الربان والثعبان - أحمد علي سليمان

أيها الرُّبان ، هل تَهَوى القلقْ؟
كيف تمضي في دهاليز الغسقْ؟

كيف ترضى العيش في بحر الدجى؟
أأمنت اليوم في البحر الغرق؟

إنما الأوهام نعشُ مظلمٌ
لم تدعْ من عُمرنا إلا الرَمق

زورقُ الأحزان أراده العنا
فيه موجٌ - في الحنايا - ينزبق

إنما الأمواجُ تُزجي ثأرها
ثم ترمي سيفها عند العُرق

أيها الربان أبصر ما جرى
إنما الوَهمُ - على الوهم - انطبق

لا تسلني ، أين أيام الصِّبا؟
إنما العزمُ لبلواك انصفق

حارَ عقلي في مرامي قصدكم
يا عزيزي ، إنما النجوى ردق

فارحم القَلبَ ، وقدّرْ ضعفه
فجراحُ القلبِ ليست ترتَتِق

قلبُك المِسكين أدماه البَلا
بَاتَ في كهف الأعادي يرتبق

إن نُورَ الفجر في جو السَّما
قالَ: إني اليومَ لا لن أندفق

أيها الرُبان مأواك الجوى
فيه حُزنٌ كالجواد المُختنق

أنت مَعذورٌ على كل رؤى
لكن اخرج من سراب المُعتنق

نالك الثعبان ، كانت فتنة
كي يحوز اليوم ألوان السَّبق

في محاريب تُعاني يلتقي
جُعلُ شيطان ووغدٌ مُستحق

كم يُساوي الكيد يا ثعبان ، كم؟
كم يُساوي السُّم في جِسمِ البرق؟

كم تلقاك بحب صادق
واحتواك الملتقى مَدَّ الأُفُق

وافترشت الأرض في إيوانه
واحتواك النومُ من بعد الأرق

واجتباك الخِلُّ من بين الورى
إنه - في البحث عن خِل - بَلَق

ورأى الربان في دنيا الورى
إن مُزن الصحب بالغدر انبعق

لم يكُن بالعَين عَيبٌ ، أو أذى
لم يُصبها - قط - شَيئٌ من بخق

وسراجُ العَقل غضٌ مشرقٌ
إن عقلى - فوق قُرآني - ارتفق

وفؤادي لم يكن ميْت الرؤى
ليسَ يُغريه هوى العيش الرَمِق

إنما كنتَ نصيبي والقضا
ليس عبدٌ من قضا المَولَى أبق

أيها الثعبانُ عارٌ ما جرى
يا عميل الظلم والكيد أفِق

تنصُرُ الشيطانَ يا مستهزئاً
أنتَ في مدح المَخازي تبتعق

لو طوتهُ وعكة ترثو لَهُ
بل تبيتُ الليل في قَعرِ الأرق

أنت للشيطان طوَّعتَ الهُدى
أنتَ بالفُرقانِ كُنتَ المُرتزق

أنتَ للضُلالِ زينتَ الهوى
واشتريتَ الدُّود حقاً بالحبق

أنت للفُساق سيفٌ قاصلٌ
أنتَ موسومٌ بوَسْمات الحَلَق

أنتَ ما قُلت رشاداً أو هدىً
إنما تهذي وتسعى في الشمق

إنما ساقوك في بُهتانهم
ولك الدينارُ يلوى كالوَهَق

أيها الثُعبانُ موتٌ فِعلكم
ثم إن السم فينا قد شرق

إن بعض النارِ - فيها - يَكتوي
والذي بالنار يلهو يَحترق

فاترُك الرُّبان ، واهجر دربه
إن ثوب الكيد في الدنيا خلِق

أنتَ للشيطان قد قدّمتهُ
وحرقتَ الحقَّ في قعر الصَلَق

يا رياح الغدر ، في ودياننا
لك لم تحفظ ربانا مُخترق

فاستريحي من هُبوب عاصفٍ
أنت قد عانيت مِن فرط اللحق

أيها الثُعبان ، فارق زورقي
أنتَ للشيطان توَّجْت المَلَق

إنني في البحر كانت رحلتي
عُدْ ، فليس التيهُ يُجدي واللوق

وبإذن الله ، أسمو للعُلا
بعدَ أن ألقى عدوي يَنصرق

كُلُ لون في النفاق ابتعته
وغريبٌ أنهُ لم يلتعق

كلُّ رقص أنت قد أتقنتهُ
وعلى أحبال هاتيك الفِرق

كُلُ مدح للطواغي ، صُغتَه
في تواشيح الطواغي تنفهق

لم تدع رُباننا في حالِهِ
ويحَ معتوهٍ مُصاب بالعسق

كيف خادعت البرايا بالتقى؟
مثلما يَعلُو السراديبَ الغمق

أيها الثُّعبان ، يوماً تنكوي
باحمرار الشمس في جوف الشَّفق

إنما المِجداف مِن نُور السَّما
صار بالتجديف يجتاحُ الرنق

إن أحلى لحظةٍ في عُمره
عندما - في البحر - فرداً ينطلق

لم يُعقه السُّم في أوصالهِ
بل ، يراه - الآن - كالطيب العذق

حيثُ لو داوى الجِراح عاجلاً
قد يعوقُ الجُرحُ أقدام الهزق

أيها المِجدافُ ، فلننس الأذى
إنما يُردي الحِجا بعضُ الهنق

إنما الثُّعبان أوهِيَ حجة
لا تجادلهُ ، إذن فيم القلق؟

إنَّ نصر الله ماح سُمه
فاستعن - عند اللقا - رب الفلق

أيها الثُّعبان ، إني تاركٌ
قِبلة الشيطان ، والقومَ الزهق

قد سئمتُ العيشَ في نعمائه
والهواءِ العذب ، والماء الغدق

كم يُساوي المَرء مِنا إن غوى؟
ليسَ - عن هذي المطايا - يفترق

كيف أقتاتُ بتقوى خالقي
أو بعِرضي؟ كيف قُل لي يا فُسَق؟

كيف أحتال على شرع الهُدى؟
كيف أهوِي في سعير المُنزلق؟

كيف أخشى إن تبنيت الضيا
أن أُنحّى بافتعالات العُلُق؟

كيفَ أرضَى سَلبَ هديي ساعةً؟
ليس لي - في فعل هذا - من عمق

كيف يحلو العيش من غير الهُدى؟
كِد لنا يا مَن خلقتَ مِن علق

نحن بالإسلام ألجمنا الهَوى
وانطلقنا ، فاحتوانا المُنطلق

أيها الثُّعبان خبِّرْ حَيّتك:
أن دمع العَين ضار مُنسحق

قُل لها: أن النوايا أسفرتْ
ليس يُجدي اللوم شيئاً والحذق

أين كان اللوم أيام الجَفا؟
كفكفي سؤل التحدي واللبق

لن أطيع اليوم من عني افترتْ
بل ، ومازالت لزور تختلق

والوسيط الغِر يا أفعى البلا
لا يزيد الغيثَ إلا بالهزق

فاتكِ - اليوم - بأن تستفسري
لا تثوري ثورةَ القوم العُزق

قدرُ المولى برئ منكمُ
لا تقولي من قضاء منتطق

إن رب الناسِ مخز كيدَكم
وضعيفُ النفسِ يغشاهُ الخبق

فاستريحي في النفاق المُفترى
واتُركينا ، في سُويداء العقَق

أنتِ أطلقتِ اللسان بالأذى
وسَرَى في الجِسمِ سُمٌ مُدّهق

قلتِ فينا قولةً ملعونةً
شجّعتْ مَن للبرايا يسترق

نحنُ نشكو لمليكٍ عادلٍ
وسنمضى ليس فينا من حنق

أيها الثُّعبان قَل: يا طفلتي
أنتِ في الدنيا شِهابٌ يحترق

قد حفظت العهد دهراً أبشري
ونشأتِ دُرة وسط السُقُق

أنتِ قُلتِ الحق لم تخشيْ أباً
ما اعتراك الرُّعب أو حَتَّى الخرق

يا فتاة هزها ما قد رأت
أوشكتْ أفكارها أن تختنق

يا فتاة زادُها إخلاصُها
بُورك الإخلاصُ من طيب عبق

يا فتاة سِجنها في دارها
صمتكِ الشهم جهيراً ينفحق

قد رضينا منكِ صدقاً بالدعا
قد رفعت الرأس مِنا والعنق

نحنُ يا (زهراء) شكرٌ كلنا
صدقيني: لستُ بالمرء الفرق

أيها الثُّعبان ، أبلغ صاحبَك
أننا يا وغد عند المُفترق

قد ظننا فيكَ خيراً وافراً
نقتدي بالخير هذا ، ننطلق

وابتغينا العلم من بعد اللقا
فإذا بالعلم ولى ، لم يُطق

وإذا بالنور غشاه الكرى
فاتفقنا أننا لا نتفق

وإذا الإفلاس أردى جذوة
وإذا الهلكى كأشجار العشق

غير أني لا أبالي بالألى
قد مضى توحيدهم مثل الفرق

لم يراعوا حُرمة في فعلم
والبليدُ الطبع في الكبر انزلق

ناطح الوغدُ الغرورَ فانتهِيَ
وإذا ناقشته الأمر انحمق

كم حمار غرَّه تنهيقه
ويظن الناس يُعليها الشدق

إنما يعلي الليوث عزهم
والبعير الفحل يُخزيه الطرق

وكذا يُرزي الحمير صوتهم
أنكرُ الأصوات ، فعلاً ذاك حق

أيها الوغد تجلببْ بالدجى
يا ركاماً من ضلال يندلق

عكرتْ بلواك صفو الملتقى
يا جباناً في لقا الأعدا فرق

يا مريض النفس ، يا مستهتراً
قد نصبت الفخ جهراً والطبق

كيف ضعت اليوم في قعر الهوى؟
كيف من ركب المعالي تنفسق؟

دارِ بلوى حاسدٍ مستهزئ
في تلافيف السحاب المنعثق

أيها الربان هيّيء مركبكْ
فالرياح الهُوج تهذي تستبق

والكثيب المُر يقتات الثرى
فاضرب المجدافَ في الماء الغدق

أنت مِن جُند النبي المصطفي
قد عرضتَ الحق باللفظ اللبق

سوف تمضي الفلك في بحر السرابْ
ويظل الليث كالطير اللثق

اضرب الأوهام ، واكسرْ قيدها
كيف بالأوهام إنسٌ ينتطق؟

عانق الآمالَ ، واشربْ فرحها
كن قوياً ، لا تفكرْ في الملق

واسكب الذكرى بأرض الملتقى
إنما الذكرى لمن يهوى الرفق

واحمل الطفلين في عين الوفا
فهما في القوم كالنبت الفرق

وامنح الزوج عطايا حبها
وجميلٌ منك ألا تنفرق

وافتكر في الأمنياتِ ، عشْ لها
فعسى الآمالُ أن لا تندمق

أنت في العلياء ، نعم المرتقى
كيف في العزمات دوماً تصطفق؟

سيبوء الجمع بالكيد الذي
أحدثوا ، والفجر حتماً ينبثق

سِر هذا الليل أمسى حاسراً
رأس كيدٍ لفّ في ثوب الأبق

أنت مثل الزهر عذبٌ صوته
ساحر الألوان صعبُ المرتفق

أنت مثل الحب حلوٌ طعمه
إنما يأسى على الحب الرمق

أنت مثل الليث لا يأسى على
سالفات الأكل ، أو حتى المهق

أنت مثل الشعر في أوزانه
مجهد الأفكار ، بتار اللسق

أيها الربان ، لا تبك اللوا
ليست الأخلاق شيئاً يُرتزق

سابق الأمواج واستصفِ العنا
فيك خيرٌ ، أنت نعم المستبق

قابل الأحزانَ بالقلب الخليْ
لا تقابلها بيأس ، أو رهق

كل خلق الله موزون الخطا
كل شيء بالنواميس انتسق

فاستعن بالله يا رُباننا
قرّ عينا ، لا يُسَرْبلْك القلق

تركُكَ الأسبابَ سلوانُ العِدا
فاتبعني ، وافتح الباب الغلق

إنك السباح في بحر النوى
كنت تسعى تنقذ المرء الغرق

فارسَ الفرسان كم عشت هنا
تنثني بالذل من فوق الغرق؟

شِعرك المدفون ، يوماً يزدهي
أنت - في الأشعار - نبراسٌ عذق

أيها الربان ضاعفْ في الخطا
كيف - قبل السير - أضناك العرق

ثم إن الكسر صعب جبرُه
أوغلتْ في الكسر أفواهٌ طلق

فاحمل القرآن ، واقرأ آيه
لا تسوّفْ ، لا يُنسّيك الهطق

إنما الدنيا سرابٌ ينضوي
ورحيلُ المرء فوق العمر دُق

والبساتين التي نلهو بها
سوف تسلو زائريها والعُشق

فاطلب الفردوس ، وابذل مهرها
ثقُ بنصر الله يا ربان ، ثق

إن نصف العمر ولى مدبراً
ثم إن القبر بالذكرى نطق

فعلام القلب يحيا ذابلاً
واجماً؟ بوركت من قلب شنق

اغضض الصوت ، أيا رُباننا
إن جوف الصمت هذا مسترق

عند مولاك ستعطى جنة
في سبيل الخلد فليمض الحدق

واحذر النسوان ، كن مستعصماً
آفة الدنيا النساوين الحُمُق

زينة النسوان في درب الهُدى
غادة الإيمان تُزري بالحلق

قل لأرباب الدجى أهل الهوى:
إنني ودعتُ هاتيك الحِلق

صاح إن القوس يُمنى فارس
لن تزول القوس حتى تنشرق

دارِ بالأشعار ما جرّحته
إن شِعر الصبر فِضيٌ يَلق

ثوبُك التقوى ، فلا تعدلْ به
أي ثوب من ضلال أو خِرَق

وسبيل الله مِفضالٌ ، فلا
تنحرفْ عنه لمال ، أو وَرِق

شِرعة الحق نأت عن دارنا
حبستْ عنها ، فمأواها الورق

فانتهج نهج الرسول المجتبى
واعتزل يا صاحبي كل الطرق

لن تضارّ اليوم من كيد العدا
فلماذا في الخطايا تنطلق؟

واحمد المولى ، وحققْ دينه
واملأ القلب تقىً حتى يرق

وعلى المختار صلي ربنا
طالما حل نهارٌ أو غسق

© 2024 - موقع الشعر