درس في الرسم - نزار قباني

1
يضع إبني علبة ألوانه أمامي
ويطلب مني أن أرسم له عصفورا..
أغط الفرشاة باللون الرمادي
وارسم له مربعا عليه قفل.. وقضبان
يقول لي إبني، والدهشة تملأ عينية:
".. ولكن هذا سجن..
ألا تعرف، يا أبي، كيف ترسم عصفورًا؟؟"
أقول له: يا والدي.. لا تؤاخذني
فقد نسيت شكل العصافير...
2
يضع إبني علبة إقلامه أمامي
ويطلب مني أن أرسم له بحرًا..
آخذ قلم الرصاص،
وأرسم له دائرة سوداء.
يقو لي إبني:
"ولكن هذه دائرة سوداء، يا أبي..
ألا تعرف أن ترسم بحرًا؟
ثم ألا تعرف أن لون البحر أزرق؟.."
اقول له: يا ولدي.
كنت في زماني شاطرًا في رسم البحار
أما اليوم.. فقد أخذوا مني الصنارة
وقارب الصيد..
ومنعوني من الحوار مع اللون الأزرق..
واصطياد سمك الحرية.
3
يضع إبني كراسة الرسم أمامي..
ويطلب مني أن أرسم له سنبلة قمح.
أمسك القلم.
يسخر إبني من جهلي في فن الرسم
ويقول مستغربًٍا:
ألا تعرف يا أبي الفرق بين السنبلة.. والمسدس؟
أقول له يا ولدي..
كنت أعرف في الماضي شكل السنبلة
وشكل الرغيف وشكل الوردة..
أما في هذا الزمن المعدني
الذي أنضمت فيه أشجار الغابة
إلى رجال الميليشيات
وأصبحت فيه الوردة تلبس الملابس المرقطة..
في زمن السنابل المسلحة
والعصافير المسلحة
والثقافة المسلحة
والديانة المسلحة ..
فلا رغيف أشتريه
إلا وأجد في داخله مسدسًا
ولا وردة أقطفها من الحقل
إلا وترفع سلاحها في وجهي
ولا كتاب أشتريه من المكتبه
إلا وينفجر بين أصابعي...
4
يجلس إبني على طرف سريري
ويطلب مني أن أسمعه قصيدة
تسقط مني دمعة على الوسادة
فيلتقطها مذهولًا.. ويقول:
"ولكن هذه دمعة، يا أبي، وليست قصيدة"
أقول له:
عندما تكبر يا ولدي..
وتقرأ ديوان الشعر العربي
سوف تعرف أن الكلمة والدمعة شقيقتان
وأن القصيدة العربية..
ليست سوى دمعةٍ تخرج من بين الأصابع..
5
يضع إبني أقلامه، وعلبة ألوانه أمامي
ويطلب مني أن أرسم له وطنًا..
تهتز الفرشاة في يدي..
وأسقط باكيًا...
جنيف 20/1/1986
© 2024 - موقع الشعر