المــوت بين نهرين - محمد مظلوم

… كلكامش لمْ يحظَ بموتهِ في المرآة،
 
فخرج إلى نومه، حياً وبكامل حروبه،
 
حيث سبعون أنكيدو وأكثر، تركهم نائمين،
 
مِن أوّلِ الفراتِ إلى شرقِ دجلة.
 
…، نظّارته، وجواز سفره،
 
وساعته التي تأخرت قليلاً عن النوم
 
هي ما يجعلني قادراً على رثائه.
 
…، ولم أجده على السطح،
 
حيث تركته يطيِّر الطائرات الورقيَّة،
 
والطِّيورَ التي لا تعود.
 
فمن يخرجني من الماضي؟
 
هو الذي لم يمتْ
 
فعاش ميتاً
 
وهذا اسمُهُ يرثُ الموتى.
 
…، حرّفوه وناموا، فلمْ يبقَ منْهُ سوى أخطائه.
 
خرج في نهار ليس لأحدٍ معرفة به
 
وكان يبتسمُ لأعدائه
 
ويعلِّقُ مفاتيحَ مملكتِهِ
 
في رقبةِ ثورِ الموت.
 
حقولُ ألغاز غافلة تعبرني،
 
وأنا مفخَّخٌ كالهُدوء،
 
وهادئ كالفخّ.
 
…، واقفونَ وفي أيديهم ذكرى الأبد
 
على ان نهراً مُنتحراً،
 
أعادَ أزهارَ الإعتذار لأبطال الفوات،
 
وسوى ذلك،
 
حرائقُ مستمرَّةٌ تنْحتُ حياتهم.
 
رصاصٌ مُهشَّمُ الأسْنانِ،
 
تتطايرُ رائحتُه،
 
ظلال خُوَذٍ مثقوبةٍ تنهار،
 
مسدسٌ أعمى يتلفَّت ببكائه،
 
ميت يسهو فيستردُّ أخطاءه بسرعة.
 
كان أنكيدو مُجنَّداً
 
في كتيبة الدبابات الحادية والسبعين
 
في اللواء المدرَّع الثاني والخمسين.
 
يسمُّونَهُ ولا يقفون،
 
وما زالَ يتسلَّل
 
من أخطاء تائهة.
 
أكان عليَّ دائماً
 
أن أسجن ظلَّي
 
لأصل قبل أن يتكرَّروا فيَّ؟
 
أكان علي أن ألوِّنَهُ،
 
لكي يعبروا، منه إلي؟
 
طرقٌ مفضيةٌ إلى بريدٍ نائمٍ
 
كاد يعود إلى نسيانِه،
 
هم يُرسَلونَ إليه،
 
لأنهم ينامون بلا بريد.
 
الهاربُ من حروبٍ قديمة
 
دلَّني على جثَّةٍ لا تعود لأحد،
 
ذلك أن جميع مَن جاءوا،
 
تعرَّفوا عليَّ حالاً.
 
وما تركوني،
 
غير أنني أضعت الكلامَ
 
وكان وجهي يحارب.
 
أحصيتُ مَن تَركوني،
 
فَوجَدتُ أَنَّني،
 
سأكلِّمُ لاحقاً
 
كَثيْراً مِن الموت.
 
وها أنا أقفُ على ضفة أخرى
 
ولو نودي عليهِم بصوتي
 
لاسودَّت أكفانهم.
 
لأجل هذا
 
يبيضُّ صوتي،
 
وهو يعبرُ أمامَ العميان.
 
لم يكن لنا،
 
فلماذا نسمِّيه؟
 
أمِنْ أجْلِ أن نعودَ إلى نهار ضال؟
 
وكانوا على ظلال السلالم،
 
يعبرون
 
تقودهم سلاسلُ من نُعاس.
 
…، يهربون
 
يتبعهم طريقهم إلى روائحهم الراكدة،
 
ويدفنون خيالاتهم،
 
قبل أن يصل الوقت.
 
…، وجوهٌ شاغرةٌ
 
لا تستدلُّ على التائهين في النوم،
 
وجوهٌ
 
يجرجرها رمحٌ ضريرٌ
 
إلى حبر غامض.
 
قلبي تعضُّه رسائلُ مرَّةٌ
 
ودليلي إليك عمايَ الأكيد.
 
…، أهذه بلادي؟
 
بلادي التي لم أرها ولم تغنِّ باسمي
 
كنتُ فيها، وكانت تحاصرني فيَّ
 
فاخترتُها،
 
لكي أتكاثر خارج الظلّ.
 
إجازته
 
نصفُه نومٌ
 
ونصفُه نهارٌ مثْقلٌ بالمشاغل،
 
يرى الأشياء هاربةً فينام.
 
شكُّه مسدساتٌ مُشتقَّة من الخوف،
 
واحتجاجه صراخ أعرج،
 
ومصدِّقوه،
 
حفَّارون في ليلٍ مؤلل.
 
قُبورٌ هاربة تحِنُّ إلى أزهاره الحائرة،
 
إلى أمطاره الضالة،
 
قبورٌ تهربُ تحتَ سماءٍ تُشبهها.
 
ينظِّفُ الموسيقى من هواء أجشّ،
 
يدخل مُسرعاً،
 
وبنظَّارة تحتال،
 
يُصغي إلى فضلاتٍ الهروب.
 
رسائله مُرَّة
 
ويُطيل أيامَه تحت شمس المتوسِّط.
 
كَمَنْ يسْتولي على الانتظارِ كلِّه،
 
يعتقلُ أيَّامه ويخْرج حُرَّاً،
 
لأنَّهم، كلَّما نادوه،
 
سمعوا نُعاسَه فسبقوه إلى النوم.
 
يوصي:
 
أمطاره تتعثَّر في الطريق،
 
يصل منها نعاس
 
وخيوطها العمياء.
 
ممسوس كظلٍّ،
 
وواضح كالغرباء،
 
أيَّامُه تُسمِّمُ ذكرياتٍ لا أوَّل لها.
 
كان ثالث اثنينِ معه،
 
أحدهما ينصتُ بيد أن الغابة تعْبُرُ بينهما،
 
بيد أن أشجاراً تنعطفُ، ونهاراً يتأسفُ،
 
وأحدهما تركَ عينيه عند جسر طويل،
 
وعاد ينصت بيدَ أن الغابة….
 
ساعته
 
أعطاها لغيره، لينسى مواعيده مع الله،
 
وكانتْ يدُه تؤلمه،
 
كلَّما اهتزَّ قلبُه بينَ فَخذيْ أنثى.
 
وغيرُه صارَ راكضاً إلى مواعيدِ ساعته،
 
وكانا يلتقيان عند نسيانٍ متلاحق
 
وما أنْ انتحر الأخيرُ وسافر الأوَّل،
 
حتَّى بقيتْ ساعة يدوية
 
تنتظرهما في يدِ جندي مفقود.
 
ينام، وتحلُمُ عنه، وتغلق الباب أيضاً!
 
وفي الصباح تغْسل وجهها نيابة عنه
 
وتفرِّشُ أسنانها، ثمَّ تخرجُ،
 
بينما لا يزال في السرير،
 
معْتقداً إنها ما زالت نائمة قربه.
 
نظَّارتُهُ
 
رَجَمَ بها البحْرَ عنْدما تذكَّر إنه ميتٌ،
 
وعاد إلى صحرائه بلا ذكريات،
 
فالتقطتْها نُسورٌ قديمة الأحلام،
 
وشاهدتْه سماءٌ مسْجونة في زجاجه الأعمى،
 
لم يلتفتْ في طريق عودته إلى مآله الحائر،
 
حيث خارطة النَّدم، تشنُّ هروباً على جهات الحواس.
 
لم يفركْ عينيه ليصدِّقَ إنَّه بيْن أعداءٍ ذوي أرواح مُقَنَّعة،
 
كان يُغْمضُهما ليصِلَ بإشاراته المنْسيَّة إلى وجهِهِ.
 
ومنْذُ ذلك الوقت إلى أيامه تلك،
 
صارَ كلُّ ما حولَه يتخفَّى مُسرعاً تحت وقْتِه الهارب
 
وصار هو يُمطرُ نسياناً كافياً لإيواء عراةٍ مذْهولين
 
بعد انسحابٍ موبوء.
 
جواز سفره
 
أوصوه،
 
أنْ يوثقَ ظلَّه إلى جبلٍ ينهار،
 
ووعَدوهُ بما خلْف البحار
 
مِنْ سواحلَ مَنْذورة لأقدامه،
 
وبأنَّه سيجْهشُ تحتَ أشجارها
 
حتَّى يبيضَّ جمْرُهُ
 
ثُمَّ يصْمتُ
 
حتى يستعيدَ صرخَته،
 
وبأنَّه سيسْهرُ
 
حتَّى يُمطرَ النَّهارُ في عباءة أمِّه،
 
وعندما اصطدمتْ على خرائطهم فُصولُه،
 
حَصَدوا أشجارَ نَومِه،
 
فكانَ فجْرُ دكاكينهم.
 
وصِيَّتُه
 
…، إلاّ إنَّه يموتُ وكفَّاه مُقْفلتانِ،
 
بلا أخوةٍ يشبهونَه ولا ما يذكِّرُ به من أعداء.
 
…، إلاَ أنَّهُ يعضُّ أحلامَهُ وينام،
 
كي تنطقَ جثَّة مصابة بالنسيان.
 
يصلُ،
 
قبلَ أنْ يبدِّلَ الفجْرُ حرَّاسه.
 
فيطول،
 
كنخْلة مرَّة أوصتْ بظلالها،
 
ويسْتديرُ،
 
كلَّما أومأتْ مرْوحَة!
 
أمامَ عماهُ
 
يتحشَّدُ الغُرباءُ
 
بخرائطَ ممحوّة،
 
وينْعَسون.
© 2024 - موقع الشعر