لا يَغُرَّنَّكُمْ مَدْح وَلا يَضُرَّنَّكُمْ قَدْح

للكتاب: أشرف الصباغ،


#لا يَغُرَّنَّكُمْ مَدْحٌ وَلا يَضُرَّنَّكُمْ قَدْحٌ#
بَعْدَ خِتَامِ مَوْسِمِ عِلْم.
بَعْدَ عَامٍ مِنَ الأحْلام.
انْفَضُّتْ سُوقٌ، مَا أَكْرَمَهَا مِنْ سُوق!
وَتَفَرَّقَتْ صُحْبَةٌ تَجَمَّعَت بالحِلْمِ عَلَى مَوَائِدِ العِلْمِ.
وَبَعْدُ ...
هَلْ يِنْقَطِعُ عَنَّا اكْتِسَابُه، أَوْ نَنْقَطِعُ عَنْ رِحَابِه؟
هَلْ تَبْعُدُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ الشُّقَّة؟ أَمْ يَسْتَمِرُّ الوِصَالُ مَعَهُ دُونَ مَشَقَّة؟
أَقُول:
العِلْمُ نورٌ، والجَهْلُ دَيْجُورٌ، وشتَّانَ بَيْنَ عَالِمٍ وجَهُول، وَلا يَسْتَوِيَ في مِيزَانِ العَدْلِ مُجْتَهِدٌ وَكَسُول .
وَشَتَّانَ بينَ إحْسَاسٍ يبُثُّ الأمَلَ فِي النَّاس، وإِحْسَاسٍ يبْتُرُ العَمَلَ وَيقْطَعُ الأنْفَاس.
وشَتَّانَ بينَ ارْتِقَاء الرُّوح بجُهْدٍ مَمْنُوح، وَصِغَرِ الحَجْم مَعْ ضَعْفِ العَزْم.
وشتَّانَ بينَ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِكَ لِتَنْهَضَ مِنْ دَرَكَاتِ الهُبُوط، ومَنْ يَزُجُّ بكَ فِي ظُلُمَاتِ القُنُوط.
وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ المسَافَةَ بَيْنَ طُمُوحِكَ وَاسْتِصْغَارِ هِمَّتِكَ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض.
فَأمَّا طُمُوحُك بِمَا يُحْيِي فِيك رُوحَ الأمَلِ الذِي يُنَافِي اليَأْس، فَهُوَ مَطْلَبٌ شَرْعِيّ، وَمَطْمَعٌ قَلْبيّ، إنِ اسْتَوْفَيْتَهُ فَقَدْ أَحْرَزْتَ بِهِ أَجَلَّ السِّمَات، وَأَجْمَلَ الصِّفَات.
وَكَمَا قِيل: "بِقَدْرِ مَا تَتَعَنَّى، تَنَالُ مَا تَتَمَنَّى".
وَأَمَّا اسْتِصْغَارُكَ نَفْسَكَ بِمَا يُلْقِي بِكَ فِي دَيَاجِيرِ الذُّلِّ، وَغَمَرَاتِ الانْكِسَارِ، وَغَيَابَاتِ اليَأْس، فَهُوَ مَرْدُودٌ مَرْفُوض، لا تَشْفَعُ لَكَ الحُجَّة، وَلا تَنْفَعُكَ المَحَجَّة.
وَللهِ دَرُّ النَّاصِح:
وَمَنْ يَتَهَيَّبْ صُعُودَ الجِبَالِ * * * يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر
وَالمُعَلِّمُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ وَهُمْ عَلَى طَبَقَات:
فَمِنْهُمْ مَنْ تَنَسَّمَ الدَّرَجَات، وَمِنْهُمْ مَن اسْتَبَدَّتْ بِهِ الدَّرَكَات، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَتْ نَفْسُهُ، وتَذَبْذَبَتْ حَالُهُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ.
وَالعَاقِلُ مَنْ يُصَنِّفُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ أَوْ جَفَاء.
وَللهِ دَرُّ الحَكِيم:
وَإَذا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا * * * تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأجْسَامُ
وَحِينَ تَرَى نَفْسَكَ فَرْدًا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ بَيْنَ المَلايينِ الَّتِي يَعُجُّ بِهِمْ مَيْدَانُ التَّعْلِيم فَقَدْ قَتَلْتَ نَفْسَك، وَذَبَحْتَ هِمَّتَك بِسِكِّينٍ حَاد.
فَالمَيْدَانُ فَسِيح، مِنْ دُونِ تَجْرِيح.
وَلَكِنْ ...
مَتَى تَسْتَنْهِضُ عَزِيمَتَك؟
مَتَى تُفَجِّرُ طَاقَتَك؟
مَتَى تَبْحَثُ فِي نَفْسِكَ بِنَفْسِكَ عَنْ مَوْطِنِ قُوَّة، يَأْخُذُ بِيَدِكَ مِن الهُوُّة؟
فَقِيمَةُ الإنْسِانِ فِي المَيْدَانِ بِعَمَلِهِ لا بِحَجْمِه، وَلَنْ تَعْدِمَ ـ أيُّهَا العَاقِلُ ـ فِي نَفْسِكَ مَوْهِبَةً تَنْفَعُك، أَوْ خِبْرَةً تَرْفَعُك.
فَالمَيْدَانُ فَسِيح، مِنْ دُونِ تَجْرِيح.
وَقَدْ أَنْصَفَ القَائِلُ إِذْ يَحُثُّك:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ * * * وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
وَبِنَظْرَةٍ عَمِيقَةٍ فِي مَيْدَانِ المَاضِي، تلُوحُ فِي الآفَاقِ مَقَالةُ القُدمَاءِ مِنَ الحُكَمَاء: التَّعْلِيمُ أَشْرَفُ صِنَاعَة، وَأَرْبَحُ بِضَاعَة، وَأَنْجَعُ شَفَاعَة، وَأَفْضَلُ بَرَاعَة، وَرَبُّهُ ذُو إمْرَةٍ مُطَاعَة، وَهَيْبَةٍ مُشَاعَة، وَرَعيَّةٍ مِطْوَاعَة، يُسَيْطِرُ تَسَيْطُرَ أَمِير، وَيَرَتِّبُ تَرْتِيبَ وَزِير، وَيَتَحَكّمُ تَحكُّمَ قَدِير، وَيَتَشَبّهُ بِذِي مُلْكٍ كَبِير.
وَلا يُنَبّئكَ مِثلُ خَبِير، تِلكَ حَقِيقَةُ التَّعْلِيمِ قَدِيمًا.
وَبِنَظْرَةٍ دَقِيقَةٍ فِي مَيْدَانِ الحَاضِر، تلُوحُ في الآفَاقِ مَقَالةُ المُعاصِرين مِنَ المَسْؤُولِين: التَّعليمُ وَزَارَةٌ مُسْتَهْلِكَة، وَالمُعَلِّمُونَ وَالطُّلابُ يَخْرُجُونَ مِنْ مَعْرَكَةٍ إِلَى مَعْرَكَة، وَغَدَتِ المِهْنَةُ مِحْنَة، وَالعَمَلُ بِغَيْرِهَا فِطْنَة، والفِطْنَةُ فِتْنَة، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ بِالمُجْتَمَعِ عِنَايَة، وَكَمْ أَضَرَّتِ العِنَايَةُ الوَاهِيَةُ فَبَاتَتْ فِي حَقِّ الأجْيَالِ جِنَايَة، وَكَمْ مِن تَجْرِبَةٍ صَارَتْ كُرْبة.
والنُّفُوسُ مَائِلةٌ إِلَى أَشْكَالِهَا كَمَا الطُّيُورُ وَاقِعَةٌ عَلَى أَمْثَالِهَا، حَتَّى نَطَقَ الحَقُّ كَالبَرْق، رَدًّا عَلَى مَنِ اشْرَأبَّ بِرَأْسِه، وَرَفعَ عَقِيرَتَه مُطَالِبًا بِالمُسَاوَاةِ بِالعَالَمِ المُتَقَدِّم، فَجَاءَ الجَوَابُ مُدوِّيًا مَلأ أسْمَاعَ الدُّنْيَا إلا أَسْمَاعَ المُغْرِضِين.
هَلِ البِيئةُ كَالبِيئَة ؟ لا.
هَلِ الجِيلُ مِن الطُّلابِ كَالجيل؟ لا.
هَلِ الرَّعِيلُ مِن المُعَلِّمِينَ كَالرَّعِيل؟ لا.
فَبَاتَتِ التَّجْرِبَةُ عِبْرة، وَلِكُلِّ سَبِيلٍ دَلِيل.
أَيُّهَا المُعَلِّمُ:
كُنْ ذَا دَوْرٍ مُشْرِقٍ مُثْمِرٍ فِي مَعَايَشَةِ حَيَاةِ الأجْيَال عَلَى كُلِّ حَال، فِي ضَوْءِ مَعْرَفَةٍ رَاسِخَةٍ بِنُفُوسِهِمْ التِي تَتَفَاوَتُ فِي مَيُولِهَا نَحْوَ أَهْدَافِهَا، عَلَى اخْتلافِ قَدْرِهَا وَقِيمَتِهَا، فَاعْمَلْ عَلَى بِنَاءِ شَخْصِيَّاتِهِم، وَتَنْمِيَةِ خِبْرَاتِهِم، وَتَوْعِيَةِ أَفْكَارِهِم، وَتَعْدِيلِ سُلُوكِهِم، وَتَوْجِيهِ مِيُولِهِم، وَمُعَالَجَةِ مُشْكِلاتِهِم، وَغَرْسِ القِيَمِ الإيجَابِيَّة فِي قُلُوبِهِم، وَإِحْيَاءِ الأمَلِ فِي نُفُوسِهِم، وَذَلِكَ بِحُسْنِ التَّفَقُّد، وَجَمِيلِ التَّعَوُّد، وَكَرِيمِ التَّعَهُّد، وَالتَّنْشِئَةِ عَلَى حُبِّ التَّخلُّقِ بِالفَضَائِل.
كَمَا تَقْتَضِي مُعَايَشَةُ حَيَاةِ الطُّلابِ دَيْمُومَةَ التَّوَاصُلِ؛ لِتَحْوِيلِ الطَّاقَاتِ المُتَرَهِلَّة، وَالهِمَمِ المُتَقَاعِسَةِ إِلَى عَمَلٍ إيجَـابِيٍّ وَسَعْيٍ حَثِيثٍ وَقْتَ الصَّيْفِ دُونَ حَيْف، وَالانْتِقَـال مِنْ طَوْرِ مُجَرِّدِ التَّوَقُّعَـاتِ وَالانْشِغَالِ بِالإرْهَاصَاتِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ إِلَى عَمَلٍ جَادٍّ دَؤُوبٍ بِالاجْتِهَادِ فِي طَرْقِ أَبْوَابِ الخَيْر.
وَاعْلَمْ أَنَّ الإنْصَافَ أَحْسَنُ الأوْصَاف.
وَأَعْدَلُ النَّاسِ مَن أَنْصَفَ عَقلَهُ مِنْ هَوَاه.
وَشتَّانَ بينَ مَقَالةِ سَلَفٍ تَمْدَح، وَمَقَالَةِ خَلَف تَقْدَح.
فَأَيُّ وَصْفٍ يُحْمَد؟
وَأَيُّ كَلامٍ إِلَى الحَقِّ أَرْشَد؟
أيُّهَا المُعَلِّمُ المُتَعَلِّقُ بِمَدْحِ المَاضِي:
أيُّهَا الطّالِبُ المُتَمَلِّقُ مِنْ قدْحِ الحَاضِر:
طِيبُوا نُفُوسًا، وَقَرَّوا عُيُونًا، وَلا يَغُرَّنَّكُم مَدْحٌ، وَلا يَضُرَّنَّكُم قدْحٌ، وَلْيَكُنْ إِقْدَامُكُم تَوَكُّلا، وَإِحْجَامُكُم تَأَمُّلا، وَلا تَسْتَجِيبُوا لِوَسَاوِسِ لَذَّاتِكُم، وَانْشَغِلُوا بِعِمَارَةِ ذَاتِكُم.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُم إِذَا نَشَدْتَم الخَيْرَ فِي رِيَاضِ التَّرْبِيَةِ وَجَدْتَمُوه، وَمَتَى طَلَبْتُم الحَقَّ فِي أَنْوَارِ الِعِلْمِ أَصَبْتُمُوه.
فَرِفْعَةٌ عِنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ خَيْرٌ مِنْ رِفْعَةٍ عِنْدَ النَّاسِ أَجْمَعِين.
قَالَ اللهُ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُه: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ).
بقلم / أشرف الصباغ

© 2024 - موقع الشعر