شبعة من بعد جوعة - لكل أسرة وضيعة - أحمد علي سليمان

دواءٌ الفقرُ مهما جاء بالهُونِ
وجُنة مِن ضياع العِرض والدينِ

يَردّ ما تجتبيه النفسُ من بَطر
وما تُصارعُ مِن حَدْس وتزكين

ويَردعُ النفسَ عن كِبْر يُسربلها
فلا يَطيبُ لها مِن بعدِ تزيين

ويحملُ النفسَ في أضغاث غفوتها
على التخلص مِن وَهْم الأفانين

فلا تُهددُها الآمالُ موقدة
نارَ التعلق بالأموال والطين

ولا تُكبلها قيودُ همتها
قسراً ، وتُورثها أشقى الموازين

ولا يُعرقلها عن نهْضها نزقٌ
يَدك عزمتها بشرّ توهين

ولا يعوقُ خطاها نحو رفعتها
بريقُ ما تشتهي مِن الأظانين

يصونُها الفقرُ مِن طيش ومِن سَفهٍ
فلا تُعاني مِن الإذلال والهُون

على الكَفاف هنا كانت مَعيشتُكم
والدَينُ سجّله أهلُ الدكاكين

ألم تعض ضروسُ الفقر عِيشتكم
ولُكتمُ القحط بين الحين والحين؟

أما جَرَعْتم كؤوسَ القهر مُترعة
جبراً ، كأني بها كؤوس غِسلين؟

أما اشتكيتم من الإملاق ضاق به
ذرعاً كبيرُكمُ في العيشة الدون؟

ألم تضقْ دارُكم دهراً بساكنها
واستسلمَ الكل للتضييق والرون؟

ألم تعيشوا على الحِرمان صُبحَ مسا
في ضنك عيش بلون الذل مدهون؟

ولا أعيّركم إذ كنت أتعسَكم
وإن فعلتُ فما قولي بموزون

لكنْ أبيّنُ ما تُخفون أجمعُكم
مِن الحقائق خُصتْ بالبراهين

وأنشرُ الحق فيكم شمسُه غربتْ
ويَفهمُ الرمز ذو فهم وتفطين

وسخر الله منكم مُحسناً ورعاً
فجاد في البذل جوداً غيرَ ممنون

أقال عثرتكم بالكاد محتسباً
برغم حال بقيد الأسر مقرون

لم تُثنه عن سنا الحُسنى خصاصتُه
وعاملَ الأهلَ بالإحسان واللين

في غربةٍ عصفتْ في أوج شِدتها
بطيّب رغم يُسر الحال مَديون

مُحارَبٌ بين أهليهِ ومُضطهدٌ
وحقه في الخزايا غير مصوون

ولم يجدْ بينهم ردءاً يُصدقه
ولا صديقاً سليمَ القلب والدين

بل جُلّ مَن حوله لا حق يُسعفهم
بل جَوقة أتقنتْ غدرَ الفراعين

تقلدوا حِيَلَ الخذلان أقنعة
ومارسوا في الأذى دورَ الدهاقين

وأظهروا حقدهم في الناس تحسبُهم
فاقوا بحقدِهمُ كيدَ الشياطين

ورغم بطشتهم لم يَهزموا بطلاً
ولم يُجندله تصديرُ الأسافين

بل عاش للأسرة الرعناء بدرَ دجى
والكف جادتْ بألوان القرابين

أراد يرفعُها من قاع محنتها
حتى يكون لها لو بعضُ تمكين

وحقق الله ما الغِطريفُ تاقَ له
والأسرة ابتشرتْ بخير توطين

وللجميع غدتْ دُورٌ وأبنية
تُضارعُ اليوم أبراج الهوامين

وفي البنوك غدتْ للعِير أرصدة
أضحتْ تُقارب آحادَ الملايين

سل العقارات مَن في الأرض أنشأها
وشاد مِن حولها أحلى البساتين؟

سل الأراضيَ مَن جهراً تملكها
طولاً وعرضاً ، وقِيستْ بالفدادين؟

ومَن يقيسُ بها الآنامَ مُعتبطاً
بالمال يجعلهم في أوج تحصين؟

بالأمس كانوا على التقتير عيشتُهم
وصارعوا في الورى عيشَ المساكين

واليوم باتت لهم حالٌ مُغايرة
من بعد أن أصبحوا مثل القوارين

كأنما بطِروا عمداً معيشتهم
وبعضُهم يقتدي بالصِل لينين

واستمرأوا خِدعَ التجميل تسترُهم
من الفضائح تبدو رغم تحسين

وجُل مَن شهدوا تاريخهم رحلوا
وصُغتُ في بعضهم شجينَ تأبيني

فليكذبوا كيفما شاءت ضمائرُهم
وما الكذوبُ على قول بمأمون

وليخدعوا الناسَ بالأخبار ما صدقتْ
وبالحَكايا احتوتْ زورَ المَضامين

فمن تُراهُ إذا قالوا يُكذبهم
وأغلبُ الناس تُطريهم بتدشين؟

يُدَجّلون على قوم بلاهتُهم
تفيضُ حُمقاً كتخريف المجانين

ساقوا الأكاذيبَ تُخفي ماضياً كشفتْ
بعض القصائد فحواه بتضمين

يا من شبعتم سيبقى الجوع يفضحكم
والجوعُ يُزري بمنهوم ومبطون

والبطنُ قد شبعتْ والروح جائعة
جوعاً يليق بمنهوم ومِنتين

شتان بين فتىً سما به شَبَعٌ
وآخر بطعام البطن مفتون

عاشرتُ قوماً بما أوتوه قد قنعوا
وآخرين لهم طبعُ التنانين

لا يستوي القومُ رغم الضيق قد شبعوا
والقومُ رغم الغِنى عاشوا على الدون

هل العبيدُ استووا في جُب خِسّتهم
يوماً بأهل الإبا الأسْد العرانين؟

وهل تساوَى حَلا المانجو بحنظلةٍ؟
وهل يُقارَنُ ذو عقل بمجنون؟

بطونُكم شبعتْ من بعد جوعتها
شتان شتان بين الشيح والتين

وزدتُمُ الأمرَ تحقيراً ومخبثة
لتقطعوا وُدّنا قطعَ السكاكين

لم القطيعة في سر وفي علن؟
أريدُ فصل خِطاب دون تلحين

إن قاطع الشهمُ أنذالاً به مكروا
ولحمَه نهشوا نهشَ الثعابين

وناولوه مِن التنكيل أشرسَه
ودبّروا مَقلباً مِن بعد إسفين

وبارزوه ضحىً بجاهليتهم
فصدّهم مُظهراً شتى البراهين

فهل يُلامُ على قطيعةٍ وَجبتْ
يا شرّ أهل ، ووصفي غيرُ مَظنون؟

وكان يَعذرُ أبناءً لكم مَردوا
على النفاق لهم أشقى التخامين

واليوم هم كبروا ، فليس يَعذرُهم
فلينفضوا عنهمُ رُكام تلقين

ولينبشوا في ثرى التاريخ علهمُ
يُصادفوا الحق غضاً دون تأفين

كي يُنصفوا ذلك المظلومَ بُغيتُهم
مَرضاة مَن أمرُه بالكاف والنون

كي يُنقذوا ذلك المهضومَ مِن غجر
طاشت عقولهمُ قبلَ الموازين

ولا يكونوا كأهليهم جلاوذة
شرَ الخصوم لهم حقدُ الدهاقين

وكيف يُصبح خصماً يا تُرى حكماً
يُدلي بحكم بليد النص مدخون؟

عسى القصيدُ يُفيقُ القومَ من عمهٍ
فلا تُصيبُ الهُدى أوهامُ تزكين

ويستقيمُ الألى في غيّهم سدروا
ولا تُمَيّلهم رُتوشُ تحجين

والله أسأل أن يُقيل عَثرتهم
حتى يعيشوا بلا غدر ولا هون

مناسبة القصيدة

شَبعة من بعد جُوعة! (إلى كل أسرة وضيعة) (كانت أسرة بسيطة تعيشُ على الكَفاف ، ويؤلفُ بين أفرادها الفقرُ والعوَز والحاجة! وتعيش رغم ضيق العيش وشظف الحياة في سعادة غامرة يغبطها عليها كل من حولها من الأسر! فلا أحقاد ولا ضغائن بين الأفراد ، وإنما حبٌ وتعاونٌ وألفة ومودة. وكانت هذه الأسرة ملتقى الأحباب من سائر الأطراف الأخرى من الأخوال والأعمام وعوائلهم ، سواء في الأيام المعتادة أو المناسبات والمواسم. لقد جُمعت هذه الأسرة على حب القرآن الكريم وبرامج الإذاعة الهادفة المفيدة سواءً الثقافية أو الإخبارية! ثم تغير الحال ، وبدأت الأسرة تنزلق شيئاً فشيئاً نحو الهاوية ، وذلك عندما ابتلاها عائلها المفرط الجاهل بالتلفاز في سبعينات القرن المنصرم! وراحت تأخذ أولى خطواتها نحو الضياع! وسنة وراء سنة زهدتْ في القرآن والبرامج الإذاعية الهادفة ، وراحتْ تدلفُ نحو الهاوية! ولم يعد يسيراً طريق العودة ولا سبيل الرجوع ، وذلك لاتساع الهوة السحيقة بين هذه الأسرة المنكوبة وبين القيم! واستمر الحال على هذا التردي وذلك السقوط وذلكم الضياع! وانغمس الأفراد في جُب الجاهلية ، وأيقظ الله تعالى عبداً من عباده من أفراد هذه الأسرة المتردية الضائعة. وبدلاً من الالتفاف حوله واتباع الحق والمعروف ، راحت الأسرة تحاربه وتناوئه. فصاح بهم كأنه منذر جيش: يا قوم اتبعوا المرسلين! فأبوا إلا الجاهلية. واستمر الحال من العداء والكيد ، وعاشت الأسرة في جاهليتها ، وتفيأ ابنها البار ظلال الإسلام الوارفة. فصبر على ما كُذب وأوذي. وزهد فيه الجميع وحجموا علاقتهم به وقزموها وقصروها على التحية العامة!
© 2024 - موقع الشعر