البدوية المنتقبة! - أحمد علي سليمان

فؤادي يحِنُ إلى البادية
ونفسي تُسامرُها الماشية

ومَرأى الخِيام يَسُر النهى
وأوتادُها تُسعدُ الثاوية

وتَذهبُ بالوَجد كُثبانُها
بألوانها الحُلوة الزاهية

وتَسبي العيونَ نباتاتُها
وآبارُها العذبة الصادية

وتُبهجُ نفسي غنيماتُها
وإن تكُ – فوق الربى - راعية

وتختلُ عقلي شُجيراتُها
تُداعبُها الليلة الشاتية

ولهوُ التيوس يُزيلُ الأسى
وإن تكُ جائعة طاوية

وفي الليل أنظرُ جو السما
كأني بها قبة صافية

تُضيء النجومُ دُجى جوها
فتُمسي مُزيّنة ضاوية

وعند الشروق أرى شمسها
تُبدد ظلمتها الداجية

وأصحو من النوم في بُكرةٍ
وأرعى الغنيمات في ناحية

وأحلبُ شاة شكا ضِرعُها
إليّ ، فقلتُ: اصطبرْ ثانية

فعاودَ شكواهُ مستعجلاً
فقلتُ: يَميناً أنا آتية

أسوقُ القطيعَ ، وقد أرعوي
لقيلولةٍ تجلبُ العافية

فأفترشُ الأرضَ خلف الربى
بجانب جميزةٍ بالية

وفوقي العباءة ، نِعم الغطا
لتسترَ نعسانة غافية

وزوجي يُرافقني رحلتي
برغم ظروفٍ بها جاسية

وأكملُ يومي ، ولي عَزمة
ولي همة – في المضا - عالية

وعِزة نفس أعيشُ بها
أكافحُ رائحة غادية

فأحنو على العَنز في سُقمها
وأشفِقُ إن كابدتْ ثاغية

وأحمي الفصيلَ ، وأصغي لهُ
إلى أن تعود له الراغية

وأوقدُ ناري على ربوةٍ
عن النار ما استغنتِ الطاهية

أعد الطعامَ لمجهودةٍ
فأطهو لها وجبة هانية

وأرشُفُ ماء الغدير الذي
له طعمة حلوة غاوية

وأشرب شاياً له نكهة
تُحلي لنا عيشة البادية

كأني بها - في الدنا - جنة
وإن تكُ أحوالها قاسية

جمالُ الطبيعة عُنوانُها
وآبارُها تعدلُ الساقية

وأهل البوادي لهم سمْتُهم
وسُمعتُهم – في الورى - سامية

أعاريبُ لم يختلفْ طبعُهم
عن العُرْب في الأعصُر الماضية

عِظامٌ إذا عاملوا غيرَهم
وأخلاقهم عَفة راقية

كِرامٌ إذا قابلوا ضيفهم
بأنفسَ – عن بذلها - راضية

ونِسوانُهم زادُهن الحيا
يَسِرن على السنة الهادية

قوانتُ لا يَصطنِعن الأذى
ولا يَنجرفن إلى الهاوية

حَشيماتُ لا عُريَ في لبسةٍ
فبالعُري تُجتلبُ الداهية

لهذا البوادي شغفتُ بها
وسطرتُ أبياتيَ الحانية

وصُغتُ القصيدة في حُبها
وحَبّرتُ وَزنِيَ والقافية

مناسبة القصيدة

(عجيبٌ أمر هذه البدوية المنتقبة! فلقد اضطرتْها أمراضُها إلى مُغادرة البادية ، لتعيش بعض الوقت في الحاضرة ، لتجري بعض الفحوصات ، ولتتعاطى بعض العلاجات ، لتطمئن على صحتها ، ريثما تتماثل للشفاء! وبينما هي كذلك راحتْ تتذكر باديتها بأغنامها وإبلها وخرافها ومعازها ، وأشجارها ونباتاتها وعيون مائها ، وجوها الصافي وسمائها الزرقاء وطبيعتها الساحرة! فكانت هذه القصيدة ترجمة لاسترجاع ذكرياتها وحنينها!)
© 2024 - موقع الشعر