"قصة قصيرة"اعترافات فراشة ..بقدر عمْرِ الشرنقةِ كان الجهل.(الفصل الأول)الساعة الثانية صباحا، صوت الموسيقا وأنغامها يكاد منه أبو خليل أن يتمايل طربا، لقد ألهبت عواطفه مفاتن الراقصة، ماذا حدث؟!، إنها آثار السكرة، ولكن كؤوسه فرغت من الخمرة، وفرصته مع تلك الحسناء شارفت على التلاشي، يرى وميضا آتيا من بعيد، هل هو غضب الإله، لا أيها العاشق، إنها يد زوجتك، فز أبوخليل من نومه يركض في أرجاء غرفة نومه بفزع، مابالك يامرأة، أجننت؟!زوجته في هدوء:نعم، فأنا الذي أركض في الغرفة عارية.!نظر إلى نفسه، فلم يصدق عينيه، ماهذا ياللفضيحة أنا أقدم رتبة في مكتب تحقيقات البحث الجنائي وأكون في هذه الصورة، فوثب على بطانيته، ليستر نفسه، وتذكر أن سبب خلع ملابسه كان التفاعل أثناء شربه الخمرة في حلمه الجميل.الزوجة:بمناسبة ذكرك لوظيفتك، مديرك قد هاتفك أكثر من مرة وأنا أغلقت جوالك بسبب إزعاجه وقلة أدبه، ألا يعرف أن للبيوت حرمة.أبوخليل في فزع:أنت أول امرأة تحب قطع رغد العيش عن عائلتها، إنه يكرهني، ودائما ما يبحث عن عذر سخيف حتى ينقلني من خارج مكتب التحقيقات إلى أي قسم آخر، وكان آخر الأحداث البارحة، كلفني القبض على قاتل ميت لجلبه حيا في قضية ثأر عمرها مئة وخمسون عاما، أي أن القضية كانت قبل بداية توحيد المملكة، يريدني أن أنفخ فيه الروح من جديد، وها أنت أقفلت الهاتف في وجهه، لا شك أنه الآن يجهز فرقة خاصة بقيادته للقبض علي باسم الخيانة العظمى، اقرأي على روح زوجك الفاتحة.فتح جواله وهاتف مديره وإذا بصوته الغاضب يصافح مسامعه، أين أنت؟! الدنيا مقلوبة رأسا على عقب وأنت نائم، فقال أبو خليل في نفسه لابد أن الأمر هام هذه المرة،مدير عمله:لقد وصلتني عدة بلاغات عن انتحار فراشات كثيرة على ألسنة اللهب المنتشرة خلال فصل الربيع، فلم أرى كفؤا غيرك يجيد التحقيق في مثل هذه المهمات المستحيلة، فارتدِ معطفك الساعة واتجه إلى حيث يقودك نسيم الربيع العليل والأرض الخصبة وقم بالتحري عن الأمر،أبو خليل:وماذا عن قضية القتل؟!المدير:لقد اتضح لي من تحرياتنا الأخيرة أن القبيلة هاجرت إلى خارج الأراضي منذ القدم، لذلك اُعتبرت خارج صلاحياتنا،-لقد ظننت أن المدير يكرهني ويريد طردي من القسم، فاتضح لي مؤخرا أنه يريد جنوني أو تقديمي طلب فصلي، أو إسراعي في قتله، وأظن الأخيرة هي الأقرب للصواب، فزوجته قد خلعته بعد أن استولت على منزله، وأبوه قد تبرأ منه، وطلبه لتمديد خدمته رفض.الفصل الثانيوصل أبوخليل إلى وجهته في وقت السحر يترصد رائحة الخزامى بأنفه الحساس فرأى مجموعة من الناس أغواها السمر لتجلس حول النار، ترجل من سيارته واتجه إليهم مشيا على الأقدام فالتقى بشاب منهم قبل بلوغ مبتغاه كان منعزلا عنهم يكلم في هاتفه النقال بصوت منخفض، فحيا بعضهم البعض وسأله الشاب عن سبب قدومه إلى هذه المنطقة التي لايوجد بها سواهم،فرد:أنا الضابط المكلف بالتحري والتحقيق في أمر انتحار الفراش المفاجئ والغير مبرر،نظر إليه الشاب في ذهول تام، وقال في نفسه، هذا ماكان ينقصنا في هذا المكان النائي، مجنون!، فقال له حتى لا يغضبه انتظرني هنا حتى أخبر جدي بأمر تواجدك فيستقبلك بخير ماتريد،لقد جاءنا مجنون يدعي بأنه ضابط يحقق في أمر انتحار الفراشات، فما العمل الآن، أخشى ما أخشاه أنه سرق السيارة من عائلته واتجه إلى البر حتى قادته قدماه إلينا؟فقال أبوه إنه ليس مجنونا وإلا لمهتدى إلينا في هذه الصحراء الشاسعة، على الأرجح أنه سكران أكثر من شرب الخمرة، فما أجمل السمر مع مثل هذا،ادعه إلى النار ليسلينا قليلا، فقد بدأ الضجر ينازعني أجفاني.مرحبا بكم، أنا ..الأب:وأنا المشرف على تحقيقاتك،فقهقه كل الموجودين.علم أبو خليل أن هذه الليلة لن تمضي على خير مالم يخرج بطاقة عمله التعريفية، فمد يده إلى جيبه بكل ثقة، فتذكر أنها في بدلته الرسمية، فاستشاط غضبا وبدأ بتوجيه صوته العالي حتى يسكت ضحكاتهم، ولكن صوته مازادهم إلا تجديفا بحقه، ففقد أعصابه ودفع الأب، وهذا كان آخر ماكان يذكره،أشرقت الشمس وتغلغلت في جسد أبي خليل وهو لايزال فاقدا لوعيه، فسمع صوتا يهمس:إنهض أيها الكسول، هل قطعت هذه المسافة لتنام؟، فتح قليلا من عينه فشعر بالألم وتذكر أنه من آثار الضرب الذي تعرض، لكنه تحامل على ألمه وفتحها مرة أخرى وإذا به يشاهد الخنفساء على أنفه ترمقه بنظراتها المستفزة، هل هي تنظر إلي؟ لابد أنها آثار الكدمات، فمد يده لإبعادها عن أنفه، فجزعت الخنفساء وقالت:أيها الجاحد أوقظك من النوم لأساعدك في تحقيقاتك وأنت تريد قتلي.وقف شعر رأسه واقشعر بدنه وقام واقفا كأن جسده قد تماثل للشفاء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولم يبق شيئا من التحصينات حتى ذكره،-بقي أن تقرأ سورة الجن وتضع حولك دائرة،-إنها تكلمني فعلاً، يبدو أن مديري حصل على مراده،نظرت الخنفساء إليه، جسد محطم، ملابس مقطعة، شعر لا تدري له اتجاه، ملامح لايمكن تمييزها من آثار الكدمات، عينان حمراوتان، وفم مليء بالتراب، هل أنت فعلا ضابط؟! كيف سمحت لهم بإهانتك؟!اسمعي أيتها الخنفساء أنا لا أعلم كيف تكلمينني وأكلمك، ولكن ما أعلمه حقا أن هذا مستحيل حدوثه، فهل أنا أحلم؟!فركت شعرتا استشعارها وقالت في نفسها، يبدو أنني سأمضي اليوم وأنا أقنع هذا الإنسان بوجودي وحديثي معه، ولكن ماذا كنت أرجو من ضابط ذهب لأبناء جنسه حتى يسألهم عن انتحار الفراشات الغامض،-دعك من هذا الأسئلة التي لن تتأكد منها الآن،ماذا تريد أن تعرف عن الفراشات؟!-أطوارها، أكلها، شربها، طريقة عيشها، أصدقاؤها، أعداؤها، مخاوفها.فجأة تحول إلى فراشة، فكاد أبو خليل أن يجن، ماهذا كيف سيعرفني البشر في هذه الهيئة، لقد خسرت كل شيء وكل هذا بسببك، أنت من حولتني إلى ما أنا عليه.-بل حصائد أمنياتك التي ذكرتها، ثم إنك لم تخسر شيئاً، سترجع إلى هيئتك وحياتك البائسة ما أن تفرغ من مهمتك،- !!- ماذا تسمي إذًا وجودك في هذه البقعة، وتكليفك بهذه المهمة؟ لولا شفقتي عليك وعلمي بمعاناتك لما ساعدتك إطلاقا، فهل مثلك كان يحلم مجرد حلم أن يحادث الحشرات؟- تلعثم أبو خليل لا يعلم ردا على صدقها فغير مجرى الحديث:- وماذا إن أكلني طير ما، أو ابتلعني ضفدع؟دعنا لا نهول الأمر واعتبره من المخاطر الوظيفية،ولكن هذا لا يعني بأننا سننساك، أعدك أن نشيد لك تمثالا يليق بك.الفصل الثالثلقد شاهد أبوخليل الغرائب والعجائب بينما كان يطير جنبا إلى جنب مع الخنفساء في طريقه لمملكة الفراشات، لقد شاهد عالما آخر لم يكن يحلم بتصور شكله أبدا، فهو يجهل المعنى الكبير والمعبِّر لكلمة العالم الآخر حتى شهده بنفسه، إنه الآن في عالم يعد ظهور الإنسان فيه لعينيه الصغيرتين كظهور مذنب هالي لأعين البشر، هذا ما أملته عليه الأبعاد، وأكثر ما أذهله في هذا العالم كيف أن الحشرات لا تختلف كثيرا عن الإنسان، إنها تفرح، وتغضب، وتنتقم، وتحب، وتكره، وتحتفل وتتزاوج، وترقص، وتحمد الله وتوقره، وتفكر، وتخطط، وتنفذ، مادفعه لسؤال نفسه:مالذي ميز الإنسان ليكون خليفة الله على أرضه وأخص بذلك الذكر؟!أنا أستبعد القوة، فهل هو العقل كما يقولون، ففيه يَصُبُّ الذكاء، والحنكة، والبصيرة، والحكمة، والخيال، أعتقد بأنه الوحيد القادر على التحكم برغباته، والوحيد القادر أيضا على فصل عاطفته عن عقله، وأظن أن ماتغلب تفكيره به على بقية المخلوقات هو خياله الخصب والواسع، فهل كل ما أراه الآن من نسج خيالي؟!لماذا هذه الجنادب حزينة تلبس الأسود وتلطم الخدود؟!- إنها ليست الوحيدة التي تفعل ذلك، فمنذ أن نسي الإنسان مهمته في هذه الأرض اختل ميزان الحياة عليها وبدأنا بالإنقراض شيئا فشيئا بسبب الموت الذي يسببه للأشجار والنباتات والأرض؛ هاقد وصلنا إلى وجهتنا خذ ماشئت من أوراق السدر لتكتب تقريرك،- ومن أين لي بقلم ودواة؟!- استخدم شعرتي الإستشعار والرحيق بدلا عنها،بدء أبوخليل بتسجيل كل صغيرة وكبيرة عن أطوار وحياة الفراشات، ولكنه في خضم الإنخراط في مملكتهم نسي بأنه بات من جنسهم مع اختلاف قليل في ملامح الوجه، وبينما كان على تلك الحال بدأت إحدى الفراشات بالتقرب إليه والدوران حوله بابتسامة أنثوية رقيقة، فشعر بالإرتباك، لقد أحس بانجذابه الشديد إليها، فردد إن رائحتها عطرة، فخفتت عيناه وبدأ بالهذيان، فلاحظت الخنفساء تغيره وانجذابه بمشاعر جياشة تجاه تلك الفراشة، فصفعته على خده لتوقظه من سكرة العشق،- استيقظ،- أبوخليل كأنه كان في غير وعيه، ماذا فعلتُ لتصفعينني هكذا؟! ولماذا جسدي كله يرتعش يريد الرقص، إن الموسيقى صاخبة وتتحكم به،- إنه من تأثير هذه الفراشة التي تدور حولك وترش رائحتها الأنثوية لتجذبك إليها، فهي معجبة بك وتريد التزاوج قبل انتهاء الموسم الذي لم يتبق منه سوى يومين.- إليكِ عني، ماهذه الخرافات التي تتحدثين بها، رائحة تفقدني عقلي، وتعزف الموسيقى، وتحيطني بمشاعر الحب!- إنها تمثل الأوركسترا، والخمرة، وكلمات الشوق والحب في عالمك، فلو انتظرتُ عليكَ قليلا حتى يذهب عقلك لكنت رقصت حتى سقطت من التعب وبالأخص إذا كانت هناك منافسة من ذكر آخر، فاحذر أمنياتك المستقبلية.بلع أبوخليل ريقه وكمم أنفه بجناحه حتى لا يقع في شراك أنثاه التي تراقبه من بعيد وتنظر إليه بشغف، فهو مغرم بها أيضا ولن يستطيع مقاومتها إن تقربت منه مرة أخرى؛لم يستطع أبوخليل التوصل لإجابة تشفي غليله في مملكة الفراشات فاتجه إلى المروج لإجراء تحقيق مفتوح مع رؤساء الحشرات وشيوخ قبائلهم برفقة الخنفساء كمعرّف له ولهم حتى يعرف أسباب انتحار الفراشات الغريب، ولكنه فشل في معرفة أي معلومة تدله إلى مايصبو إليه، فمنهم من قال بسبب قلة الإيمان ومنهم من قال أن وجودها في الشرنقة لفترة طويلة سبب لها نوعا من الفوبيا عند دخول الليل ورؤية النار، وآخرون قالوا بأنها تقع في شراك كل شيء يلمع، فرجع خائبا يجره يأسه إلى مملكة الفراشات حتى يتأمل حياتها مرة أخرى لعل يظفر بضالته، وما إن استغرق في التفكير حتى حضرت بخلده أنثاه الجميلة فألقى نظرة عليها، فإذا بالحزن قد أودى بضعفها، فقال في نفسه لقد أَحرَقتْ قلبي بحبها والآن هاهي تُقطِّعهُ إلى أوصال بهذا الحزن.لقد كان التفكير والحب كافيين لإرهاق أبي خليل الذي غلبه النعاس تحت ظل السدرة بينما كانت الحيرة تقلب قلبه وأمنياته على حر الجوى.-انهض يا أباخليل فمحبوبتك مغادرة في مغامرة خطيرة قد لا تعود منها،فنهض مذهولا وجلا من حديث الخنفساء، وعندما فرك عينيه ليلقي نظرة عليها تفاجأ بها تجمع متاعها وتودع أصدقاءها حزينة تبكي يرمقه لحظها بنظرة وداع محرقة،- إلى أين تذهب؟! وما المغامرة التي ستذهب بصددها؟!- إن تكوين جسدها يفرض عليها المغادرة، فالأنثى في مملكة الفراشات تختار حبيبها الذي ستتزاوج معه لبقية حياتها، ولكنه حبيب واحد فقط، فإن فشلت بجذبه إليها يموت قلبها ولا تستطيع حب أي أحد آخر غيره حتى تحييه مرة أخرى، أو تولد من جديد، ولن يكون هذا ممكنا إلا باقترابها من النار كثيرا، أو الإحتراق بألسنة اللهيب، لهذا يمثل تواجدها الدائم على الكرة الأرضية بالحياة والأمل.أجهش أبوخليل بالبكاء وأراد التدخل بالأمر والتضحية بعودته إلى عائلته وأصدقائه والمكوث الأبدي معها بعد علمه بمصيرها، لكن الخنفساء أخبرته أن قد فات الآوان على ذلك، فقد مات قلبها ولن تستطيع الحب مرة أخرى، فعاد لحزنه ودموعه، ليقول:- لقد كنت تعلمين سبب انتحار الفراشات وأن هذا ما سيحدث إن وقعت إحداهن في غرامي، فلماذا لم توفري علينا عناء هذه التجربة المرة؟!- هذا ليس انتحارا ياعزيزي وإنما ولادة جديدة، ثم إنك لن تصدق هذا الكلام عن الأنثى مالم تشاهد كل هذه التطورات عن كثب.الفصل الأخيراستمر أبو خليل بالبكاء حتى بدأ بفقدان وعيه، هاهو في الدوامة السوداء يسقط يحاول التمسك بأي شيء حتى لاينزلق في الهاوية، فجأة أحس بوهج كبير يداعب وجهه تلاه ضوء ساطع بدى له كمظلة تهبط به على أرض مجهولة بسلام، لم يتمكن من وقف بكائه، لقد شعر بحالة من الندم لا يستطيع وصفها، لقد كُسِر في داخله شيء عزيز عليه ولا يعلم حتى الآن ماهيته، يشعر بحريق يجتاح جسده ولايدري كيف يطفئه، فلما اشتدّت عليه الشمس فتح عينيه مجبورا رغم ألم أجفانه، ينظر إلى جسده وآثار الكدمات، يتحسس ملامحه، وحجمه، الحمدلله كان مجرد حلم تحول في نهايته لكابوس، لقد عشته كما لو كان حقيقة، يالسذاجتي ظننت حقا أنني سبب انتحار تلك الفراشة، ولكن ماذا عن تقريري؟ ماذا سأكتب الآن؟ فأنا لن أبني حروف تقريري على حلم رأيته.لا بد من مواجهة مديري، لأضع حدا لهذه المهزلة، فهو ليس آخر السبحة لأخشى غضبه وقرارته المستبدة، فهناك حتما من يستطيع وضع حد لتجاوزاته؛رجع إلى سيارته كما ابتعد عنها مشيا على الأقدام، وبينما هو كذلك أخرج هاتفه المتنقل ليهاتف زوجته، فلمح التاريخ بطرف عينه، ففزع ورد عينيه إليه مرة أخرى، ماذا أرى؟! هل أنا في هذا المكان منذ خمسة أيام أم أنني أحلم مرة أخرى؟!، ولكن كيف أمكن حدوث هذا؟!، فلا ملابسي الممزقة ولا جسدي يؤيّدان ما أراه، وكيف سأقنع أهل بيتي ومقر عملي بهذه الحادثة؟،لم يكن بيد أبي خليل حيلة إلا مواجهتهم، فأدار محرك سيارته وفتح جهاز التكييف حتى يبرد ماجنته الشمس بجسده واتجه قاصدا منزله في حيرة، وبينما كان منشغلا في قيادة السيارة بيد والأخرى تقوم بترتيب وتنظيف المقعد المجاور له وقعت عيناه على ملف جديد فوق مرتبة مساعد السواق، فرمقه بنصف عين دون أن يثير اهتمامه، ومع مرور الدقائق بدأ يحدث نفسه حول هذا الملف، من الذي وضعه هنا؟! فأنا لا أذكر أنني اقتنيت مثله أبدا.ركن سيارته أمام منزله وهم بالنزول إلا إن عقله الباطن كان يلح عليه استكشاف الملف الموجود بجواره في غمرة السائق، أخذه بيده وقرر تصفحه ورقة ورقة ففاجأه العنوان "اعترافات فراشة"، جن جنون أبي خليل من رؤية البداية، فآثر قراءته والبقاء في السيارة على نزوله منها والدخول إلى منزله دون مبرر لغيابه، وعندما تيقن من أنه نفس التقرير الذي كتبه على أوراق السدر، بدأ يقلب صفحاته بهستيريا غير معهودة، فزاد جنونه وجود رسالة في آخر صفحة عنوانها إلى حبيبي، فأخذها بيده ومررها أمام وجهه المتورم متأملا ومعانقا رائحتها الزكيّة، فقال في نفسه: إن رائحتها الجذابة ليست غريبة على أنفاسي، لقد شممتها قبل ذلك، ولكن أين ياترى؟ فجأة تذكر محبوبته الفراشة، ففتحها بذهول وعجل، فكان محتواها صادما، قبلة مرسومة بأحمر شفاه وكلمات تقول:"سأحبك في كل حياة أحياها"أرجع مرتبته إلى الخلف واستلقى قليلا حتى يستطيع استيعاب الصدمة، فقال في نفسه: يا إلهي! أيعقل أن العالم الذي دخلت إليه كان حقيقيا، ولكن ماذا عن التقرير ! إنه بخط يدي، الوحيدة التي كانت بخط مختلف هي الرسالة، تذكر حينها حبيبته وأدمعت عيناه، وبعد استغراقه في الحزن فترة طويلة قرر دخول منزله وبدء المواجهة، فتح باب مركبته وترجل منها وذكرى تلك الفراشة لاتزال عالقة في تفكيره وخياله، وما أن حطت قدماه على الأرض حتى هوى جاثيا على ركبتيه ليجهش بالبكاء، فتحت الخادمة الباب لإخراج سلة المهملات وإذا بها تشاهد الموقف، فصاحت بعلو صوتها، ماما ماما فيه مشكلة تعال إنت لازم شوف، خرجت زوجته فصدمت هي الأخرى، لقد عاد زوجها الغائب، نظرت إليه وإلى دموعه وكدماته وملابسه الممزقة أشعث أغبر يحمل ملفا وفي يده الأخرى رسالة، وسارعت إليه مع الخادمة تحملانه إلى الداخل بينما عيناها موجهتان نحو الرسالة ورائحتها الأنثوية، كان أبو خليل مجهدا جسديا وعاطفيا وفكريا فبعد أن اغتسل استلقى على سريره كقتيل حرب دون أن ينطق حرفا واحدا،نهض في اليوم التالي فزعا مما يمكن أن يشاهده، فهو يظن أن للأمر بقية، وما إن التقى وجها لوجه بزوجته حتى أدرك كم الأسئلة التي كانت تخفيها خلف ابتسامتها الزائفة، فبادرها بقوله:أحضري الإفطار بينما أتحضر لسرد ماغاب عنك خلال الخمسة الأيام الماضية،- لا تنس أمر الرسالة.قص عليها ماحصل له خلال غيابه عنها، فوقفت مذهولة مماسمعته تتناقلها الحيرة والشك بين الحقيقة والخيال، فقالت في نفسها: أنا أعرف إبراهيم منذ الطفولة، وأعلم أنه لايستسيغ الكذب، وأعرف أيضًا حدود مغامراته، ورغم الأحداث التي لايمكن تصديقها إلا إن كلامه وتصرفاته أمامي لايدلان على جنونه، ولكن هذا لا يعني أنه نفس الشخص الذي ألفته روحي، إنه حزين ومصدوم عاطفيا، شيء في داخله تحطم، وسواء عليه مر بقصة غرامية مع فراشة أو إنسية، فهي ليست أفضل مني في الغفران، سأقف إلى جانبه دون أسئلة تكدره وتضيق عليه أنفاسه، يكفي ما مر به من صدمات في هذه الأيام القلائل، فالذي يهمني من هذه الأحدث أنه رجع إلي في نهاية الأمر.ارتدى أبوخليل بدلة العمل الرسمية واتجه إلى مقر عمله ليقدم تقريره وأعذاره بشأن غيابه، فقد أخبرته زوجته بقدوم رئيسه الذي كان خائفا بسبب المهمة التهكمية مع زملائه لإجراء تحقيق عن غيابه المفاجئ.دخل أبوخليل على رئيسه في العمل مباشرة ورمى التقرير على مكتبه بثقة،رئيسه ينظر إلى وجهه المغطى بالكدمات خائفا التحقيق بأمرهما من كبار الرتب، قرأ التقرير في وقار وقال له متحاذقا:آخر قضية كلفتك بها تثبتها الأوراق الرسمية هي جريمة السرقة التي وقعت في البلد، لا شك أنك مجنون لتكتب تقريرا عن مملكة الفراشات وتقدمه مع رسالة حب تعدك فيها إحداهن بالحب الأبدي، هذا ليس مبرر غياب لإنسان عاقل، سأحيل أمرك إلى لجنة التحقيق ليتأكدوا من صحة عقلك وتفكيرك وكلامك.علم إبراهيم أن رئيسه غدر به، وأن لا أحد سيسصدق قصته أو مايقوله عن مرؤوسه من سوء، فأخذوا يسألونه ويتناقلونه بين أقسام التحقيقات والمستشفى كبيدق شطرنج ليس له حول ولا قوة، فهو يعلم أن موقفه صعب وأن أي مقاومة منه أو عصيان سيزيد الطين بلة وسيدعم ظنونهم بشأنه.جاء وقت نتيجة التحقيقات التي ستعلنها لجنة من كبار الرتب كان من ضمنها رئيسه، وبينما كان غارقا في يأسه تخذله الأحرف والأدلة، دخل سرب فراش مجهول إلى القاعة مجتمعا حول نافذة من النوافذ التي تستطيع اللجنة رؤيتها من مكانها بوضوح،قال أحد الأعضاء:أنظروا إلى سرب الفراش الكبير الذي دخل إلى القاعة، فنظر البقية إلى إبراهيم في تعجب، أما رئيس عمله كان يرتجف خوفا،فاقتربوا من السرب آملين أن يحصلوا على سبب تجمعهم الذي أخافهم بدخوله المفاجئ وما يربطه بهذه الأحداث، فحاول أحدهم مسحها بيده فطار السرب من مكانه واختفى عدا فراشة واحدة اتجهت نحو أبي خليل ترفرف بجناحيها أمامه، فدمعت عيناه، إنها محبوبته!اقتربت منه بعد أن أخذت من إحدى عينيه قليلا من دمعها ثم اختفت، فدهشت اللجنة، وعندما اطّلعت على مكان السرب، وجدت كتابة محتواها " سأحبك في كل حياة أحياها"إنها نفس كلمات الرسالة، فاتجهت الأنظار حينها إلى رئيسه، لن نغفر لك مافعلت بهذا الشاب، سيكون تقاعدك بوصمة عار كبيرة،- لا تصدقوه إنه ساحر، ثم علت صوت ضحكاته الغريبة وهو يردد إنه ساحر،لقد جن الرجل من هول مارأى من أحداث غير متوقعة، عقله لم يحتمل فكرة وجود عالم آخر غير الذي يعرفه،أما أبو خليل فقد رجع إلى عمله ولكن رجوعه كان بترقيته إلى منصب رئيسه الذي حل ضيفا في مستشفى النفسية لأجل غير مسمى.انتهى ..
عناوين مشابه
أحدث إضافات الديوان
إضافة تعليق - (( user.name )) - خروج
ادارة موقع الشعر (( comment.message.user.name )) (( comment.message.user.name ))
(( comment.message.text ))
لا يوجد تعليقات.