في رحاب الزاهدين! (زهد أبي حنيفة) - أحمد علي سليمان

أبو حنيفةَ أُستاذٌ لهُ وَرَعُ
هو الجَسورُ ، فلا يخافُ ما جمعُوا

إرادة ما لها في الناس من شَبَهٍ
ورائدٌ في بيان الشَّرع يُتَّبَع

إمامُ أهل التُقى ، والعلمُ طابَعُهُ
والفِكرُ منهجه ، والعُدَّةُ الوَرَع

كم كان يَمْحُو الدجى ، والعزُّ مِعْولُهُ
والعزمُ مركبُه ، والقلبُ مُندَفِع

وحاربَ الجهلَ في بيدا وحاضرةٍ
إن الجَهول ببذل العلم يَرْتَدِع

ولا تروجُ على الأيام شائعةٌ
وليس يُرفعُ بين الخلق مبتَدِع

إن كان بينهمُ عِلمُ وداعيةٌ
يُبيِّنُ الحق حتي تذهبَ البِدَع

وما ألمَّت بقوم فتنة عظُمتْ
إلا وكان لها مِن بينهم شِيَع

ومَركبُ التيه لا تجري على يَبَسٍ
فبحرُها الجهلُ ، والحمقى هم الشُرُع

همُ المَصابيحُ ، والجهالُ في ظُلَم
شُمُّ الأنوف ، وفي القرآن قد رُفِعُوا

أبو حنيفة يأتي في مُقَدِّمةٍ
ومَن تبقى فهم لفقهه تَبَع

فِراسَةُ مِن مَعين الحق مَوْقدُها
وفي ترائبها الإحسانُ مُنطبِع

وكان في عصره منارة سَطعتْ
وفوقها رايةُ التوحيد ترتفِع

ولم يَخفْ بأسَ مَن سادوا ومَن حكموا
لأنه بقضاء الله مُقتنِع

مَوتُ الفتى قَدَرٌ قد خطه مَلِكٌ
فيم التخوف؟ إن الله مُطَّلِع

والعمرُ والرزقُ عند الله خالقنا
فكيف يقلق من بالدين يَدَّرِع؟

خَصُّوا القضاءَ ، فلم يقبلْ عُروضَهمُ
وقال: لستُ لها ، والرهطُ مُنْخَدِع

فكذبوه ، وقالوا: أنت فارسهُ
وأنتَ في الفقه يا أستاذنا سَبُع

وأنت أعلمُ أهل الأرض قاطبة
وأنت بالفقه والتوحيدِ مُشْتَرِع

فقال: حيث رأى أميرُكم كذبي
فلستُ أصلح يا أقوامَنا ارتدعوا

هذا قضائي على نفسي ، فلستُ لها
لو كنتُ أصلحُ ، كيف اليوم أمتنع؟

أبا حنيفة يا نحريرُ ، يا قَمَرٌ
يا من بمثلكَ أمرُ الدين يَجتمِع

أجارك الله مِن عصر يموجُ بنا
لو كنتَ فينا إذن لهالك الفَزَع

يُتاجرُ اليومَ بالفُرقان مُرتزِقٌ
وينسجُ الزيْفَ باسم الحق مُنْتَفِع

وسُنَّةٌ لأبي الزهراء قد مُحِقَتْ
ودارُنا لذباب الأرض تَتَّسِع

وعزةٌ بنِعال الجَور قد وُطِئَتُ
وألسُنٌ بضلال القول تَندَلِع

وصاحبُ الحق مجنوزٌ بحُرقتِهِ
وصاحبُ الزور للتصديقِ مُصطنِع

أمَّا الفتاوى فقد بِيعتْ لراغبها
في سوق ذلتهم ، كأنهَا سِلَع

وقد تسوّل باسم الوحي مُنحرفٌ
وألَّهَ المالَ ، أعمى قلبَهُ الجَشَع

وغايةُ الوغدِ (فدّانٌ) بقريتِه
إلى زوال ستَمضي هذه الضِّيِع

على حساب الهُدى يحيا أراذلُهم
وفي العزائم هُم أرانبٌ خُنُع

أما أساتذةُ العلم الشريف مضوْا
ويرحمُ الله مَن لوجهه خَشَعوا

قومٌ أرادوا بهذا العلم خالقَهم
وعندما جاءتِ الدنيا ، فما رتَعُوا

وأخلصوا دينَهم مِنْ كل شائبةٍ
وعن رياءِ بما دانوا به ارتدعُوا

وغيرُهم لبريق المال قد سجدوا
وللترقي لدى أوثانهم ركَعُوا

وللحضيضِ بجَوف التيه قد هبطوا
وللأوامر مِنْ أصنامهم خَضَعُوا

باعوا الحنيفة بالدنيا فما ربحوا
وليس يدرون ما أعطوا وما دفعوا

وقَيَّموا العلم بالدينار فاحترقوا
وأفَسِدَ النُّصحُ والتذكيرُ والجُمَع

يا ليت شِعري ، وقد باعوا ضمائرهم
كأنهم في حضيض الطين قد صُرِعوا

وكم أضلوا الورى عمداً ليرتزقوا
قالوا: نعيشُ ، وفي التضليل قد وقعوا

يا ويحهم لَفَحَ التزييفُ عزمتَم
وعربد الجهل في الألباب والطَّمَع

لم يقنعوا ببسيط العيش في رَشَدٍ
فعاش كلُّ ، وفي أحشائه جَشَع

إذا رأيتَ تَبارِيْهم بما ادخروا
تموتُ حَزنا ، ويَكوي عِزَّكَ الجَزَع

تراهمُ مِن رغيد العيش قد نهلوا
لم يشكروا ، إنما الأوجاعُ تُختَرع

يَشكون شِدَّةَ عيشٍ رغم ما حَصَدوا
يَشكون جُوعاً ، وهُم مِنْ لحمنا شبعوا

بين الأنام لهم عِزٌ وواجهة
وإن تشَفعَ رهطُ مِنْهُمُ شَفَعُوا

لهم دروبُ حياةٍ ، خابَ سالكُها
فبئسَ ما أحدثوا وبئس ما شَرَعوا

شَابُوا على بذل ماء الوجه ، ما عقلوا
تلك العمالةُ ، مِنْ ألبانها رَضَعُوا

سَحَابةٌ هذه في دارنا جَثَمَتْ
يا ليتَ شِعرِي إذن متى ستنقشِع؟

أبَا حَنيفةَ كفكفْ عَبرةً هَطَلَتْ
فقومُنا اليوم كم عانوا وكم دمعوا

واسعدْ بأنك لم تدركْ مُصيبتَنا
ولم تَعِش لترى ما قومُنا ابتَدَعوا

لكَ السَّلامُ ، ونارُ القلب مُوقدةٌ
حُزناً عليكَ أيا ذا الفَضْلِ يَا وَرِع

وصَلً ربِّ على المُختارِ أسوتِنا
ويَرحَمُ اللهُ مَن لهَديِهِ اتَّبَعُوا

© 2024 - موقع الشعر