ثلاثة أناشيد - فاديا غيبور

النشيد الأول
أنا لست أدري كيف يأسُرني الندى لمّا تجيءُ
فتنحني سحبٌ وأنواءٌ على عمري وينهمرُ المطرْ
أنا لستُ أدري كيف صرتَ بعالمي ورداً خرافياً
يرشّ عبيرَه فوقَ المساكبِ والشجرْ
أنا كلُّ ما أدريهِ أنكَ
كنتَ في حلمي البهاءَ المنتظرْ
رتبْتَ أوراقَ الهوى ونثرتَها في كلِّ منعطفٍ
وأغويتَ القمرْ..
حتى إذا دلَّى إليكَ خيوطَهُ فكتبتَها تعويذةً
صعدَ الضياءُ إلى دمي
وهمَتْ بأعماقي منَ الغيبِ الصورْ..
أنا يا صديقَ العمرِ لم أطوِ القصائدَ.. لا
ولا أخرجتُ وجهَكَ من أناشيدي المضيئة
كحلاً حملتُكَ بين أهدابي..
وأغمضْتُ العيونَ على رؤى الأمسِ البريئةْ..
أيام كنتَ ترشّ عطرَك فوقَ أوراقي
وتوقدُ في دمي سحباً دفيئةْ
فأصيرُ بين يديكَ أغنيةً وغابةَ أقحوانْ
وأغذُّ أشواقي إليك صغيرةً حمقاءَ
تيّمَها تألقُ ناظريك
كم مرةٍ أغفَتْ وقد نسيَتْ ضفائرَها
تنامُ على ضلوعِكَ أو يديكْ!
أذكرتْها؟
أم أنَّ ميراثَ العذابِ وسرّهُ
مازالَ مُحتملاً لديكْ؟
أطلقْ عصافيرَ الهوى
وانثُرْ لها من قمحِ قلبكَ قبضةً..
أو عشبةً بريةً كي تبتدي أغصانَها
وترفُّ في ولهٍ ربيعيٍّ –إذا طربَتْ- عليكْ..
أنا لستُ أدري كيفَ يأسرُني الندى..
أنا.. كلّ ما أدريهِ أن حبَّك قاتلي
منذ ابتدأتُ إلى مدائنكَ.. السفرْ
أدمنتُ حبك.. لست أنكرُ
غيرَ أنّي عندما أدركتُ أنك تبتغيني
فكرةً أو دميةً
ألقيتُ قيدي.. وانطلقتُ
إلى المدى الممتدِّ بين طفولتي
وتورّدِ الرّمان في وطني
وأشهرْتُ العواصفَ
فوق أشرعةِ السفرْ
- النشيد الثاني-
أنا لست أدري كيف
تأسرُني تفاصيلُ البلادِ وأهلِها
أو كيف تحملني مضاربُهم إلى زمنِ الغناءِ
فأنثني نحوَ اخضرارِ قصائدي الأولى
وأبحثُ في الفصولِ الحمرِ عن وردٍ
تبعثرُه الجراحُ
على تخومِ القلبِ مرتحلاً إلى نزفٍ حنونٍ دافئٍ
كالأرضِ.. إنْ مدّتْ إليها غيمةٌ أزهارَها
سكرتْ بها..
وتضرَّجتْ وتبرّجَت وتأرَّجتْ
وتفتحتْ قبَلاً
تخبئُها شفاهُ الأرجوانْ
يا أيّها الوطنُ المرافئُ والمدائنُ
والحدائقُ والحرائقُ والجنانْ
حتامَ يُتعِبُكَ الرِّهانْ؟
حتام ترسمُكَ القصائدُ بينَ أسئلةِ المدى؟
وأنا أنادي والصدى يرتدُ..
يتبعُهُ الصدى:
يا أنتَ.. يا وطنَ القيامةِ والشهامةِ والفدا
عُدْ بي إلى زمنٍ يعلقُ حاضري في ملتقى مطرينِ
من ماءِ السماءِ ومن دماءِ الواقفينَ
على تخومِ الأرضِ كالأشجار ينتظرونَ بعثاً
كي يعودوا مرةً أخرى وينهمروا
على حدّ الرجولةِ والبطولةِ.. والندى
هي ذي مياهُ الرافدينِ تعمّدُ الشجرَ الجميلَ
بسورةِ الحنّاء والفجرِ الخضيلْ
هي ذي قوافلُنا تعودُ الآنَ من تيهٍ طويلْ
وتفضُّ أحزانَ النخيلْ
وأنا أعُدُّ سيوفَ منْ عادوا
وألقوا ما تبقى من غبارٍ التيهِ محموماً
على جرحٍ توزّعُهُ المواجعُ بين أغنيتينِ وامرأةٍ
تزغردُ كلما رجعَتْ بها الذكرى إلى تغريبةٍ
قصَّت جذورَ الرملِ وانطلقتْ ترودُ المستحيلْ
وبنو هلال أغمدوا ترحالَهم
والرمحُ في صدرِ القتيلْ
يا أيها الوطنُ الجميلْ
الريحُ تلتهمُ الحجارةَ والسيوفْ
لا عشبَ بينَ الماء والذكرى ولا حلمٌ يطوفْ
فالأرضُ تقترِفُ احتمالَ قيامةٍ أخرى
ويؤرقُها التوجعُ والعويلْ
وتكادُ تصرخُ:
أيها المنذورُ أضحيةً لهذي الأمة الشلاءِ..
إنّ ثمارَ منْ تهوى غدَتْ شهّاءَ
دانيةَ القطوفْ..
تدعوكَ.. عجّلْ بالرحيلْ
-النشيد الثالث-
آتٍ أنا..
ينهلُّ صوتُكَ في مساءاتِ الندامى
كلُّ الأحبة ودّعوا أنخابَهم
عبروا على جسرِ الدماءِ إلى نهاياتِ الألقْ
صاروا قصائدَ في فضاءاتِ العبقْ
وتزمَّلوا أحلامَهم بيضاءَ سابغةَ الشفقْ
وجذى القناديلِ الشغوفةِ أطفأتْ ألوانَها
وتسربلتْ بسنا الطفولةِ والنبوءةِ والورقْ
ماذا لو أنّا لا نُحِبُّ ولا نحاربُ في ميادينِ الورقْ
ماذا لو أنا لا نهوِّمُ في سماءٍ منْ عبيرٍ
ثم نسقطُ بينَ أسئلةِ الأرقْ ؟
آتٍ أنا..
تتبرعَمُ الصرخاتُ فوقَ جراحِ أطفالٍِ تنادَوا
للنهوضِ إلى صباحاتِ التوردِ والبراءةْ
كم شدَّهُم شوقٌ إلى عمرِ المدارسِ والقراءةْ
كم أورقوا.. كم أشرقوا
كم أسرفوا برؤىً مضاءةْ
وتناثروا.. بينَ التوهجِ والفجاءةْ
آتٍ أنا.. لم تأتِ
كلّ الأغنياتِ ترمَّدتْ
كلُّ العصافيرِ الصغيرةِ مزقَت أصواتَها
وتمزّقتْ
ورمى المُغني في انكسارِ الرملِ مُحتَضَراً
حُداءهْ..
لم يبقَ وقتٌ للرهانِ على البنفسجِ والطفولةْ
لم يبْقَ وقتٌ للبكاءِ على نَسيسِ الروحِ
في مهوى جديلة..
فلمنْ ألمُّ دمي وأطلقُ أمنياتي؟!
لا الحلمُ ينقدُ ما تبقى من عبيرِ الأمسِ
لا مطرٌ يبرعمُ ذكرياتي
هل كان حبي لاخضرارِ الأرضِ بعضَ المستحيلْ؟
أم كانَ إيغالُ التأرّجِ في شراييني
بقيةَ كذبةٍ صدقتُها عمراً فصارتْ
مشتهى قدري حياتي؟
أنا كم منحْتُ الحلمَ أغنيتي وَذاتي
ولكمْ جعلتُ القلبَ مهداً للمحبةِ والصلاةِ
آتٍ أنا.. لم تأتِ
لكنّ المدينةَ أشرعَتْ أبوابَها
لصدى ربيعِكَ وهو يهمِسُ ذاتَ ثلجٍ
سوف آتي
سوف آتي
سوف آتي
© 2024 - موقع الشعر