يا شعـر كن لي شاهداً - أحمد علي سليمان

يا شِعرُ كن لي شاهداً مِغوارا
وقل الحقيقة ، واصْطفِ الأنصارا

واروِ المَناقبَ لم يقلها حاقدٌ
ودَع الخِلالَ ، وأعلن الأسرارا

وتولّ ما كتبتْ يميني حِسْبة
إني احتسبتُ النثرَ والأشعارا

وأطلْ حديثك عن عطير قصائدي
واجعلْ كلامك طيباً مِعطارا

وتخيّر الألفاظ فائحة الشذى
وكأنها تستنشقُ الأزهارا

وزنِ العِبارة ، وانتبهْ لجمالها
حتى توَعّيَ تائهين حَيارى

وسُق الدليلَ على الحقائق واضحاً
ليُقرّ مَن تحكي لهم إقرارا

وألنْ حِوارك ، لا تكنْ مُستنكفاً
فالعنفُ ليس يُزيّنُ الأخبارا

وادحضْ فِرى الغالين واكشفْ زيفهم
وأبنْ ثوابت عانتِ الإضمارا

وانفِ الأباطيل التي علقتْ بنا
وترسّختْ بين الورى أدهارا

عني فخذلْ كل مَن لم يرحموا
ضعفي ، ولم يتلمّسوا الأعذارا

كالوا العذابَ مُقنطراً ومُضاعفاً
ورَمَوْا عليّ من الأذى قِنطارا

أنا ما اعتديتُ ، ولم أخنْ يا قومنا
عهداً أخذتُ ، ولا خفرتُ جِوارا

عُمري ورزقي قدّرا عند الذي
رزقَ الأنامَ ، وقدّر الأعمارا

أنا لي - مع الشعر المُوقر - رحلة
وجميعُ ما سطرتُ ضَمّ وَقارا

سطرتُ ما سطرتُه مُتجرداً
مُتجاسراً ، لمّا أكنْ خوّارا

يا شِعرُ وثقْ رحلتي وتجرّدي
فلقد علمتُك مُنصفاً مِغوارا

صِفْ للأنام حقيقتي وتعففي
أنا لم أردْ – بقصائدي - دينارا

أنا لستُ مُرتزقاً أبيعُ مشاعري
أنا ما اتخذتُ الإرتزاقَ شِعارا

أنا لم أطوّعْ مَذهباً لمُريدهِ
حتى أحَصّل قانعاً دولارا

أنا لم أقصّد كي أحقق شُهرة
أنا ما أردتُ لسُمعتي إشهارا

أنا لم أردْ بقصائدي قومية
أطري غفاة غيّباً حُضّارا

أنا ما أردتُ بما كتبتُ تفاخراً
إذ بات توحيدي المليكَ فخارا

أنا لم أصُغ نصاً يُروّجُ باطلاً
إذ إن ذلك يجلبُ الأوزارا

أنا لم أضمّن ما كتبتُ مَخارفاً
تضمينُها يُهدي القلوبَ خسارا

أنا لم أخالفْ عن حقيقة واقعي
حتى أجنب نفسيَ الأوضارا

أنا لم أزخرفْ – بالقريض – أحاجياً
تلك الزخارفُ سوف تُعْقِبُ عارا

أنا لم أزيّنْ واقعاً مُتردياً
بالشعر حتى ألفِت الأنظارا

أنا لم أسَخرْ – للضلال - قصائدي
كمُطبّل – في الحفل – يُمسكُ طارا

أنا ما عمدتُ إلى التشاعر منهجاً
كمُشعوذٍ أضحى يؤم الزارا

أنا ما قصدتُ إلى التحايُل عامداً
إن التحايل يُورثُ الأضرارا

أنا ما تعمّدتُ الترخصَ راضياً
لمّا يكن قدُواتيَ التجارا

أنا لم أبعْ دِيناً بدنيا لحظة
إن جئتُ ذلك سوف أصلى النارا

أنا لم أجاملْ في الذي سطرتُهُ
حتى أجنب شعريَ الأخطارا

أنا لم أحسّنْ صُورة لمُضلل
خرب البلادَ ، وأفسد الأمصارا

أنا لم أقبّحْ صورة لمُجاهدٍ
نشر الصلاحَ ، وجاهد الكفارا

يا شِعرُ كن ليَ شاهداً مُستشهداً
إني استميتُ ، فلم أكن مُختارا

لمّا أصفْ (جولييت) أو سِت النسا
أنا لم أصف بالشِعر طلة يارا

أنا لم أصفْ فستانَ (رُوزي) أو مُنى
أنا لم أناج بما كتبتُ مَنارا

أنا لم أغازلْ بالقصيد خريدة
أنا لم أمِط عن غادةٍ أستارا

أنا لم أصفْ حَسنا تدِلّ بحُسْنها
وقصائدي ما أذعنتْ لعَذارى

أنا لم أصفْ قداً لمائسةٍ بهِ
حتى تُثيرَ قصائدي الأغرارا

أنا لم أصف وجهاً زها مِكياجهُ
لمّا رأيتُ الوجهَ عاف عِذارا

أنا لم أصوّرْ مِشية لصبيةٍ
فيها التغنجُ يُعجبُ السمّارا

أنا لم أصورْ رمشَ عين مليحةٍ
قد زجّجَتْه ، فبات يَقذفُ نارا

أنا لم أصوّرْ بالقريض جديلة
مِن شعر فاتنةٍ تجوبُ الدارا

أنا لم أصورْ عينها لمن اشتهى
سحرُ العيون يُداعبُ الأبكارا

أو كف غانيةٍ بمِعصمهِ ازدهى
وسَبتْ خِضاب الراحة الأبصارا

والمِعصمُ الوضاءُ صَوّبَ سَهمَه
إذ زان بالحُسن البديع سُوارا

أنا لم أصفْ جيداً تدلى عِقدُه
ماسٌ يُرَصّعُ فِضة ونُضارا

أنا لم أصفْ شهدَ الرضاب تمجّهُ
مَرذولة تُغري بهِ الأعياراُ

ما ذاك عن عجز ، ولكنْ مَبدأ
أنا لستُ مُدّعياً ولا مِهذارا

هذي الدواوينُ الكثيرة شاهدي
فأنا الذي كم دَوّن الأسفارا

عشرون ديواناً جُبرن بسبعةٍ
أمستْ لها زبَدُ البيان منارا

لم أبتذل فيها النصوصَ زهيدة
فمع الشريعة كل نص دارا

ما مِلتُ للإسفاف يقتلُ ما حوتْ
من كل نص يزدهي استبشارا

سخرتُ شِعري للفضائل والهُدى
إني أخاف الواحد القهارا

ونأيتُ بالشعر الأصيل عن الهوى
ولذا لقيتُ تعنتاً وعَثارا

ونقدتُ أحوالاً شقيتُ بوصْفها
أنا لم أجار الناسَ والتيارا

وكشفتُ أوضاعاً يُدَثرها الخفا
وسوايَ لم يَسطِعْ لها إظهارا

وطرقتُ أبواب المشاكل مُهطعاً
نحو الحلول أصوغها أفكارا

ومدحتُ أخلاقاً ، وشِدتُ بأهلها
ورأيتُهم – بين الورى - أبرارا

ودعوتُ قومي أن يكونوا مِثلهم
حتى يعيشوا سادة أطهارا

وليُذكروا بالخير بعد وفاتهم
والناسُ تُكْبرُ ما أتوا إكبارا

وذممتُ أخلاقاً تردّى أهلها
لمّا عتوا ، واستكبروا استكبارا

لمّا استساغوا ما أتوْا مِن باطل
واستأثروا بالخيبة استئثارا

وعمدتُ للتاريخ أضبط ما احتوى
من تُرّهاتٍ خطهن سُكارى

ورصدتُ للتصحيح همة باحثٍ
لمّا يكنْ – في بحثه - سِمسارا

غربلتُ أخباراً تبينَ زيفها
والفذ مَن يتتبّعُ الأخبارا

ووصفتُ أحوالاً تُحيّرُ من رأى
لولا غرابة وقعها ما احتارا

وأبنتُ أشخاصاً تكشفَ أمرهم
لمّا يكونوا جِلة وكِبارا

رُفِعوا بلا حق ، ونالوا شُهرة
وبرغم كانوا طغمة وصِغارا

وتنوعوا في كيدهم وضلالهم
والكيدُ أعقبَ في النفوس سُعارا

ما بين مُنبطح لبأس عِداته
والكتْبُ عنهُ تنشرُ الآثارا

ومُسلطٍ بالسيف فوق رقاب مَن
جعلوهُ إذ صمتوا له ديّارا

ومُروّج بدعاً تناقلها الورى
جيلاً فجيلاً سادتِ الأقطارا

ومُشنفٍ أذناً لكل مُعربدٍ
فهوى الغناءَ ، وأمسك المزمارا

ومؤلفٍ قصصاً تُوصّلُ للخنا
وتنوعتْ لتُناسب الأعمارا

ومناول شِعراً يُبلغنا الردى
فلقد حوى الأرجاسَ والأقذارا

ما بين مُرتزق يبيعُ كتابه
والآي تلعنُ فاجراً غدارا

كي يشتري ثمناً قليلاً تافهاً
حتى يُعمّر داره إعمارا

ومنافق ثرثارةٍ متكلم
يُلقِي الكلام مُنمقاً هدّارا

كلماتُه لا حق فيها مُطلقاً
إذ أسفرتْ عن غيّهِ إسفارا

تحوي خزعبلة تُضلل قارئاً
وبها المَخارفُ لا تَقرّ قرارا

من أجل ذلك صِحتُ فيهم مُنذراً
وجهرتُ حتى استهجنوا الإنذارا

وكتبتُ فيهم بعض شِعري ناصحاً
علي أحَرّرُ بالقريض أسارى

لكنهم عشقوا القيودَ وأهلها
وتمرّدوا إذ ناوأوا الأحرارا

فشرعْتُ أصليهم بشعر ثائر
يستنهضُ الرئبالة الثوّارا

ودَحرتُ باطلهم بدون هوادةٍ
ما هالني أن ألتقي فجّارا

ورَجمتُ جَوقتهم بشعري حِسبة
حتى غدتْ أبياتُه أحجارا

ما هبتُ نِقمتهم ولا أجنادَهم
عند اللقا ، بل ولوا الأدبارا

ما خفتُ منهم إذ أتوا بجُموعهم
فاقوا مَغولَ ديارهم وتتارا

والحق دوماً يستهينُ بباطل
مهما استطال على العِباد ، وجارا

واجهتُ لم أكُ حاذراً أو خائفاً
مَن خاف لا ، لا يَقربِ المِضمارا

أدليتُ دَلوي كي أقول حقيقة
الظلمُ غيّب نشرَها استنكارا

إذ ليس ينشرُ غيرَ ما يحلو له
ولذلك الحق المبين توارى

وترسختْ بدعٌ تروحُ وتغتدي
والظلمُ ساق خميسَه الجرّارا

أرغى وأزبد مُعلناً بدء الوغى
مُستنفراً أجنادَه استنفارا

وأرادها حرباً ضَروساً تجتني
مَن أنكروا بدعَ الورى إنكارا

وتباين الشعران: شِعرٌ هازلٌ
خلط الأمورَ ، وقلدَ الأحبارا

ما انفك ينصرُ باطلاً بقصائدٍ
في التيه أبحرَ نصُها إبحارا

وتنكرتْ للحق تختصرُ المَدى
إذ أحكمتْ لدُعاته الإحصارا

وقصائدٌ حذقتْ مُغازلة النسا
رصدتْ لها الرقعاءَ والأشرارا

وقصائدٌ مَدحتْ خمورَ من احتسى
حتى ارتوى ، فتعبّدَ الخمّارا

والحانُ طابَ له ، وراجتْ سُوقه
وتعشّقَ السِكّيرُ فيه البارا

وهناك شِعرٌ غرّدتْ أبياتُهُ
وتحوّلتْ – عبرَ الدجى - أقمارا

خبرَ الحقيقة كهفها ورقيمَها
وغدتْ قصائدُهُ بها أنوارا

رفضَ الخديعة فاضحاً أربابها
حتى تراءى يلعقُ الصبَارا

متحمّلاً في الرفض كل كريهةٍ
حتى يواجه خصمَه المكّارا

لا يرعوي لمُغالطٍ مُتملق
تخذ الحياة تملقاً وهزارا

يا شعرُ آذتني التجاربُ ، طعمُها
مُرٌ ، وكم جلبتْ عليّ ضِرارا

لكنني استعذبتُ مُرّ طعومها
لمّا رجوتُ بخوضها الستارا

من أجل هذا ذدتُ عن توحيده
وجعلتُ لي هديَ الرسول مَنارا

أوذيتُ في مالي ونفسي والحِمى
فأطلتُ في درب الأذى الأسفارا

لمّا يكنْ هذا الشقا ليَ صارفاً
عن نسج شِعر ينصرُ المُختارا

عن نسج شِعر ليس يُطري باطلاً
ولذا استمى ، وعلى الحنيفة غارا

إن كنتُ ناولتُ التبرّجَ نِقمتي
فلقد مدحتُ تستراً وخِمارا

وبرزتُ في ساح التحشم داعماً
سِتراً يُقاومُ حوله الأبصارا

ورأيتُ فضلى في الذرى بحجابها
هذي التي صرفتْ بحجابها الأنظارا

تبعتْ هُدى الإسلام ، فيه نجاتُها
لم تتبعْ (خوليو) ولا جيفارا

من أجل ذلك بالقريض خصصتُها
بقصائدي ، واستقرئوا الأشعارا

ووصفتُ غربتها وغربة دينها
وتغرّباً يدعُ التقاة حيارى

فهي الغريبة في الديار وأهلها
والأهلُ باتوا غيّباً حُضارا

والجاهلية أكملتْ حلقاتُها
واليومَ عمّتْ أدؤراً وقِفارا

وخِصالها سادتْ ، وساد نِظامُها
وأساتُها مُنحوا بها الأوسكارا

تعسَ التغرّبُ كم أزالَ فضيلة
وأقامَ باطله ، فأردى الدارا

وأنا اصطليتُ بناره في عالم
لا يعرفُ التفضيلَ والإيثارا

هو ليس يعرف للأديب مَقامَه
هو ليس يعرفُ للورى أقدارا

هو ليس يُدرك للغريب حقوقه
مهما أقامَ بداره أعصارا

وظللتُ وحدي في مواجهة العِدا
ومِن الصراحة ما وجدتُ فِرارا

رحّبتُ بالضربات تصقلُ دُربتي
وتزيدُني – في غربتي - إصرارا

يا شِعرُ كن ليَ عند ربك شاهداً
يا شِعرُ كن لخليفتي تِذكارا

يا شِعرُ لا تكتم شهادتك التي
هي لي غدتْ في العالمين فخارا

أنا لم أبعْك لكي أحَصّلَ درهماً
أنا لم أبعْك لأدفع الأخطارا

أنا لي إذا حميَ الوطيسُ قضية
في عَرضها أستعذبُ الأكدارا

أنا لن أبيعَ قضيتي مهما جرى
ولسوف أقطِفُ للثبات ثِمارا

أنا لن أقايضَ بالقضية غيرَها
حتى وإن حصّلتُ بعدُ يَسارا

إني اصطفيتُ قضيتي ، وبلوْتُها
فوجدتُها خيراً صُوىً وشِعارا

ولها أعيشُ ، وقد أموتُ فداءها
بهما رجوتُ الراحمَ الغفارا

مناسبة القصيدة

يا شعرُ كن لي شاهداً! (بعد أن أتم الله عليّ ديوان: (وداعاً أيها الشعر!) شرعتُ في كتابة ديواني الآني الأخير: (يا شعر كن لي شاهداً!) وذلك لفرط أملي بأن يكون شعري مدافعاً عني يوم ألقى ربي! والشعر على مدار التاريخ كان يمثل ديوان العرب قبل بعثة النبي – محمد – صلى الله عليه وسلم -! ولكن بعد البعثة النبوية أصبح الإسلام بكتابه وسنته ديوان العرب! وهذا المفهوم تناولناه في قصيدة تحمل العنوان ذاته! ولكن بما أن الشعر العر بي الأصيل بموضوعه وقالبه هو أداة من أدوات الذود عن الإسلام ، فأصبح جزءاً لا يتجزأ من ديوان العرب! وهذا المفهوم وذلك التصور واضحان تمام الوضوح إذا استعرضنا شعر العرب المسلمين على مدار التاريخ!
© 2024 - موقع الشعر