الأطـلال اليمنيـة 2 (معارضة لأطلال إبراهيم ناجي) - أحمد علي سليمان

يا فؤادي ذبتُ من فرط الهوى
وإلى المَجهول مَحبوبي أوى

كيف في (بيحانَ) قد عشنا سوا
في بُييتٍ كلَ ما نرجو حوى؟

لم تُفرّقنا ظروفٌ أو قوى
ولذا لمّا يُعذبْنا النوى

وإلى (شَبوةَ) أضناني الجوى
أسألُ الناسَ عن الزوج ثوى

********************
********************

لستُ أنساهُ حَليلي والصديقْ
وحبيباً كان لي مِثلَ الشقيقْ

وزفيراً كان مِن بعد الشهيق
حُبُه في القلب جَبارٌ عَميق

إنْ نأى عني فقلبي لا يُطيق
وفؤادي دونه مثلُ الغريق

وأراني من همومي لا أفيق
ويَزيدُ الخطبَ فقدانُ الرفيق

********************
********************

وسِني العُمْر دارتْ كالرحى
كل يوم مَرّ أهدتْ تَرَحا

وفؤادي مِن عذابي جُرحا
وإلى زوجي خيالي جَمحا

هل يعودُ من غِياب فرحا؟
عَوْدُه يشفي فؤاداً ذبِحا

إن قلبي للشكايا جَنحا
أيُ قلب لشكاتي فتِحا؟

********************
********************

أين مِن عيني حبيبي والهناءْ؟
كم رَفعتُ رَاحتي كُلي رجاء

ومعي (دَهماءُ) نبكي في الدعاء
أن يرد الله مَن بالبُعد باء

إن (عز الدين) أعياهُ البكاء
ربما هذا البُكا غالَ القضاء

فإذا بالغائب المفقود جاء
ليس شيءٌ مُعجزاً ربَ السماء

********************
********************

أين مني الزوجُ ما عنهُ غِنى؟
هو للبيت عمادٌ وسَنا

إننا من دونه ذقنا العنا
مَسّنا الضر ، ونجترّ العنا

ومِن الشوق التردي مَسّنا
بنتُه (الدهماءُ) تُبكيني أنا

وابنه (العز) يهادينا المُنى
مُشفقاً أن يُدرك اثنين الفنا

********************
********************

يا حبيباً طيفه كالنغمِ
إنْ يَزرْ يَمحُ عُتيَ الألمِ

تفتدي رؤياك روحي ودمي
يا لطيفاً ، يا جميلَ الشِيَم

إن ذكراك تُسلي عشمي
ولها شوقي تخطى نهمي

والذي سواك جُدْ بالرُحُم
وارحمِ النفسَ ، وأبرئ قسَمي

********************
********************

في (عُسَيلانَ) أناجي مُقلتيا
والمُنى تخفِقُ في (تمنا) لديا

وابنتي (الدهماءُ) كم نادت عليا
وشرودي طال عقلي الألمعيا

صوتُ (عِز الدين) وافى مَسمَعَيا
وأنا أبكي ، ومَن يُصغي إليا؟

فارحمِ الأسرة إن كنت حَفيا
أم فؤادُ الحِب قد أمسى خَلِيا؟

********************
********************

زارنا الأهلون ، جاؤوا للعَزا
فشكرناهم ، وضاعفنا الجزا

كم تأملنا اللقاءَ الموجزا
عنك ما قالوه أمسى معجزا

كل فردٍ حُبَ أهلٍ أبرزا
رغم أن البعض زوجي لمزا

وكذا بعضٌ بردٍ غمزا
هل همُ أغنوْا عشيراً هَمَزا؟

********************
********************

عندنا المالُ فهل هذا البدَلْ؟
نشتري ما نشتهي دون وجل

هل بمال نشتري بعض الأملْ؟
هل بمال نشتري أجدى الحِيَل؟

ليعود الحِبُ يحيا بالأهَل
بعد أن وافاهمُ قربُ الأجل

لستُ أدري كيف أحيا؟ ما العمل؟
يا إله الناس أدركْنا بحل

********************
********************

قال (عز الدين) أيناهُ أبي؟
دونهُ العيشُ كمثل الغيهبَ

صارحيني بالكلام الطيبِ
واصدقيني ، والطفي يا أمُ بي

هل سنقضي عُمرنا في نصَب؟
كلُ طفل بين أم وأب

وأنا والأختُ في وهم غبي
أن يعود الأبُ يَقضي مَأربي

********************
********************

أيها الجيرانُ كونوا أهلنا
واعذرونا في بلاءٍ هالنا

واذكروا بالخير مَن كان لنا
كل شيءٍ ، كان يَهدي بالنا

ويُسلي بالهنا أحوالنا
وهنا في دار قومي عالنا

وغدتْ أمواله أموالنا
وغدت أقواله أقوالنا

********************
********************

يا حبيبي نُصْبَ عينيّ الغطاءْ
وعلى المِشْجَب يُشجينا الرداءْ

وإزارُ العُمرة الشهبا كِساء
وعلى الرف زجاجاتُ الدواء

وعلى المكتب مِسباحٌ مُضاء
وأمام الباب يُبكينا الحِذاء

كل آثارك تستجدي البكاء
ما كرهناها لأنا في ابتلاء

********************
********************

نرقبُ الأثوابَ زانت غرفتكْ
وبقايا المسك تغزو جُؤنتكْ

وإلى الشباك تهفو طلعتك
ولدى الباب نواسي غَيبتك

وعلى الكُرسيّ تبكي غترتك
وطيوفُ الشوق في سِجادتك

وعلى السُلّم ترنو خطوتُك
ردك المَولى تُسلي أسرتك

*******************
********************

إن في (بيحان) أطلالاً قصية
وهنا في (شبْوَةٍ) خلفَ الثنِية

عند أخوال لنا أهل حَمِية
كم تذاكرنا الخلالَ الأريحية

بُكرة كان التلاقي أو عَشِية
لم نكن ندري متى تأتي المنية

ولنا في الصبح أذكارٌ زكية
وصلاة الليل بالتقوى نقية

********************
********************

أيها الغائبُ يرعاك الإلهْ
إنْ تكنْ مِت دعونا في الصلاة

أن ترى الأخرى بديلاً للحياة
رحمة المولى ثوابٌ للتقاة

أو تكنْ حياً ليرْجعْك الإله
وحدهُ العالمُ بالسر وراه

وحده القادر فلننشدْ رضاه
هل لنا في كربنا ربٌ سِواه؟

********************
********************

أيها الغائبُ بتنا لا نراكْ
أنا والطفلان لا نبكي سواك

وعلى جمر الغضى دون حِراك
نسهرُ الليلَ يُناجينا هواك

يا إلهَ الناس أسعدْ مَن دعاك
لا تُخيّبْ يا إلهي مَن رجاك

إن يكنْ أدرك محبوبي الهلاك
ربنا ارحمْهُ ، وألزمْنا هداك

********************
********************

أيها التائهُ في الأرض الخرابْ
عُدْ إلينا مِن مَجاهيل السراب

لا تُطلْ بُعدك ، أضنانا الغياب
وطيوفُ البُعد تُدْمي كالحِراب

فارحمِ الأسرة مِن هذا العذاب
لم يُعوّضْنا طعامٌ أو شراب

ربَنا أذنْ لحبيبي بالإياب
رب ذللْ ما يٌقاسي مِن صِعاب

مناسبة القصيدة

(ليس للمتحابَيْن إلا الزواج! هكذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -. وهذا الشاب اليمني صاحب التجارة ، وهو من (عُسيلان) وتحديداً من (تمنا) ، كان قد تزوج من المرأة التي أحبها وعشقها ، وهي من (بيحان) وتحديداً من (شبوة) ، كما أخبرني راوي القصة ، وأظنه من الصادقين! ورزقه الله منها بابن سماه: (عز الدين) وبابنة سماها: (دَهماء)! وفي إحدى رحلاته التجارية عاد التجارُ المرافقون بينما لم يعد صاحبُهم! ولم تعرف امرأته (البيحانية) عنه شيئاً! والتمستِ الأخبارَ هنا وهناك دون جدوى! وأصبح هذا الزوج مجهول المصير: فلا هو حيٌ فيُزار ويعود إلى أهله! ولا هو ميت فيُترحمُ عليه! وعاشت هذه الأسرة البائسة المنكوبة أطلالَ عائل غائب ، خلّفهم أطلالَ أجسام ، وخلّفوه أطلالَ روح! على أمل اللقاء به حياً أو ميتاً!)
© 2024 - موقع الشعر