتْ لا عَوارَ بها
ولا عُيوبَ ولا سُوآى ولا رُخَص

أو النكوص عن الكتابة اقتصرتْ
على الهُراء ، فأنعِم بالألى نكصوا!

لا للتغني بنص لا رشادَ به
وضلّ قومٌ على أنغامه رقصوا

وللظهور عُتاة بالعُروض رضُوا
فهل يُفيد الهوى ، أو ينفعُ العَرَضُ؟

حازوا الصدارة بالبهتان في زمن
لأغلب الشعر مِن تأليفه غرض

يُرغِي ويُزبدُ إن زادت دراهمُه
وأهله يُبدعون - الدهرَ - إن قبضوا

ألا تراهم - بذا التلميع - قد قبلوا
واستُدرجوا فاستساغوا الضيمَ ما رفضوا؟

وعصبة السوء خصُّوهم بما ادخروا
من البرامج فيها الدس والحرض

وأغدقوا عاطر الألقاب تشفية
فيمن - على منهج التزلف - اعترضوا

وقدموهم - إلى التلفاز - كبش فدا
والمال - للشعر والمستشعر - العِوَض

إن التزلف - للإجرام - منزلقٌ
إليه يدلف مَن في قلبه مرض

لا يَشتري المالُ إلا شاعراً عفناً
مِن الذين - إلى أهل الغنى - ركضوا

حتى يقول الذي يرجوه سيدهُ
ولا يقول: أنا قد مسّني المَضض

طاب القريضُ - بشرع الله - ينضبطُ
فلا يُعكّره غبنٌ ولا شططُ

فإن نأى عن هُدى الإسلام ضاق به
عبدٌ جوارحُه – بالشرع - ترتبط

وكم كتبتُ ، وأشعاري مدونة
ودمعُ خاطرها – بالصبر - مُختلط!

أبكي على أمتي كيف استهان بها
عدوّ مِلتِها والساسة السطط؟

وكيف أضحتْ غثاءً لا اعتدادَ به
وجيلها في بقاع الأرض منبسط؟

مِليارها اليومَ لا وزنٌ ولا ثقة
والسيفُ فيهم برغم الأنف مخترط!

وخيرُها - في بلاد الكون - منتشرٌ
ويَطمعُ الكلُ فيها: الفرسُ والنبَط

والشعرُ يَرثي لها ، واللفظ مُستعرٌ
يشكو الجراحَ ، ويكوي حُسنه الحَبَط

ويُسخِط الشعرَ ما يلقاه مِن مِحن
فهل يزيل العنا البكاءُ والسَخط؟

كم من قريض - على الأمجاد - يبكيْ دماً
وآخرٍ - لفساد الناس - يغتبط!

لا يُحسِن الشعرَ إلا نابهٌ يَقِظُ
مِن المواقفِ والأغيار يَتعظ

وسامعوه لهم حَسٌ - به - عُرفوا
أما الرواة فمِن ظرف الصدى حفظوا

والمُعجبون بشعر الحق شرذمة
مِن الخِيار إذا لقُوا الورى وعظوا

لا يجهلون على مَن نالهم بأذىً
فليس - فِي طبعهم - طيشٌ ولا غِلظ

ولا يُدَانَوْن في لِين ولا أدب
بل كلَّ مَنقصة تُزري بهم لفظوا

يُرَجّعون - مِن الأشعار - أجودَها
وإن أبى البعضُ ما قالوه ، أو لمظوا

وجيّدُ الشعر مقبولٌ ومحترمٌ
يُصغي إليه اللبيبُ المُخبِتُ اليَقِظ

مُقوماتُ البقا تضفي عليه بَها
وبالثبات مَدى الأيام يحتفظ

والناسجون على مِنواله كُثرٌ
وإن يَعُقهم - عن الإجادة - النكظ

وإنْ غواة رمَوْا – بالجهل - دُربتهم
تعقبوا فرقة ، وفرقة عكظوا

كيْلا تغرّهمُ الراياتُ والشيعُ
ولا الأباطيلُ صاغوها ولا البدعُ

إن التمحّك مرهونٌ بخيبته
ولا تراه إذا ما انضام يَرتدع

والشعرُ يشكو- مِن القراء - جفوتهم
إذ لم تعد صفوة تأسى وتطلع

بل هجرة فرضتْ على قصائده
وأهلها العِيرُ- في تمريرها - برعوا

واستسهل الناسُ ما أيديهمُ كتبتْ
مِن العزيف الذي - في نظمه - اندفعوا

وهاجم القومُ شِعرَ العُرب ، بُغيتهم
هدمُ القديم ، وشِعراً حُراً ابتدعوا!

وألبسوه مِن الأوزان ما اخترعوا
وشدّهم - نحوه - الإعجابُ والولع!

وأطربوا الغربَ مَن أعمى بصائرهم
لأنهم - للذي يهذي به - استمعوا

وأكبروه على التخطيط حاق بهم
وبئس ما أحدثوا! وبئس ما صنعوا!

هم حرّروا الشعرَ مِن وزن وقافيةٍ
والغربُ مدرسة ، وهم له تبَع!

وفي التحايُل والتضليل هم نبغوا
بألسُن قادها - في الفتنة - اللثغ

والضادُ - مما ادّعَوْا جهارة - برئتْ
لأنهم - بالذي تعشّقوا - اصطبغوا

وراهنَ الكلُ مُحتالاً على لغةٍ
في عَرضها كلّ أرباب الشقا ولغوا

والمُغرضون اعتدَوْا على شرافتها
ويعلم اللهُ ما عُتاتُهم بلغوا

والشعرُ نال مِن العداوان أعنفه
والنحو جندله - في المحنة - الوتغ

والصرفُ خُصّ بتسفيهٍ وسفسطةٍ
ولا يزال يني ، فالقوم ما فرغوا

وبالبلاغة مَسٌ مِن جهالتهم
إذ بالركاكة هم إن حدّثوا صُبغوا

وللأساطين مِن أنصارها جلبٌ
ضد الألى - بين أهل الضاد - كم نزغوا

حتى يُعيدوا - إلى الفصحى - نضارتها
مِن بعد ما غيّبتْ نقاءَها الزرع

هم الأسودُ لهم زئيرُ خندمةٍ
فهل تخيفُ - أسودَ الغيضة - الوزغ؟

وإن للضاد أنصاراً بها شغفوا
وكل هاوٍ لها حقاً له الشرفُ

بها الكِتابُ مليكُ الناس أنزله
والناطقون بها بمجدهم عُرفوا

وبين شتى اللغا لها مكانتها
حتى الأعادي بسامي فضلها اعترفوا

وسَلْ (عُكاظاً وذا المجاز) عن خبر
فيه النزاهة والإنصاف والثقف

يُنبيك أن - لدى الفصحى - شروط بقا
وأنها عن لغات الناس تختلف

مُقوماتُ لسانِ الضاد نابضة
ومِن جنائنها الورودُ تقتطف

وكم تأبّتْ - على التغريب – صامدة!
فالضادُ ليست - مع التيار - تنجرف

واسألْ بنيها ومَن مِن نبعها نهلوا
هل استكانت لمن يبغي ويعتسف؟

وهل ألانتْ - للاستشراق - جانبها؟
أو أذعنتْ لأناس - جهرة – خرفوا؟

بل أثبتتْ - لأعاديها - جدارتها
جدارة تجعل التنويرَ يرتجف

محاولاتُ أولي التغريب تستبقُ
والضاد تفضحُ ما شادوا وما اختلقوا

يُشككون ، فهل أجدتْ مطاعنهم؟
وهل صحيحُ الحِجا - في قولهم - يثق؟

ويَذبحون لسان الضاد صبحَ مسا
وفي النزال سيوفُ الغدر تُمتشق

وفي مَرابعنا - لهم - دَجاجلة
إلى الحضيض الذي- دَعَوْا له - انزلقوا

مِن الرقيع غزا النشاذ منطقهُ
يُردّد - اليوم - ما به العِدا نعِقوا

ومِن سفيهٍ يقول: الضاد قد هَرمتْ
والإنجليزيّة الشهباءُ تأتلق

والإمّعاتُ - على الدروب - دون هُدىً
يُكرّرون ، ولو جَدّوا لمَا نطقوا

والضادُ في وجه كلٍّ كالمنار بدا
يَهدي الحيارى ، كمثل البدر يتسق

وقد تُعاجلُ مَن يُدمي شبيبتها
بطعنةٍ - مِن صداها - يَذهبُ النزق

يَخزى الجميعُ ، وتبقى الضاد شامخة
كالطود إذ يحتفي – ببأسه - الأفق

والضاد مملكة ، وشعرُها المَلِكُ
وجُندُها ضمّهم - للذود - مُعترَكُ

والشعر كم زاد عن فصحاه دون ونىً
وكفّ لمّا رأى أعداءَها هلكوا!

وللقصائد فحواها وقِيمتها
والمُنشدون لهم - في طرحها - نسك

والشعرُ بالخُلق العظيم مُلتزمٌ
كالنجم يَحكمُه - في دَوْره - الفلك

ينالُ مِن زمَر العادين مُدّرعاً
بالحق ، ثم يَفلُ ما حبكوا

فتارة ينبري - كالبرق - يصعقهم
وفي التشفي من الناجين ينهمك

وتارة كسِراج في توقدِهِ
يفرّ مِن نوره إن أشرقَ الحَلك

أو كالخضمّ إذا أمواجُه هدَرتْ
فهل تُضاهي الخضمَ الهادرَ البرَك؟

وتارة مثل حوتٍ في الخليج إذا
ما هاج زاغتْ دوابُ البحر والسمك

وهكذا الشعرُ إمّا خاض معركة
ضد الذين - مع الفصحى - قد اشتبكوا

وشعرُ (حسان) - في تاريخنا - المَثلُ
وشعرُ (كعب) - به - الأيامُ تحتفلُ

(وابن الرواحة) - في أشعاره - قِيَمٌ
على الفضائل والأخلاق تشتمل

همُ العباقرة الأفذاذ تحسَبُهم
حازوا المناقبَ ، نعم السادة الُأوَل!

إنا ضيوفٌ على أشهى موائدهم
عزّ المُضيفُ ، وطاب الشربُ والأكُل!

نختار ما نشتهي مِن شِعر جمهرةٍ
همُ الأجاويدُ يُعطون الذي سُئلوا

نحن المَدينون فعلاً بالكثير لهم
وإنْ يكن - بيننا - تباعدَ الأجل

أشعارُهم مَنهلٌ عذبٌ لوارده
وشِعرُ مَن دونهم - للوارد - الوَشَل

ذادوا عن الدين فانساق البيانُ لهم
طوْعاً ، وناولهم كلّ الذي أملوا

والشعرُ هَشّ لهم ، وبَشّ محتفياً
بخير مَن أسلموا ، وخير مَن عملوا

وكان رائدَهم في كل ملحمةٍ
فبعضَه ارتجزوا ، وبعضَه ارتجلوا

الشعرُ - للشاعر الصدوق - مغتنمُ
يأوي إليه إذا ما طمّتِ النِقمُ

يبث نجواهُ للسلوى بلا قلق
فالسر حتماً - لدى القريض - مُنكتِم

إمّا خلا شاعرٌ بالشعر باحَ لهُ
بما يُعانيه ، والدموعُ تنسجم

والشعرُ مُنتصتٌ لمَا يُقال لهُ
حتى يكُفّ - عن القول الشجين - فم

ولا يُقاطعُ - بالشكوى - مُحدثهُ
وإن يكن كاتباً ، فالفيصلُ القلم

يُسَطر الألمَ المُلتاعَ مُحتملاً
ناراً - بقلب نديم الشعر - تضطرم

يَصوغ مِحنته شعراً تنوءُ به
بيضُ الرقاع ، بها الأشعارُ تبتسم

وقد يفاجأ - بالنسيان - صاحبُها
كأنما ودّعت فؤادَها الغمم

لكنْ صحائفه بالشعر مُترعة
واللونُ قان ، فهل حِبرُ اليراع دم؟

أم أنها اختضبتْ بما يُصارعُه
في العيش مِن غُصص خضابُها العَنم؟

والشعرُ سيفٌ به تستأصلُ الفتنُ
فكم أبيدتْ بنص قاطع مِحَنُ!

وكم به حصدتْ هاماتُ مَن جحدوا!
فما - عليها - بكتْ قرىً ولا مُدن

وكم شكوكٍ ببيتٍ واحدٍ قطعتْ!
وقبلُ كان - بها - الأقوامُ تفتتن

وكم قضايا رأيتُ الشعرَ يحسِمُها!
كأنه حَكَمٌ مستبصرٌ فطن

وكم غرامٍ رأيت الشعر يوقده!
سِراً ، ونارُ الهوى يُديلها العلن

وكم خلافٍ رأيتُ الشعرَ يَمحقه!
فلا تكون خلافاتٌ ولا شجن

وكم شِجار رأيتُ الشعرَ يسحقه!
فلا يكون له - بين الورى - وطن

وكم بلاءٍ رأيت الشعر يدفعُه!
فتنزوي إزمٌ ، وتنجلي إحَن

وكم عذاباتٍ القريضُ يُبْدِلها
إلى نعيم ، ويمضي الضنكُ والوهن!

وكم مصاب قريضي العذبُ جندله
لأن شعري - إلى الإسلام - يرتكن

فكم نأيتُ به عن درب مَن سفهوا
فلم يَشُبه هوىً يُزري ولا عَمَهُ!

ولم أسَخّره في ترويج مفسدةٍ
شأنَ الذين إلى إفلاسهم أبهوا

ولم يكونوا سوى خدام شهوتهم
مِن بعد أن جرّهم - للباطل - الشرَه

ولم أطوّعه - للطاغوت - منتظراً
نواله ، إنما تطويعُه البَله

ولم أسَطرْه في أوصاف غانيةٍ
يشدّني نحوها الغرامُ والوَله

ولم أضمّنه ما يندى الجبينُ لهُ
مثل الذين طغى عليهمُ السفه

ولم أجاملْ به قوماً لسَطوتهم
أخافُ أو أتقي يوماً إذا انتبهوا

ولم أشبّبْ بليلى أو بشاديةٍ
ككل صرعى إلى حُسن النسا نبهوا

ولم أردْ شهرة على حساب تقىً
إني لآخرتي - والله - منتبه

ولم أسخّره في ترويج مفسدةٍ
شأنَ الذين - إلى إفلاسهم - أبهوا

وبُغيتي عند ربي الصفحُ والعفوُ
بما كتبتُ ، وهذا القصدُ والرجوُ

ليغفر الله ذنباً كنتُ فاعله
حتى يصادفني المَفاز والنجو

كم من خطايا رأيت البغي أولها!
وكم تملكني التفريط واللغو!

وكم ضعفتُ أمام النفس ما فتئت
تعصى ويجذبها العِصيانُ واللهو!

والقلبُ تأفِكُه أطلال غفلته
وتستبدّ - به - الآمالُ والغفو

وجاء شعري- من الرحمن - موهبة
فطاب لي - رغم ضنك العيشة - الشدو

وكان لي واحة في قيظ تجربتي
ومُر عيشي - بما سطرته - حُلو

وبُحتُ بالسر للأشعار أجعلها
صديقَ وُدٍ ، له - في مُهجتي - شأو

وسائلوا مُلح (الديوان) كم حفظتْ
مِن الودائع إذ خلا لها الجو؟!

وما ندمتُ - على الأشعار - بُحتُ بها!
قصائدي السعدُ والأفراحُ والصفو

والشعر إن لم يُدوّنْ عاجلاً ظبيُ
يطوي الفلاة ، وطبعٌ في الظِبا الجريُ

فإن تعقبه القناصُ أوقعه
وخيرُ حَل له - في الغابة - السبي

وكم قصائدَ لم تكتبْ ، لذا فقِدتْ
ونالها الوأدُ والتضييعُ والطي!

فإن دنتْ فكرة أعرتها قلمي
ورقعة قد جفا سطورَها الوَشْي

ورحتُ أسْطر فحواها على عجل
ولم يعُق همتي يأسٌ ولا لأي

وأحبس الشعرَ في القرطاس منشرحاً
والحذفُ يبدأ والإثباتُ والنفي

فإن فعلتُ أسرتُ الشعرَ في صفدي
وإن تركتُ مضى ، وانتابني العي

هِيَ القصائدُ تيجانٌ تُجَمّلني
يَزينهن السنا والدُرّ والحَلي

هُن اليواقيتُ في ظلماء عيشتنا
وهن - في القيظ - إنْ عمّ الدنا الفي

وسوف أنشرُ أشعاري وتجربتي
إذ كل نص به - للقارئ - الهَدْي

© 2024 - موقع الشعر