رقية من صور النكبة - فدوى طوقان

تدلت عن الأفق أم الضياء
ملفعة باصفرار كئيب

وقد لملمت عن صدور الهضاب
وهام التلا ذوي الغروب

وجرّت خطاها رويداً رويداً
وأومت إلى شرفات المغيب

فأطبقن دون رحاب الوجود
وأغرقنه في الظلام الرهيب

وغشي الدجى مهجاتٍ نبضن
بشوق الحياة، بوهج اللهيب

وأخرى تلاعب ثلج السنين
بها فخبت في حنايا الجنوب

وأوغل في حاليات القصور
وأوغل في كل كوخ سليب

فمدّ الجناح على بسمات الشفاه، وفوق جراح القلوب
وضمّ السعيد بأحلامه، وضمّ أخا البؤس نضو الكروب

وفي وحشه الليل، ليل المواجع، ليل المواجد، ليل الهموم
وللريح ولولة في الشعاب

وللرعد جلجلة في الغيوم
وللبرق خفق توالي دراكاً

يشق حجاب الظلام البهيم
بدا (جبل النار) ترب الخلود

له روعة الأزلي القديم
تعالي أشم أمام السماء

يجاذب منها حواشي الأديم
كأن ذراه رفعن هناك، على الأفق، متكأ للنجوم

وكان وراء غواشي الدجى
رهيب السكون عميق الوجوم

تحسّ به رجفة الكبرياء الجريحة والعنفوان الكليم
وفي قلبه النار مبكوت الزفير، فيها للهيب الكظيم!!

هنالك، في سفح مهد البطولات، والمجد، والوثبات الكبر!
هنالك؛ تحت الضباب المسف، والأرض غرقى بدفق المطر

كأن الرحاب العلي بعيون السحائب تبكي شقاء البشر..
هنالك ضمّ (رقية) كهف

رغيب عميق كجرح القدر
تدور به لفحات الصقيع

فيوشك يصطكّ حتى الصخر
وتجمد حتى عروق الحياة

ويطفأ فيها الدم المستعر
(رقيّة) يا قصة من مآسي الحمى سطرّتها أكفّ الغير

ويا صورةً من رسوم التشرد، والذل، والصدعات الآخر
طيغى القرّ، فانطرحت هيكلاً

شقيّ الظلال، شقي الصور!!
تعلق شيء كفرخٍ مهيضٍ

على صدرها الواهن المرتعد
وقد وسدت رأسه ساعداً

وشدّت بآخر حول الجسد
ولو قدرت أودعته حنايا الضلوع، وضمّت عليه الكبد!

عساها تقيه بدفء الحنان
ضراوة ذاك المسا الصرد

وعانقها هو يصغي إلى
تلاحق أنفاسها المطرد

وكانت خلال الدجى مقلتاه
كنجمين ضاءا بصدر الجلد

تشعان في قلبها المدلهم
فيوشك في جنبها يتقد

وغمغم: أم؛ وراحت يداه
تعيثان ما بين نحرٍ وخد

فأهوت على الطفل تشتمّ فيه
روائح فردوسها المفتقد

وفي مثل تهويمة الحالمين
وغيبوبة الأنفس الصافية

أطلّت على أفق الذكريات
وفي عمقها لهفة ظامية

تعانق بالروح طيف الديار
وتلثم تربتها الزاكية..

وتبصر في سبحات الخيال
ملاعبها الرحبة الحانية

وأفياءها الدافئات وتلك
الدهاليز في الروضة الحالية

ومن هاهنا ظلة الياسمين
ومن هاهنا ظلة الدالية

وإل الحياة يشيع الحياة
بأجواء جنّتها الهانية

فيا دار ما فعلته الليالي
بأشيائك الحلوه الغالية

وربك، كيف تهاوت به
يد البغي والقوة الجانية؟

ومرَّ على قلبها طيف يوم
دجى الضحى، عاطف مربد

وقد نفرت في جموع الإباء
نسور الحمى للحمى تفتدي

دعاها نفير العلي والجهاد
فهبّت خفافاً إلى الموعد

تذود عن الشرف المستباح
وتدفع عنه يد المعتدي

وتقتحم الهول مستحكماً
وتسخر باللهب الموقد

فتنقض مثل القضاء المتاح
وتهبط كالأجل المرصد

وليست تبالي وجوه الردى
كوالح في الموقف الأربد

فيها للحمى، كم حمي أبيّ
تجدلّ فيه، وكم أصيد

أباحوا له المهج الغاليات
وأسقوا ثراه دم الأكبد

وطالعها في رؤى الذكريات
فتاها نجيّ العلي والطماح

إباء الرجولة في بردتيه
وزهو البطولة ملء الوشاح

يشدّ على الغاضب المستبد
ويضرب دون الحمى المستباح

ويلقى عراك المنايا وجاهاً
ويكتسح الهول أي اكتساح

وتعرف منه الوغي كاسراً
قوي الجناح، عنيد الجماح

يخط على صفحات الجهاد
سطور الفدى بدماء الجراح

نبيل الكفاح إذا الخصم راع
ومن شرف الحرب نبل الكفاح

فيا من رأى النسر تجتاحه
وتلوي به بفتات الرياح

تهاوى صريعاً وأرخى على
حطام أمانيه ريش الجناح!

وفاضت لواعجها، لا أنيناً
جريحاً ولا عبرة زافرة

ولكن زعافاً من الحقد والبغض
والضغن والنقم الغامرة؟

متى يشتفي الثأر؟ يا للضحايا
أتهدر تلك الدماء الطاهرة

ويا للحمى! من يجيب النداء
نداء جراحاته النافره

وقد أغمد السيف، لا رد حقاً
ولا أطفأ الغلة الساعرة!

تململ في حضنها فرخها
فضمّته محمومة ثائرة..

ومالت عليه وفي صدرها
مشاعر وشية هادره..

لترضعه من لظى حقدها
ونار ضغائنها الفائرة..

وتسكب من سمّ خلجاتها
بأعماقه دفقةً زاخره!

هنا جلا (النار) كان يطوّف
حلم بأجفانه الساهره

تغاديه فيه طيوف نسورٍ
تغلب بأفق العلي طائره

مخالبها راعفات.. وملء
جوانحها نشوة ظافره

وبرد التشفي بثاراتها
وراء مناسرها الكاسره!

© 2024 - موقع الشعر