شهادات

لـ محمد الفيتوري، ، بواسطة منيره العبسي، في غير مُحدد

شهادات - محمد الفيتوري

تلك الظاهرة السوريالية، أصبحت طقسا من طقوس حياتي.
أن أتوغل في الآخرين، ثم لا ألبث أن أتسلل هاربا بجسدي، أو يتسللوا مني، إلى بعيد.
أن أسكن أرضا، ثم لا تلبث تلك الأرض، أن تنزلق من بين أصابعي، فإذا بي، داخل عاصفة زمنية، لاسقف يظللها ولا جدران.
إن أولد في وطن، ثم تتمدد أغصاني في وطن، ثم تجتاحني الغربة في وطن ثالث، حيث لا يتشكل انتمائي إليه، إلا بقدر ما يتشكل انتماؤه إلى ذاتي، أنا هذا الراحل أبدا، من أفق إلى أفق، المقيم في التناقضات والتفاصيل المجهولة.. تركيبة العلاقات الاستثنائية والغامضة، بركان العواطف والميول المضطربة، حائط التوازنات الدقيقة، المدهشة، المنسوجة من لحظات اختلال التناغم، وانعدام التساوي والانسجام.
ترى هل كان لكل هذه الأشياء مجتمعة، تأثيرها الطاغي على شخصيتي، وطموحي، وشعري، وارتباطاتي؟
هل أملك إلا أن أضع إصبعي على فمي؟
بيد أنني أجرؤ على أن أسأل نفسي، عما كنت سأتصور نفسي، فيما لو لم أكن ذلك الذي يجد نفسه دائما، غائصا فيما يحب وما يكره، دون أن تكون له إرادة، فيما يحب وما يكره، إلا أنه هذا الشاعر، وهذا الإنسان!
-2-
عندما كنت طفلا، في مدينة الإسكندرية، لم تكن المياه تتدفق مثلما هي عليه الآن.
حينذاك كنت لا أرى من الإنسان، إلا لون الإنسان.. قشرته الخارجية هي وحدها، إشارة وضعه الطبقي، وهي الحاجز الفاصل بين قيمته ومحتواه، وبين قيم ومحتويات الآخرين.
حينذاك كانت الأيام، تختلط في عيني.. وكانت الرؤى تتداخل.. كانت مجرد نظرة متشنجة. ابتسامة ساخرة، التفاتة دون قصد، تحدث في داخلي انفجارا كونيا مدمرا، تتداعى خلاله الانفعالات، والتأويلات الكابوسية، المثيرة للقشعريرة، والمغرقة في الأوهام والاضطرابات.
ربما كان مرد ذلك كله، إلى افتقاري للوعي الصحيح، بنظام العلاقات الإنسانية، في مجتمع ما، في ظرف تاريخي ما، تجاه كائن ما.
قصائدي الأولى جميعها، تقاطرت فوقي، وأنا تحت هذه الأشجار.
وهكذا ظللت مشبعا بقناعاتي ومسلماتي تلك. ألجأ إليها، عامدا أو لاهيا، في تفسير رحلاتي النفسية، وتقلباتي ما بين الموقف، واللحظة والحال.
ثم حان لي، أن أكتشف ذات يوم، أن ذلك الولد الشاعر الصغير، قد غاب عنه، وهو يكتب "أغاني أفريقيا" أن اللون الذي سرق منه أحلى أيام صباه، كان مجرد شرارة- خبأت وراءها الحريق الذي بداخله. حريق سنوات الغضب الذي أحرق الغابة كلها فيما بعد.. الشرارة، الحريق، الإحساس اللوني الذي يتطلع بائسا نحو قيمة إنسانية واجتماعية أكبر.
وتلك هي الدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، والإيمان بحقه في الحرية، والعدل، والحياة.
والآن..
يا شد ما تراكمت التجارب، حتى تلاشت بساطة ذلك الشاعر الساذج والغريب.. انتهت تلك الحالة العارضة، فلقد اكتهل اليافع، وأمكنه فهم وتفسير اشكاليات الواقع الاجتماعي من حوله. اختلفت درجة الوعي، واتضحت معالم الرؤية، وغاصت جذور المعرفة، وانفضحت حقائق الأشياء..
الآن..
كلما عدت إلى قراءة قصائدي الأولى، اكتشفت من جديد، كم كنت ساذجا وبسيطا، في تصوراتي الطفولية تلك التي وقفت بي طويلا، تجاه حاجز اللون، فلم أعرف إلا الآن، أن ثمة حواجز الغنى والفقر، الامتلاك والاستلاب، المعرفة والجهل، الحرية والقهر، العبودية والانعتاق!
-3-
في المحاولات التجريبية، لكل ذي موهبة، يظل حلم التجاوز هدفا بعيد التحقيق. وتظل العملية الابداعية ذاتها، هاجسا خرافيا، عذابا ذاتيا، أبديا، ومستحيلا في آن.
إنه –الفنان الشاعر- بانحيازه إلى صورته الفتيه، إنما يحاول النفاذ إلى حقيقة هي بالتأكيد، مستحيلة في واقعة، وإن تكن تظل تتراءى له، ويظل ينشدها في صيرورته، عبر لغته النفسية: الإيقاع.. ولغته المادية: الكلمة. تلك الخلية العضوية التي ينبغي أن تأخذ وضعها الحياتي، ضمن التركيبة الأشد تعقيدا، للشكل الشعري، والبناء الملحمي، والعمل الدرامي..
لقد خططت كثيرا، ومحوت كثيرا، ولكنني لا أملك حق الإدعاء، بأن تلك الكلمة، كائنة ضمن حيزها. في كل ما كتبت.
ومثل أي فنان، لا أتردد عن الاعتراف أمام نفسي، بأن بي أكثر من رغبة، وأنني أمتلك إرادة، وأن لي عينين قد تعبتا كثيرا، دون جدوى، وهما تتعقبان هذا الهاجس الجنوني، هاجس التجاوز، التغيير، الانطلاق من الواقع إلى الحلم، الانفلات من المحدود إلى اللا محدود، التحول الخلاق والمستمر، من جمود العادي، والنمطي، والشخصي.. من صورة العاشق، إلى هوس المجنون، إلى شطحة الصوفي، إلى السقطة في طحلبة الموت، والخلود في شجرة الحياة.
لكم أحلم بأن أستطيع تجريد شعري ذات يوم، من كل تلك التنميقات الزخرفية، والأصباغ الطقسية، الخاوية من إيقاع اللحم والدم.. إن كل تلك الهموم الشكلانية التي يثقل الآخرون بها، أشعارهم لا تعنيني..
إنني أحاول دائما أن أغسل عيني ويدي وأشعاري، من مختلف زخارف وممارسات الورثة الجدد من أحفاد عصور المماليك...
إن الشكل الفني، وحتى الإيقاع الموسيقي نفسه، لا يهمني إلا بقدر ما يضيف من إشعاعه وعبقريته، إلى مضمون تجربتي الابداعية والإنسانية.
ثم لماذا التصلب والمكابرة؟
إن التخلف واقع تاريخي، وهو موقع طبيعي لشعرنا العربي المعاصر. إنه موقع المجتمع، وهو موقع الإنسان.
موقعنا الراهن، إننا فوق حافة هذا المنحدر المائل إلى نقطة غير مستقرة، مستمرة في هبوطها- وربما حتى إشعار آخر- صوب قاع الانحدار.
وإ ذا كان بعض تلك المسؤولية، يقع على عاتق الشاعر، فإن الظروف الملتبسة، التي تدمغ بطابعها هذه المرحلة، تتحمل العبء الأكبر من المسؤولية.
حين تكون النظم الحاكمة، مرتهنة لخلافتها، وتمزقاتها، وانقساماتها، يكون طبيعيا، أن تنعكس الأزمات الفوقية، على مختلف توجهات المجتمع. أفرادا وجماعات، قوي وإمكانيات، بالتساوي ودون استثناء.
والشعر العربي، في مجمله، تجسيد لرؤيا نابعة من ذات الإنسان، الذي يمثل القاعدة، والنوذج الكلي، لهذا الواقع.
الشعر أكبر من كونه، جهازا آليا، لقياس مستوى ودرجة النبض الصحي، لهذا المجتمع، وهو أكثر من كونه، مرآة عاكسة لصورة، أو زوايا الواقع الخارجي..
في مرحلة ما، من تاريخ مجتمع ما، يحدث أن يصبح منحطا، وسقيما، وسجين غيبوبة من الاضطرابات العصبية، والرؤى الميتافيزيكية..
وأنا أتمنى أن يكون تقديري هذا، خاطئا، أو مبالغا فيه. بيد أنني أعترف أن هذه هي حقيقة واقعنا الشعري الراهن.
ولقد ألتمس شيئا من العذر، لهذا الشاعر أو ذاك، فالفارس العربي القديم، لم يعد وحده، مثلما كان من قبل، فارس الساحة.
إنه لا يكاد يجد موقعا لقدمه، داخل هذا الزحام الخطير، من أجيال العقول الالكترونية، والصواريخ عابرة القارات، ومركبات غزو الفضاء.
ومخلوقات عصور التكنولوجيا، تلك التي تطارد وجوده، كإنسان طبيعي، وتحاصر حضوره، كصوت بشري، ثم لماذا لا نعطي اضمحلال الشخصية العربية دورها السلبي، تجاه تحديات الثقافة التأسيسية المسيطرة على مقدرات هذا العالم.
نحن العرب الذين نقف أعتاب القرن الواحد والعشرين، هل ترانا نقف بالفعل على أعتاب القرن الواحد والعشرين؟ هل تختصر الإجابة عن هذا السؤال، بعض عناصر وأسباب أزمتنا الشعرية المعاصرة؟
وهكذا تجف مياه المحيطات كلها، ويقف أولئك النمطيون الحداثيون، البنيويون الجدد، يحركون مجاديفهم في الهواء.. يقف واضعو تلك النصوص، والقوالب المستوردة، يدقون نواقيسهم، بانتظار سطوع شمس الاستعمار الثقافي من جديد.
إن جوهر الإبداع الشعري عندي، إنما يقاس بمستوى قدرته على التماس، أو التضاد، مع هذه الهموم الكلية للإنسان والمجتمع.
حين يفقد الشعر جوهره، تتهاوى كل زينة خارجية تألقت في نطاقه، سواء في ذلك الصور والأخيلة والجماليات.
في تلك الحرب السرية المشتعلة، بين حواسي ومداركي، يتجلى سر عذاب شاعر في مثل تجربتي.
وهكذا أتجاوز خجلي وكبريائي، معترفا بقلقي، وعصبيتي، وتعاظم توتري.
قلق الراكض وراء سراب الحقيقة.
وتوتر المشدود، إلى النماذج العلوية للجمال
© 2024 - موقع الشعر