إلى شاعر الأرز - عبدالمنعم الرفاعي

دُعَاءُ داعي النَّدَى فالليلُ والعَرَبُ
كلاهُما في مَدَى عينيهِ يَحتجبُ

أوْفَى على الشطِّ من وادٍ جداولُه
دمعٌ يسيلُ ويطويهِ الثَّرَى الخَضِبُ

أنسامُه زفراتُ الهمِّ صَعَّدَها
على الهزيمةِ مغلولٌ ومكتئبُ

أحلامُه حَمْحَمَاتُ الخَيْلِ صَافِنَةً
إذا الفوارسُ عن خَوضِ الوغى رَغِبُوا

آلامُهُ كدموعِ الرُّسْلِ ساهِمَةً
إن هاجروا في سبيلِ اللهِ أو صُلِبُوا

أنغامُهُ زَغْرداتُ الحيِّ إذ هَتَفَت
أمُّ الشهيدِ لهُ والنعْشُ يقتربُ

أيامُهُ لو دَرَى التاريخُ حاضِرَهَا
تراجَعَتْ فيه عن آمالِهَا الحِقَبُ

ودَّعتُهُ وحَمَلتُ الشوقَ في كَبِدِي
إلى ذُرَى جَبَلِ تَزْهَى بهِ الشُّهُبُ

* * *
لبنانُ يا مولدي هلْ فيكَ مُنْتَجَعٌ

لوافِدٍ عَضَّ منْ تِجوالِهِ التَّعَبُ
أردانُهُ من غُبَارِ العُمْرِ مُثْقَلَةٌ

وزَندُهُ بالطرادِ الوَعْرِ مُختضِبُ
هانَتْ عليه الأماني بعدما رَخُصَتْ

فما أستخفَّ بهِ معْنَىً ولا لَقَبُ
وحادَ عن دوحِهِ لَمَّا بلابِلُهُ

ثَنَّى عليها غرابٌ بعدها نَعِبُ
تداولَتْ شذراتِ الأيكِ زِعْنِفَة

تَمْتَصُّ من زَهْرِهِ النامي وتَسْتَلِبُ
أَكُلَّما أسرَجَ الأحرارُ خَيْلَهُمُ

تناوحَ الرُّعْبُ في الأنذالِ والرَّهَبُ
* * *

لبنانُ يا مسرحَ الأحلامِ مَرْحَمَةٌ
إنْ هاجَنِي أَلَمٌ أو هَزَّنِي طَرَبُ

لكَ الجلالُ، وهذا السهلُ مُتَّكِيءٌ
على عُلاكَ وهذا البحرُ مُنْسَحِبُ

لكَ الجمالُ، وكم زَهْرٍ وكم حَدَقٍ
تشابَهَتْ بينها الأوراقُ والهُدُبُ

لكَ الدلالُ، وصمتُ الليلِ منسدلٌ
على ذُراكَ وبَوْحُ الصبحِ مُنْسَكِبُ

لكَ النضالُ، وهذي الأرضُ طاهرةٌ
ماءٌ نَمِيرُ يُجاريهِ الدمُ السَّرِبُ

* * *
أما رَكِبْتَ الرَّدَى جُنَّتْ عُجَاجَتُهُ

وليس غير سَنَاكَ الجحفلُ اللجبُ
عقيدةٌ كالجبالِ الشُّمِّ راسخةٌ

وقد تَهَاوتْ على إيْمَانِكَ الرِّيَبُ
وفِتْيَةٌ آمنوا باللهِ وانطلقوا

عَبْرَ الشهادةِ لليومِ الذي كتبوا
يغشاهُمُ الزعزعُ العاتِي فإنْ قصفتْ

يدُ الْمَنِيَّةِ غصناً فالثَّرَى خَصِبُ
مُسْتَشْهِدُونَ كأنَّ الموتَ ما خفقتْ

أعلامُهُ في الذُّرَى إلاَّ بِمَا نَصَبُوا
* * *

ماذا أُحَدِّثُ يا لبنانُ هلْ نَبَأٌ
لَمْ تروِهِ سِيَرٌ أو تَحْوِهِِ كُتُبُ

حتى المآذنُ تُمسي وهي نادبةٌ
حتى النواقيسُ تُضْحِي وهي تَنْتَحِبُ

من كلِّ مريمَ أو من كلِّ فاطمةٍ
عذراءَ في الساحةِ النكراءِ تُغْتَصبُ

يافا تُحَدِّثُ حيفا عن جِرَاحَتِهَا
والقدسُ تسألُ أينَ الدينُ والعَرَبُ

ونَحْنُ في غفلةِ الأوهامِ يَحجبُنَا
عن وارياتِ العُلا البهتانُ والكَذِبُ

هلْ نَفْرَةٌ كهزيمِ الرَّعْدِ هَادِرَةٌ
يَشدُّهَا الجامِحَانِ: الثأرُ والغَضَبُ

تنهارَ تَحْتَ صَدَاها كُلُّ قَنْطَرَةٍ
جوفاءَ ينخرُ فيها الضَّعْفُ والعَطَبَ

* * *
يا موطنَ الوحي ما لي مِنْبَرٌ أَنِفٌ

إلاَّكَ حُرٌّ، وما لي مِقْوَلٌ ذَرِبُ
على ثراكَ الدَّمُ المسفوحُ وحَّدَنا

وفي حِمَاكَ دعانا الشِّعْرُ والأدبُ
وقِيلَ أينَ ؟ فقلنا نَحْوَ شاهِقَةٍ

من البيانِ نَمَتْهَا السبعةُ الشُّهُبُ
إلى الذي سَاجَلَ الفُصْحَى روائعَها

وقال منكِ إليكِ الفتنةُ العَجَبُ
إلى الذي رَقَّ فأنسابَتْ قصائدُهُ

مع النسيمِ ومال الزَّهْرُ والعُشُبُ
ومَسَّ كأْسَ الطِّلَى فالخمرُ والِهَةٌ

نشوى ويرقصُ في أطرافِهَا الحَبَبُ
صَبٌّ أخو غَزَلٍ هيمانُ مسرحهُ

سهلُ الهوى وروابي السِّحْرِ والشُّعَبُ
تأنَّقَ الفنُّ في ناديهِ يَحملهُ

إلى الجَمَالِ خَيَالٌ جَامِحٌ يَثِبُ
واسْتَكْبَرَ الرِّيفُ واخْضَلَّتْ جوانِبُهُ

واهْتَزَّ من زَهْوِهِ العُنقودُ والعِنَبُ
على المروجِ وفي درْبِ الصِّبَا وعلى

عِرائشِ "السَّقْيِ"، منه وارِفٌ رَطِبُ
وقيلَ أينَ؟ فقلنا نَحْوَ مَنْ هَتَفَتْ

لَهُ المنابِرُ والأعْلامُ والقِبَبُ
إلى فَتَىً عربِيٍّ غَيرِ ذي عِوَجٍ

وقد تَطاولَ فيهِ الفَرْعُ والنَّسَبُ
من " نَخْلَةٍ "، من بني مخزومَ بَاسِقَةٍ

طابَتْ وطابَ الجَنَى والخُوصُ والرُّطَبُ
إذا "الرشيدُ" نأَى عن أُفْقِ منزلةٍ

دَنَا "الأمينُ" فمنحَازٌ ومُقْتَرِبُ
أبا "السَّعيدِ" وكَمْ يَحْلو النداءُ بهِ

حالي كحالِكَ .. نَجْلٌ واحِدٌ وأَبُ
أمْهَرْتُهُ الشِّعْرَ واستلْهمتُهُ فإذا

أرْخَصْتُهُ العُمْرَ فهو الرُّوحُ والسَّبَبُ
أعيشُ فيهِ كَأَنِّي خَالِدٌ أَبَدَاً

تَفْنَى الجُذُوعُ ليحيا بعدَهَا العَقَبُ
* * *

ناشدْتُكَ الحُبَّ هلْ أدْرَكْتَ غايتَهُ
أمْ كُلَّما جُزْتَ شَأْواً أَمْعَنَ الطَّلَبُ

أيَّانَ ترسُو ؟ ودُنياكَ التي عَمُرَتْ
بالحُسْنِ والحُبِّ ما تَنْفَكُّ تَجْتَذِبُ

سَبْعُونَ حَوْلاً منَ الأشْواقِ تَدْفَعُهَا
في لُجَّةٍ منْ أمانٍ موجُها صَخِبُ

عَادَتْ إليكَ وفي أطرافِهَا سَقَمٌ
وقد تَحِنُّ إلى أغمادِهَا القُضُبُ

وَقَفْتَ فوقَ ذُرَاهَا سَيِّداًَ عَلَمَاً
وخلفَكَ الليلُ والأنْوَاءُ والسُّحُبُ

يهْنِيكَ، يهْنِيكَ، هذا العِقْد تَحْمِلُهُ
مُرَصَّعَاً وحُلاهُ الماسُ والذَّهَبُ

جِئْنَا إليكَ وطَرْفُ الليلِ يَلْمَحُنَا
عُشَّاقُ شِعْرِكَ لكنْ بيننا حُجُبُ

خُضْنا الحياةَ من البابِ الذي ازدحمتْ
هُوجُ الرِّيَاحِ بِهِ والعَصْفُ واللَّهَبُ

مَرَاتِبُ الْمَجْدِ ما تَنْفَكّ تلفَحُناَ
وكمْ تَضِيقُ بأَرْبَابِ العُلا الرُّتَبُ

حَسْبُ النُّجُومِ إذا في لَيْلِها ائْتَلَقَتْ
أنْ يرصُدَ النُّورَ فيها الصِّيدُ والنُّجبُ

© 2024 - موقع الشعر