محاكاة (الأرض الخراب لإليوت) شعراً! - أحمد علي سليمان

نِيسانُ يا أقسى الشهور بكَ الدُّنا
فجِعتْ ، وسَربلها التدهورُ والفنا

والليلكُ الفِضيُّ أظهرَ ما اختفى
مِن مَيتين يُزخرفون الأحصُنا

هو يَمْزجُ الذكرى برغبة مَن رَثى
لرحيل أرواح تعافُ الأبدُنا

ويَبُث في عَضُدِ الجُذور أريجَه
ويُذِيبُ في مطر الربيع شَذى المُنى

ويُرَجِّعُ الذكرى ، ويُردِفها الصَّدى
ليُزيلَ إحساساً كئيباً محزنا

نِيسانُ يُقبِلُ ، والحياة مَريرة
والأرضُ يُؤلمُها التخلفُ والضنا

وتعيشُ أسوأ حِقبة ما عايشتْ
مثلَ الذي تلقاهُ – صِدقاً - أزمُنا

ويموتُ قومٌ لا سبيلَ لدفنهم
فالأرضُ ضنتْ أن تُقدِّمَ مَدفنا

جُثثُ الضحايا تستجيرُ بمَن حَيا
أيُكَذبُ العقلاءُ يوماً أعيُنا؟

أوَما بصُرتُم بالحُتوف تُحِيلنا
مِزَقاً تَجاوزَ خُبْرُها سَمْعَ الدُّنا؟

*******************
*******************

حَلَّ الشتاءُ بدِفئه المتفردِ
وبثلجه مثلَ الخِضَمِّ المُزبدِ

وكسا الدِّيارَ بثلجه وغيوثه
وحُلوله في الأرض مُبتشِرٌ نَدي

وبدِفئه عَمَّ الخلائقَ باذلاً
جُوداً بِرِيٍّ مُستفيض مُرفِد

فإذا بأوروبا تعيشُ شتاءها
فيُعيدُ بارقة الشبابِ الأغيَد

وإذا الصَّقِيعُ ، وقد قلتْهُ بُرودة
ومضى يُرَحِّبُ بالكِرام الرُّوَّد

والزرعُ هَشَّ وبَشَّ يَشكرُ راضياً
والوَردُ أشرقَ في المُناخ العَسجدي

والزهرُ أرسلَ عِطرَهُ غَرِدَ الشذى
يُلقِي السلامَ بِرُقية المتهجد

وحياتُنا رغم الشتاء ضئيلة
إن قورنتْ بالحال يُصبحُ في غد

حتى الوهاد تمايلتْ دَرَناتُها
رغم اليُبوسَة واحتلال المُعتدي

فالماءُ غذى كلَّ نبتٍ يانع
في ذي الوهاد ، أو استمى في الأنجُد

*******************
*******************

والصيفُ فاجأنا بتعطير الفضا
وبزخة المطر الغزير تمضمضا

و(سْتارْنْ بيركرُ) رحَّبَتْ بقدومه
والبَرقُ مِن بين السحائب أومضا

وهنا توقفنا لنصلحَ شأننا
ما اسطاعَ فردٌ واحدٌ أن يركُضا

للصَّيف حِصَّتُهُ ، ونحن نحِبُّها
لا شيءَ أجملُ في الحياة مِن المَضا

ومَسِيرُنا بعد الشُّروق مُفضَّلٌ
والرَّكْبُ عند (الهُوفكارتْنِ) تعرضا

ثم احتسينا قهوة لتُفِيقنا
والبعضُ نوَّعَ في الحديث ، وفضفضا

والذكرياتُ تشُوقنا أحداثها
عهدُ الطفولة في الحقيقة ما انقضى

ما أجملَ الماضيْ يُطِلُّ بحُسْنه
ما أعظمَ الإنسانَ يَذكرُ ما مضى

مَن فات ماضيَهُ فلن تلقى لهُ
مستقبلاً فيه الكرامة والرِّضا

زلاقة الأطفال تُبهجُ خاطري
وابنُ العُمومة بالتنزه فوِّضا

*******************
*******************

والشمسُ تُشرقُ تارة وتروحُ
وتُنيرُ درباً أظلمتْه الريح

والدُّوحُ مَيِّتة تعشقتِ الرَّدى
وبلا حياة كم تُساوي الدُّوحُ؟

حتى الجَنادبُ لم تُحَصِّل قوتها
وعلى الصُّخور دَمُ الوَرى مَسفوح

لا صوت ماءٍ يَجتني أثرَ الفنا
وهواءُ عالمنا الجريح شحيح

وأنا أطالعُ في كتابي قصة
منها عُفونُ المَيتين تفوح

وحُطامُ أصنام يُؤرِّقُ ناظري
وغزا المَرابعَ طارقٌ منبوح

وجُذورُ أعشاب تُصارعُ موتها
لم يبق إلا حَنظلٌ والشيح

والظلُّ يأبى أن يُزايلَ دارنا
وبكل بيتٍ جَندلٌ وضريح

صُورُ الدمار تعدَّدَتْ ، وأمَرُّها
بلدٌ تُبادُ ، وشعبُها مذبوح

ما هذه الفوضى؟ وكيف عِلاجُها
هذا المسارُ أما له تصحيح؟

*******************
*******************

وأصابني خوفٌ طغى وتوالى
ورأيتُ (ماري) تستريبُ مآلا

فهتفتُ: (ماري) جالدي وتمسَّكي
إن البلاء – على الدِّيار - تمالى

يا طفلتي لا تجزعي مهما جرى
طوقُ النجاة يُريدُ منك نوالا

ثم انحدرتُ أنا و(ماري) مِن عَل
والكف كم حملتْ حصىً ورمالا

إن الجبال تُعِيرُنا حُرِّيَّة
تهبُ النفوسَ تعففاً ودَلالا

وقضيتُ ليلِي ، والبشجونُ تلفني
وإذا الصباحُ أتى هجرتُ شمالا

ثم اتجهتُ إلى الجنوب مُيَمِّماَ
وجهي إليه ، إذ العذابُ توالى

لم آلُ جُهداً في مُصارعة الأسى
والنفسُ تنبضُ همة وجَلالا

فلربما انتعشَتْ أمان أمحَلتْ
ولربما قلبي هوى الآمالا

هذي الإرادة ما خفرتُ جوارَها
هي للرجال ، فلا تحب عِيالا

*******************
*******************

ويحَ النفاياتِ اجتمعْن تكلفا
وسئمتُ منظرَها البليد المُقرفا

هي بالدِّماء تلطختْ أكياسُها
أرأيت كِيساً بالدِّماء مُغلفا؟

قالوا: توشَّحَ بالجريمة طالبٌ
قتلَ الأميرَ وحارسيه ، وعجرفا

وتورَّطتْ دولٌ ، فغالت بعضها
سبعون قطراً ، والإخاءُ استنكفا

دخلوا جميعاً حربَهم وتشرذموا
والرُّشْدُ غابَ ، وعقلُ من حضروا اختفى

في أربع السنوات هَيجا نُظمتْ
واستقطبتْ جيلاً إلى السُّوآى هفا

ونتائجُ الهيجاء تصعقُ قارئاً
وبلا مبالغةٍ ، فسِفرٌ صُنفا

عشرون مليوناً بها قد قتِّلوا
خبرٌ أراهُ برغم أنفيَ مُؤسفا

عشرون مليونا جراحُهُمُ اشتكتْ
أصحابُها طلبوا مِن المولى الشفا

ونظيرُهم أسرى بَدَتْ أصفادُهم
عاراً يبوءُ به عدوٌ أجحفا

*******************
*******************

والصخرة الحمراء في البيداء آية
ووراءها سِرٌ له أشقى حِكاية

ولسِرِّها من تحتها لغزٌ خَفِيّ
يَحكي لناظرها المُخطط والجناية

ليس احمرارُ اللون صِبغاً أو طِلا
لكنْ دماءٌ صَوِّرتْ حجم الإذاية

سأريك أسفلها تراباً خائفاً
مما جرى فوق التلال مِن النكاية

وتهبُّ ريحُ خضوعنا نحو الحِمى
وكأنه وطنٌ يَعيشُ بلا حِماية

أين الحُماة؟ أما دَرَوا بمُصابنا
أين التصَدُّرُ للعِدا؟ أين الولاية؟

وفتاة (إيرلندا) توَدُّ لقاءَنا
يا طفلتي الحسناءَ قد نأتِ اللقاية

لا وقت للتحنان ، شَبَّتْ بيننا
فِتنٌ تموجُ ، وليس لي منها نجاية

لم نقترفْ إثماً ، ولكنْ حظنا
والسِّرُّ مخبوءٌ ، وليس لنا دِراية

فعساكِ تنتظرين مثلي فرصة
فيها تكونُ لِمَا نلاقيه النهاية

*******************
*******************

حتى الزنابقُ قضَّ مَضجَعَها الأسى
هل كل زنبقةٍ شكتْ عِرقَ النسا؟

ذبلتْ وآلمَها القِطافُ ، فما زهتْ
وبَكَتْ مدامعُها الشذى والنرجسا

ونظرتُ في قلب الضياء مُؤمِّلاً
خيراً يُجَنبُنا المصيرَ الأتعسا

والعينُ خانتْني ، وأطرقَ ناظري
والقلبُ مما حلَّ بالدنيا قسا

لم يَبق فيه تعلقٌ بحياته
من بعد حَصْدِ الموت هذي الأنفسا

حتى أنا لا مَيْتَ يرحمُنى الرَّدى
أو حَيَّ يَشعرُ بالمظالم والأسى

أنا لستُ أعرفُ ما يُحاكُ ، فأهتدي
وسألتنُ (روما) عن (فرانزَ) ورودسا

ألأجل فردٍ تُستباحُ ممالكٌ
ويُبادُ أطفالٌ وتُغتصَبُ النسا؟

وكأنها حربُ (البَسوس) تجدَّدَتْ
تعسَتْ ، وخيِّبَ في الورى مَن هندسا

في نصف قرن حربُهم لنوَيقةٍ
وأديمُهم بدماء مَن قتلوا اكتسى

*******************
*******************

والبحرُ ودَّعَ في الدُّجى الأسماكا
وعلى رحيل الظاعنين تباكى

يا بحرُ دمعُك في النوازل مُهدَرٌ
رُحماك يا بحرَ العنا رُحماكا

فمتى يجف الدمعُ أذبلَ أعيُناً؟
ومتى إذا ابتسمَ الزمانُ أراكا؟

لم ذِعت سِرَّك يا خِضمُّ لمَن بغى؟
أتؤمِّلُ الخيراتِ في أعداكا؟

وأراك مما كنت تحوي خالياً
يا بحرُ مَن للرَّاحلين سِواكا؟

أدري بأنك لا يروقك ما جرى
وبكيت حتى أذبلت عيناكا

والماء أحمرُ مِن دماءٍ أهدرتْ
وطفتْ جُسومٌ ألجأتْ لحِماكا

عدمتْ قبوراً ليس تنشُرُ سِرَّها
وأتتْك يعلمُ سرها شطاكا

يا بحرُ رفقاً بالضحايا ، واتئدْ
فالرفق يُعقِبُ عاجلاً نعماكا

حاشاك أن تبقى خلياً موحشاً
حاشاك تزجر لاجئاً حاشاكا

*******************
*******************

ولمستُ في (سُوسُوسْتريسَ) رُضوخا
عَرافة قد ألّهتْ مَردوخا

بَصَّارة لا تهتدي في غيِّها
وتُزَوِّرُ المَعقولَ والتاريخا

بَرَّاجَة أبراجُها مَكذوبة
تُزجي الزيوفَ ، وتُشهِرُ التبريخا

وزكامُها وافى بما كسبتْ يدٌ
سُوسُو التي نصبت فِرىً وفخوخا

خانتْ عقاقيرٌ تودُّ شِفاءها
بعد الدواء تناولتْ بطيخا

قالوا: حكيمتُهم وقلت: سَفيهة
تخِذتْ من الوَرَق الخبيثِ نسُوخا

حتى تُضَللَ مَن يَرومُ عَرَافة
دَسَّتْ ببعض علاجها الزرنيخا

أهدَتْ لملاح وُريقته التي
نشدَتْ لخط الترَّهات شُيُوخا

سَلْ (بيلادونا) عن مخارفها التي
قلَتِ الصحيحَ ، وساقتِ الممسوخا

وُصِمَتْ بسَيِّدة الصخور جَهالة
والصَّخرُ يلفِظ غبرَة وشُروخا

*******************
*******************

ملاحَ (فينيقيا) ضَلالٌ ما أمرتا
وبَلاؤنا مما أشرت له تأتى

أتُصَدِّقُ العرَّافة افتتنتْ بما
وُصِفتْ به؟ وأراك تهلك إن أطعتا

هذي التخاريفُ التي عُرفتْ بها
أتُراك يا هذا أخِذتَ بما سمعتا؟

مِن نِصف قرن والعجوزُ تُضِلنا
وتلُتُّ ما تَهذي به للناس لتَّا

وتُعِدُّ طبختها ، وتُتقن صُنعَها
وتفتُّ في المَرَق المُذاب الخبزَ فتا

وتُذِيعُ أسراراً ، وتخترعُ الفِرى
وتبُتُّ – إنْ صَدَّقتها – في الأمر بتا

ملاحَ (فينيقيا) دع الأوهامَ ، واصمُدْ
إني نصحتُك لو عملت بما نُصِحتا

أتخافُ مِن (سُوسُو) ومِن تنجيمها؟
بات الذي ذكرتْه تضليلاً ومَقتا

أوَما انتبهت لسُؤلها وفضولها
أسفي عليك إذا لعقلك ما انتبهتا

هي تأخذ الأسرارَ منك تحايلاً
وتُعيدُها نصَّاً عليك ، فهل وعيتا؟

*******************
*******************

إيكوتونُ عاشت من سراب الموت جزعى
لم تستطِعْ للموت عَبْر الماء دَفعا

لعِنتْ وخابتْ تُرَّهاتٌ رَوَّجتْها
وخريطة الأبراج ليست بعدُ دِرعا

والغيبُ غيبُ الله سُحقاً للهوى
أبئسْ بعبدٍ قد أعارَ الزيفَ سَمْعا

إن الأحاجيَ لن تُوَعِّيَ غافلاً
الشيحُ هل يغدو إذا لُكْناه بِتْعا؟

قد ساقتِ الأوهامَ (إيكو) وحدها
واستحمرَتْ أقوامَها جَمْعاً فجمعا

هي لقنتْهم زيفها لمَّا غوَوا
لمَّا يكنْ منهم رشيدٌ ضاقَ ذرعا

وقد استساغوا كل بِدْع مُفترىً
لمَّا يَكنْ ما أحدث الأقوامُ بدعا

هذا قطيعٌ شاردٌ مُستنوَقٌ
قد بيعَ للشيطان والأهواء بيعا

فجْرُ الشتا استعلى ضباباً أسمرا
والناسُ رَبعٌ يَستضيفُ الآن رَبعا

وهناك (إيكو) لا سبيلَ لكشفها
إذ أحسنتْ قولاً وتغريراً وصُنعا

*******************
*******************

ومدينة الوَهم استحالتْ مسرحية
من بعد أن غدَتِ الكروبُ لها هوية

والموتُ دَيدنُها وديدنُ أهلها
والناسُ غرتْم طقوسُ الجاهلية

وتعدَّدَتْ طرُقُ الوفاة: بحَربةٍ
بقذيفةٍ ، بالنار ، أو بالبندقية

في (سْكوبافللوْ) الحربُ شَبَّ أوارُها
والأبرياءُ بساحة الهيجا الضحية

وانسابَ جُمهورٌ غفيرٌ هاربٌ
مِن هذه الفوضى ، وتلك البربرية

في (جسر لندنَ) والجُموعُ تحوطه
يبكون موتاهم ، وما ارتكبوا خطية

حسَراتُهم تكوي القلوبَ ، وتكتوي
مِن وَقعها وأنينها الهممُ العلية

إذ ينفثون ، لهم نحيبٌ مُوجِعٌ
إمَّا علا تهفو إليه الأريحية

ورأيتُ خِلي (سْتتشناً) ، فعرفتُهُ
وسألتُه عن جُثةٍ كانت قصِية

أزرعتَها؟ هل وَرَّقتْ؟ هل أزهرتْ؟
أم قضَّ مَضجَعَها الصَّقيعُ بلا رَوية؟

*******************
*******************

وطغى على الفوضى الضبابُ الأسمرُ
ومِن الضحايا الدَّمُّ ظلماً يَقطرُ

وزجَرْتُ خِلي (سْتتشناً) ألا يَنِي
وليَذكُر الأحداثَ ليستْ تُنكر

ظفِرتْ حديقته بجُثة مَن قضى
ونجا عميلٌ ، واعتدى مُستعمِر

فليُبعِدِ الكلبَ استدلَّ بشمِّهِ
أنْ في الحديقة وجبة تُستثمر

نِعمَ الصديقُ الكلبُ ، لكنْ جُوعُهُ
يُغري شهامته ، فليس يُفكر

كنا معاً فوق السَّفائن نتقي
لهَبَ الرصاص ، ودمعُنا يتحدَّر

وشَمَمْتُ في (إستتشن) أرجَ الوفا
فاق الذي مَنحتْ شذاهُ الأزهُر

عِشنا معاً مأساة جيل كادح
شَهدَ البَوارجَ والدِّيارَ تُدَمَّر

شهدَ الحروبَ ، ولم يكُفَّ جَحيمُها
شهدَ السفائنَ في البحار تُعَسْكِر

وبكى على الإنسان تُزهَقُ رُوحُه
ليَزولَ مَعروفٌ ، ويَحيا منكر

*******************
*******************

مايلي سفائنُها مُصَفدَة كسيرة
تبكي على العُمران والجُثث الكثيرة

وتُوَبِّخ العادين تكشِفُ غدرَهم
وتبُث ذكرى مَن له أدنى بصيرة

مايلي تُدِينُ خنادقاً غدَرتْ بها
وتعيبُ طوربيداتِها غزتِ الجزيرة

ومُدَرعاتٍ دمَّرتْ بُنيانَها
فغدتْ بما ابتُليتْ تُكابدُ مستجيرة

وتُدينُ آلافَ المصانع حُطمتْ
والشعبُ يَجترُّ الحِمامَ بلا جَريرة

وتُدينُ آلافَ المزارع سُوِّيَتْ
بالأرض ، والنيرانُ مُوقدة صَهيرة

وتُدينُ آلافَ الحدائق لم تعدْ
بزيارة السكان عن رغب جديرة

وتُدينُ آلاف المتاجر دُمِّرتْ
ومضتْ رحى الفوضى على ذات الوَتِيرة

مايلي عذرتُكِ ، وانتصرتُ لفكرتي
رغِمَتْ أنوفُ قوىً تُهدِّدُنا مُغِيرة

ذهبتْ إمارتُنا ، وأجهضَ بأسُنا
وإذ اندحرْنا لا أميرَ ، ولا أميرة

*******************
*******************

في لعبة الشطرنج يُقتَلُ بَيدقُ
ليَعيشَ في (رُخ) وزيرٌ أحمقُ

وأريكة (الشاه) الرُّخامُ يَزينُها
ولها قوائمُ فوقهن البيرقُ

و(الكوبيدونُ) له جناحا طائر
والشمعدانُ بناظرَيه مُحَدِّق

وتُضاعِفُ الشعلاتُ نوراً يَجتني
نظرَ الألى حضروا السِّجالَ ، وصَفقوا

وحياتُنا الشطرنجُ خط مسِيرَها
هي أمَّة تحيا وجيلٌ يُمحَق

وانظرْ إلى الشطرنج في جَوَلاته
رأسٌ يعيشُ ، وما عداه فيُشْنق

فوضى منظمة ، ويَصعُبُ وَصفها
وبيادقٌ تفنى ليبقى جَوسَق

ولكل مُعترض تقومُ قيامة
ويَذوقُ كأس الموت مَن يتخلق

والعيشُ مكفولٌ لكل مُطبِّل
والخيرُ مُدَّخرٌ لمَن يَتملق

فليسْتم الشطرنجُ ، يحيا أهله
ومُسَفهُ الشطرنج حتماً يُحرَق

*******************
*******************

وصياحُ (فِيلوميلَ) يَطفحُ عَلقما
فالبربريُّ العِلجُ كم سفكَ الدِّما

وأحالَ عِفتها هباءً لا يُرى
واغتالَ في الفوضى الجِياعَ الضرَّما

والعندليبُ شدا ليُنقذ غادة
وشدا الهَزارُ لكي يُقِيمَ المأتما

وحَدَتْ بلابلُ ليس يُحصَى عَدُّها
فهل الحُداءُ يُزيلُ عن عين عمى؟

والقفرُ زخرفه الحُداءُ ، فما ارعوى
لمُراد حاديهِ ، وكان البلسما

والعالَم الهمَجِيُّ شارك مجرماً
لكنه بالجبر لم يُسْكِتْ فما

وعلى جدار الصمت لاحتْ صورة
لصَبيَّةٍ أمستْ تلوكُ الشُّبْرُما

مِن فرط ما شَهدتْ ، ولم ترضَ الخنا
ما اسْتسلمتْ ، والأبُّ ذُلَّ فسلّما

وجميعُ أهليها أناخوا هامَهم
وحَفيفُ أقدام يُناغِي السُّلما

وذوائبُ الشَّعر اصْطلتْ نيرانُها
والصَّمتُ أهدى الخانعين المَغنما

*******************
*******************

والصمتُ أطبقَ ، فالكلامُ له ثمنْ
واللفظ بالموت المُحَقق مُقترنْ

وشجاعُ قوم ليس يَجبُرُ ذلهم
إذ إنه بلظى المَذلة مُرتهن

وفقدتُ أعصابي ، وبُؤتُ بخيبتي
ونصَحتُ خِلي أنْ يُحَدِّث عن وطن

غِيلتْ مُروءتُه ، فأذعنَ للعِدا
وطوتْه بالإذعان أغلالُ الفِتن

أبدى انبطاحاً بعد طول ترهُّل
ودَهى الترهلُ بأسَه حتى وَهن

وسألتُ خلي: فيم صَمتُكَ راضياً؟
أتُراك قد أسلمت نفسَكَ للمحن؟

مَن هان للأعداء تذهبُ ريحُه
ويموتُ مِن ثِقل الهوان بلا ثمن

يا صاح فاغضبْ للذي أودى بنا
أوَما نظرت إلى البَواخِر والسُّفن؟

أوَما نظرت إلى المباني إذ هَوَتْ؟
أم أن قلبك بالأباطيل افتتن؟

كان امتحاناً قاسِياً كُلّفتَهُ
والدَّهرُ يَختبرُ الأباة ويَمتحن

*******************
*******************

الرِّيحُ تحت الباب يُضنيهِ الحِصار
وكتائبُ الجُبناء تُعلنُ: لا ضِرار

وتخافُ مِن ظِلٍّ يَلِي أفرادَها
وهي التي بالكاد تبتديء الحوار

وزقاقُ جُرذان حوى أعداءها
وبرغم ذلك لا تتوقُ إلى انتصار

النصرُ يَمنحُه المليكُ لثائر
يرجو جِوارَ الله في دار القرار

الموتُ أودى بالعِظام ، وغالهم
وبَكتْ على الأبطال أبنية الدِّيار

وصَدى لحون (الجاز) يَقتحِمُ المَدى
ويُحِيلُ عالمنا ابتشاراً في ابتشار

وله رَعِيلٌ يَجتبي أنغامَه
والدمعُ في الأعيان يَجري بانهمار

هل يا تُرى هذي الدموعُ على الألى
قتِلوا ، وعانَوا مِن مَرارة الاحتضار؟

كلا ، وربِّ الناس ليست هكذا
هي لا تُحِسُّ بما نقاسِي مِن حِصار

كُفوا الدُّموعَ ، ولا تزيدوا بُؤسَنا
ما الدَّمعُ في فرْح كدمع في انكسار

*******************
*******************

ودموعُ (إلبِرتٍ) صَباحاً ومساءا
تستصرخ الرئبالة النبلاءا

تشكو إليهم ما اعتراها مِن عَنا
ولَكَم شكا دمعُ العيون عَناءا

إلبِرتُ أمضى أربعاً في جيشه
سنواتُ أربعُ حَصرُهن تناءى

هو ما تسَلى بالحياة وأنسها
بل عاشَ يَجرعُ شِدة وبلاءا

يَحتاجُ تسلية ليحيا عِيشة
تستهجنُ التعنيف واللأواءا

يا زوج (إلبِرتٍ) به فترفقي
هيا أعدي للحليل شِواءا

وخذي العطورَ ثمينها وزكيَّها
لِيَشَمَّ إثرَ قدومكِ الأشذاءا

وخذي المساحيقَ التي يَعتادُها
حتى تكوني غادة حسناءا

وخذي الشموعَ لها دُخَانٌ هاديءٌ
والنورُ يُزوي الدَّجْوَ والظلماءا

والسقفُ ذو التجويف يُتحِفه الضيا
ويَعودُ يَعكِسُ للشموع ضِياءا

*******************
*******************

في خيمة النهر الحِكاية ما انتهتْ
والغارقون عليهمُ البلوى جنتْ

ويُبادرُ الدُلفينُ يَدفعُه الحَيَا
وله نشاط بات يَزدردُ الختت

يسعى إليهم في البليَّة مُنقِذاً
هو جاء يرفعُ عن مُصابهُمُ العنت

هيا اعتلوا مَتناً يُريدُ نجاتكم
بُشرى لكل ضَحيِةٍ إمَّا نجت

يا خيمة النهر اشهدي كي تسْرُدي
أقصوصة الهلكى إذا الجمعُ سكت

وأواخرُ الوَرَقات خاتلها الفنا
وبكل عُودٍ في الرِّياض تشبثت

تجتاحُ أرضاً ليس تعرفُ وَصفها
لكنها سَمراءُ بالحُور اسْتمَت

ما قِيمة الدنيا إذا رَخُصَ الورى
والعائداتُ بمَن يَعيشُ اسْتهزأت؟

ما قِيمة الإنسان يَكذبُ دائماً
وعلى جميع الناس يَخترعُ النكت؟

هو ليس يَصدُقُ في الحديث تأدُّباً
بل يَستطيلُ على الأنام ويَفتئت

*******************
*******************

إمَّا جرى (التايمز) زالَ شُواظ
وتبَجَّحَ السفهاءُ والأشواظ

يا نهرُ فلتجري الهُوَينى ، إننا
مما نلاقي مِن جَوَىً أيقاظ

لأتِمَّ أغنيتي أواسِي خُلّتِي
إن العِدا مما أقولُ اغتاظوا

علموا بأني لستُ أقصِدُ غيرَهم
والنصُّ كم يُعنى به الحُفاظ

والنهرُ يُصغِي للكلام ورَمزه
وتشوقهُ الكلماتُ والألفاظ

والصَّيفُ يُعطي لليالي نكهة
في كل أمسيةٍ صَدىً وحِظاظ

ما الليلُ للمتسكعين وهزلهم
فليرحل السُّفهاءُ والجُعَّاظ

ما ليلُ أرباب الفلوس بطيِّب
فهُمُ شِدادٌ في الفجور غِلاظ

ومياه (لِيمانَ) القريبة شاهدي
والهازلون تراهمُ الألحاظ

ما الليلُ إنْ ركب المعاصيَ جَوقة؟
ما الليلُ إن عبدَ الهوى الأفظاظ؟

*******************
*******************

وأنينُ (ماندولينَ) يختصِرُ المَدى
ويُعذبُ القلبَ الشجيَّ المُكْمَدا

قرأتْ ل (ريتشاردٍ) نصوصاً أحزنتْ
قلباً ضعيفاً مستكيناً مُجهدا

كتبَ الحقيقة ، لم يُزيِّفْ نصَّها
إذ كان بَحَّاراً ، فعاشَ المَشهدا

خبرَ الوقائعَ كهفها ورَقِيمها
طابتْ كِتابتُه ، وعَزتْ مَوردا

وأدان مَن خاضوا الغِمارَ ، وعربدوا
لمَّا يَكُنْ للمفسدين مُؤيِّدا

ألْفتْهُ (ماندولينُ) أشرفَ باحثٍ
ساقَ الحقائقَ غضة لمَّا اهتدى

في كل فصل قِصة ورواية
تُؤذي الضميرَ ، تُدِينُ مَن كان اعتدى

ويَفِيضُ دمعُ العين دون ترَدُّدٍ
لا شيء يَمنعُهُ ، فلن يَترددا

يا شِقوة (القوقاز والبَلقان) في
هيجاءَ ساقتْ للصَّناديد الرَّدى

يا خيبة (البلغار والصِّرب) اعتدوا
وغدوا عُتاة في الشقاق وعُندا

*******************
*******************

شُطآن (كِيرنج) يُخامرُها الأسفْ
وكلابُها رَهنَ الجزيرة في الشظفْ

والنهرُ يَرشحُ زيتَه ووقارَهُ
وجَنائبٌ تنسابُ يُضنِيها التلف

والمَدُّ زاد ، ولم يَعُدُ جَزْرٌ له
وهناك أشرعة يُهدِّدُها الجنف

والرِّيحُ عاصفة تؤز هبوبَها
وعن المحارق وهْجُها لا يختلف

غضباً لِمَا اجترحَتْ سفائنُ مَن عَتَوا
ممن تبيَّنَ ظلمُهم ، بل والصلف

أسمِعت بالإنسان يُذبَح جَهرة
وعلى مياه النهر يُرمى كالجيَف؟

أسمعت بالأطفال يُرمى لحمُهم
لكِلاب أهل البغي أصحاب الترف؟

أسمعت بالبُنيان يُهدَمُ عُنوة
وبجُرمه الهمجيُّ لا لا يعترف

شطآنُ (كِيرنج) بكتْ أضيافها
مِن كل مجروح دماءً يرتعف

مِن كل حُرٍّ قد تدثرَ بالثرى
وسماءَ هذا الكون ها هو يلتحف

*******************
*******************

ورمالُ (ماركيتٍ) لها عَبَراتُ
وبكاؤها شهدتْ به السهراتُ

وهنتْ قواها ، وانقضَتْ أيامُها
ولها تجاعيدٌ بهن عِظات

قمْ سائل الكُثبانَ كم شربتْ دماً
وكم احتوتْ جثثاً لقوم ماتوا

ضاقت عليها الأرضُ حين تجندلتْ
ودماؤها فوق الأديم فرات

أصحابُها لو أجرموا لم يَقتلوا
ولسوف يأتي الظالمين ممات

ويكون كلُّ عند ديان الورى
فمِن القبور سيُبعثُ الأموات

ويقولُ مَقتولٌ: أيا ربَّ السما
ولدى المهيمن تُعلمُ الأصوات

ربي انتصر لي اليوم ممن أهدروا
يوماً دمائي ، فالجُناة عًتاة

سَلهم لأعلمَ جُنحتي وجَريمتي
هذا رجاءٌ سَطرتْهُ شكاة

الأمرُ أمرُك ، والقِصاص عدالة
كانت لنا في ذا القصاص حياة

*******************
*******************

والرَّعدُ جافٍ ، لا هواء ولا مطرْ
وسل الصنوبرَ عنه ، واستقص الخبرْ

بَئسَتْ بظلم المجرمين حياتُنا
ويُصارعُ الآنامُ في الدنيا الكدر

وقد استُغلَّ العِلمُ في تدميرنا
وإبادة العُمران قسْراً والبَشر

العِلمُ مِعولُ هدم أصحاب الهوى
فهناك جَمعٌ في النخاسة يَتجر

وكأنه عصرُ العبيد ، فهل نعِي؟
يا ليتنا مما نعاينُ نعتبر

وهناك جَمعٌ صَوَّبوا أسيافهم
وغدا السلاحُ بكل صُقع ينتشر

وهناك جَمعٌ بالسقوط تعللوا
فغِناؤهم والرَّقصُ سِحرٌ مستمر

وهناك جَمعٌ بالخمور تترسوا
إنْ في القرى الترويجُ أو نائي الحَضر

ما العلمُ إنْ هدمَ الحياة وأهلها
وغدا ضلالاً للهداية يَفتقر؟

ما العِلمُ إنْ أودى بكل فضيلةٍ
ومضى إلى قاع الرَّذيلة يَنحدر؟

*******************
*******************

سلْ جَوَّ (باريس) ، وسلْ أقصى البقاعْ
واسألْ (فيينا) عن متاهات الضياعْ

وسل الحضارة كيف صاغت أهلها
فجَنَوا عذابَ العيش مِن كلِّ اختراع

سلها عن التضليل باسْم علومها
وعلى عُرَى الأخلاق أشهرتِ الوداع

سلها عن النكبات تُضْعِفُ عزمَنا
سلها عن التغريب غصَّ به اليَراع

سلها عن الترويج عمداً للخنا
والأمرُ بين الناس مُشتهِرٌ مُشاع

سلها عن المُوضات تدحَضُ عَزمة
ويُقالُ تطويرٌ يزخرفه الخِداع

سلها عن التضييع يَقهرُ عَيشنا
وعن الحياة يَشُوبُها أدهى اصطراع

سلها عن التهريج يَجتاحُ الوَرى
والجِدُّ أمسى من أعاجيب الطباع

وعَواصمُ الغرب اسْتحالتْ أبْؤراً
لفساد أهل الأرض رأيي باقتناع

ومُجونها في الناس تستقوي به
حتى تُضللَ أهلَ هاتيك البقاع

*******************
*******************

وسل الصهاريجَ التي كم تُستباحْ
والياسَمينُ يموتُ ، سلْ بعضَ الأقاحْ

وسل المشاعلَ أطفئتْ أنوارُها
وسَرى الدُّجَى فوق البطاح

وسل البيوت من الأهالي أخليتْ
ما عاد فيها مُلتقىً أو مُستراح

وسل المطاعمَ جَمَّدَتْ وجباتِها
وعصيرَها والشايَ والماءَ القراح

وسل الفنادقَ وَدَّعتْ رُوَّادَها
كُرماءَهم وكِرامَهم بعد الشحاح

وسل المَشافيَ أقفلتْ أبوابَها
وغدا التداوي في جِواها لا يُتاح

وسل المصانعَ رَحَّلتْ عُمالها
أهلَ الصِّناعة والبراعة والكفاح

وسل المدارسَ سَرَّحَتْ طلابها
لمَّا يَعُدْ فيها رسوبٌ أو نجاح

ففصولها ثكناتُ للجُند العِدا
ورياضُها حاناتُ للغِيد المِلاح

وسل النواديَ دُشنتْ ساحاتُها
وغدتْ مخازنَ للذخائر والسِّلاح

*******************
*******************

وسل الخفافيشَ استبدتْ بالفيافِي
واستعمرتْ مُدُنَ الخلائق والمشافِي

صَمَتَ الصَّقيعُ ، ولم يعدْ إلا الجَوى
والحزنُ والإيلامُ في ظِل التجافي

غيرُ الصِّياح على الضحايا لم يعد
ونعيشُ في عصر الظلام والاعتساف

ما هذه الدنيا؟ وما هو شأنها؟
أمسى القويُّ يَضِيقُ ذرعاً بالضعاف

هي غابة فيها الكلابُ استأسدتْ
لمًّا يعد فيها السَّواء ولا التكافي

فالظلمُ أصبح طابعاً يُودي بنا
ويُحيل كل حواضر الدنيا فيافي

وغدَتْ دماءُ الأبرياء رخيصة
مَن لم يكونوا يملكون سوى الكفاف

هل يا تُرى في الغيب تأتي صحوة
ليعودَ للدنيا التآلفُ والتصافي؟

أيعودُ للدنيا الرَّخاءُ فتنتشي
طرباً ، ويَغمرُها التعففُ والتشافي؟

أيعودُ أمواتٌ إلى أرحامِهم
وتَعُمُّهم حُسنى جِوا الإيلاف؟

*******************
*******************

للأمهاتِ اليومَ نَوْحٌ يُسْمَعُ
وعلى الثكالى الظالمون تجَمَّعُوا

يتساءلون عن النجاحات التي
هم حققوا ، وحديثُهم مُستبشَع

في (جُوتلاندٍ) وحدها زلزالهم
والبحرُ شاهدَ ما يُضِيرُ ويُفجِع

في البحر بركانٌ ، وتحت سمائه
هولٌ مَناظِرُهُ الفِظاعُ تُرَوِّع

فرسانُ حرب يَفتكون بعُزل
والأرضُ من بعد المعارك بَلتَع

وسفائنٌ غرقتْ بكل طواقِم
هي خمسة الآلاف بئسَ المصرع

وهناك غوَّاصاتُ أيضاً أغرقتْ
مئتان دوَّنَ وصفَهن المَرجع

لمَن المحارقُ والمعاركُ والفنا؟
والبندقيَّة طوعُ مَن والمِدفع؟

في القتل سَجَّلتُم فضائحَ سُجِّلتْ
لا ليس للتاريخ يوماً بُرقع

هو ليس يَذكرهم بأي فضيلةٍ
ولديه أخبارٌ تُهِيجُ وتُفزع

*******************
*******************

وانظرْ إلى (فيلباسَ) ، ألق سلاما
وانشُدْ لمَن قتلوا الغلامَ الساما

نسِيَ الغلامُ نوارساً تشدو له
وتُعِيرُهُ الترنيمَ والأنغاما

مُتغافلاً لجَجَ البحار مَشوقة
تهَبُ الشواطيءَ صحوة وغراما

والرِّبحُ يأتي ، والخسارة بعدهُ
دنيا تُهِيجُ بحُسنها الآناما

لم يُنسِهِ التيارُ في البحر الصَدى
وشبابَه وصِباً مضى بَسَّاما

ورأى المشيبَ ، وقد أتى متعجِّلاً
حصدَ الشبابَ ، وسَببَ الإيلاما

فيلباسُ مات ، ولكنِ الذكرى احتيتْ
كان الوسيمَ له مَضاً يتسامى

يا من تُدِيرُ بلا كَلال دَفة
ارقبْ رياحاً سَيرُها يتنامى

واذكرْ لنا (فيلباسَ) ذكّرْنا بهِ
ثكلَ الشبابَ وعافَ عنه كلاما

هو كان مثلك فارعاً في طوله
مُتفائلاً لا يَعشقُ الأوهاما

*******************
*******************

وَهْجُ المشاعل في الترائب يَسْري
والنورُ مُختبيءٌ وراء الصخرِ

لا شيء يُسعِدُ في الحياة يَشُوقنا
بالشُّمِّ عيشُ مذلةٍ كم يُزري

شاعَ الرِّبا معه الزنا في دارنا
وعقابُ ربِّك طالَ مَن يَستمري

ساد التبرُّجُ والسُّفورُ تحايُلاً
وبنسبةٍ تُودي الذي يَستقري

وغزا العدوُّ ديارَنا بذنوبنا
وقد استقرَّ بسَهلها والوَعر

وتقطعتْ أرحامُ قوم جَهرة
والقاطعون استهتروا بالوزر

ولدى الجميع عِلاجُ ما بُهِروا به
إما اسْتقاموا كُوفئوا بالنصر

ما ضَرَّهم أنْ يرجعوا لرشادهم
وهل الرشادُ يقودُهم للخسر؟

اللهُ ناصرُ كلَّ معتصم به
ومُجيرُه مِن عائداتِ الشر

ومُوَفقٌ كلَّ الألى لجأوا له
وبه اهتدوا في يُسْرهم والعُسر

*******************
*******************

والبَرقُ لو عاينت عاتٍ خُلّبُ
إذ يَخطِفُ الأبصارَ ، ثم يُؤلبُ

وتقلباتُ الدَّهر تفتنُ مَن غفا
ما مِن مصير المرء يوماً مهرب

حيناً تراهُ مِن السعادة طائراً
ويَهيمُ في حب الحياة ويَطرب

وكأنما دنياه قد حِيزتْ له
فاختارَ منها ما يشاءُ ويرغب

وتراه حيناً في انكسار مُؤلم
ويَكِدُّ في درب الحياة ، ويَنصب

يشكو ، ومَن يُصغي لشكوى عابثٍ
لم يَرضَ بالمَقسوم ، بل يتلهب

لم يقتنعْ بنصيبه مستغنياً
بحلاله عما يُضِيرُ ويُعطِب

بين الأنام اللهُ قسَّمَ رزقهم
يُعطي فِئاماً ما يشاءُ ويَسلب

لا شيء يَمنعُ في الدَّنا أقدارَه
وقضاءُ ربِّك غالبٌ لا يُغلب

وعلى أوامره المُهيمنُ غالبٌ
ولِحكمةٍ توفيقه قد يُحجب

*******************
*******************

والجُرأة المُثلى صِماتُك في البلا
فالصَّمتُ يُفشِلُ ما يَتوقُ له المَلا

هم أفسَدوا في الأرض بعد صلاحها
هم رَوَّجوا للفسق فيها والطلا

هم أطلقوا الأفلامَ تدعو للخنا
وتَحُضُّ مُدمنَها على أن يجهلا

هم حاربوا القيمَ الأصيلة عُنوة
وغدا الذي يُزجي الفضائلَ مُبطِلا

بحديدهم والنار قد حكموا الورى
وكأنما الإرهابُ دربٌ للعُلا

ومَن استطالَ بلفظةٍ أو صرخةٍ
فمصيرُهُ عُقبى تطاوله البلا

ونهاية الثوريِّ نفيٌ مُحْدِقٌ
أو سَجْنه فإذا ارعوى لن يُقتلا

لكنَّ صَمتاً مُطبقاً يَغتاله
ويُحِيله مثلَ الجماد مُجندَلا

كصِمات بِكْر عُطبُل في عُرسِها
حتى يكون مِن العروسة أفضلا

فاصمُتْ فرَبُّ الناس مُنجِز وَعدهُ
فلقد يكون معجَّلاً ومُؤجَّلا

*******************
*******************

ويدورُ مفتاحٌ بباب العولمة
حتى يُؤهلنا لنِير الأنظمة

ليُقلّمَ الأظفارَ دون هوادةٍ
ويَقُصُّ ألسنة تُجيدُ التمتمة

ويُرَوِّضَ الشبانَ غرَّهُمُ الصِّبا
وتحمَّلوا عِبءَ الفِدا والملحمة

حملوا المشاعل حِسبة وتكلفاً
لتُضاءَ بالحُسنى الدُّروبُ المظلمة

وتجَمَّلوا بشجاعةٍ وشهامةٍ
لم تُلفيا في أمَّةٍ مُستسلمة

حَسِبوا حسابَ رُكونهم وخضوعهم
للظالمين ومَيلهم للعولمة

فتخيَّروا الإقدامَ إذ يسمو بهم
ويُجَنبُ الناسَ التقهقرَ والعَمَه

جادوا بأرواح ، وما شَحُّوا بها
والجودُ بالأرواح أسمى ترجمة

وبلهجةٍ كانت أدلَّ على الذي
تاقوا له ، لم يعمَدوا للهذرمة

إن الشباب إذا استقامَ على الهدى
كان التقى لزئير هَبَّته سِمَة

*******************
*******************

يا (كِريولانسَ) لستَ أنت المَهدي
لا تدَّعي نصراً ، وجُبنَك تُبدي

بل كنْ صدوقاً في ادِّعائك ، واصمُدْ
قم سالم القبطانَ ، لا تستعدي

وبزورق متحطم لا ترتحلْ
وإن استجابَ فسعيُهُ لن يُجدي

بَحَّارُك الشهمُ استكانَ لفتنةٍ
هو ليس يسعى لحظة للصَّيد

فاظفرْ بمِجدافٍ بأيدٍ خادعتْ
أصحابُها كالوا الأذى والحَرد

والزمْ مَساراتٍ علمتَ حُدودَها
ثم انتظرْ للبحر ساعة مَد

إن القراصنة اللئامَ بمَرصد
هلا فطنتَ لغدرهم والرَّصد؟

لم يرصدوك جهالة يا صاحبي
إن المهيمن عالمٌ بالكيد

فاعملْ بنصحي ، وانتبهْ لمَشورتي
فلربما عادا ببعض الفيد

وارفقْ بزورقك الضعيفِ ، ولا تخُضْ
بحراً مُحاطاً بالرَّدى والجُند

*******************
*******************

حَييتُ زورقَ مَن تمسَّك بالقيم
وسعى وحتماً لن تزل به القدم

والبحرُ يَعشقُ مَن يُصارعُ مَوجَهُ
كالحوت يَفتكُ بالقنادس والبَلم

إني أسائلُ ما الرجالُ بلا إبا؟
تعسَ الرجالُ إذا ارتضوا عيشَ الغنم

بإرادة الأبطال نسمو للعُلا
وببأسهم في الحرب تنتصرُ الأمم

مَن لي ببأس يَجتني رُوس المَلا
ويُحِيلهم مِزقاً لتركلها القدم

أوَما كفاهم ما أثاروا مِن حِمىً
وقرىً حَوَتْ شُمَّ الأماجد والبَهم؟

أوَما كفاهم مِن مبان قوَّضوا؟
أوَما كفاهم ما أشاعوا من إزم؟

أوَما كفاهم ما أثاروا مِن لظىً
حرقوا به ظلماً ملايين النسم

رباه حِلمُك غرَّهم ، فتمردوا
حتى اسْتهانوا بالمباديء والقيم

أنزلْ بهم بأساً يُبيدُ غرورَهم
وأفضْ عليهم مِن بلائك والنقم

*******************
*******************

يا (جسرَ لندنَ) كم أبيدتْ دارُ
وكم استُبيحَ القطرُ والأمصار

وكم استبدتْ بالحياة عِصابة
أبكتْ عُيوناً هالها استعبار

كم مِن دماءٍ أهدِرتْ في برِّنا
وقفارنا ، وتعكرتْ أبحار

ما ذنبُ أهليها ؟ أجبْ يا جسرُ ، لا
تصمُتْ ، فصَمتُك في الإجابة عار

وأتى عليك الدَّورُ فاصمُدْ للرَّدى
فلربما ضربَ الحِمى إعصار

وأحاطك اللهبُ المُضمَّخ باللظى
أعوامُ أربعةٍ تُشَبُّ النار

غطتْك نِيرانُ الدَّهاقِن غِيلة
ويَذوق مَكرَ السيء الغدَّار

سبعون قطراً تكتوي بلهيبهم
هذا وربِّك مَطعَنٌ وشَنار

نيرانُ خندمةٍ ، وأحمرُ لونها
قان بدا ، لا تُخطيءُ الأنظار

ودمُ الضحايا أحمرٌ مُتَجلط
والمَوتُ أحمرُ ليس عنه خِيار

*******************
*******************

هل ذات يوم كالسُّنونو أنتقلْ؟
إذ ليس يُعْييني عدوٌ أو مَلل

وأعيشُ عيشاً مُستقلاً هانئاً
ما أجملَ العيشَ الهنيء المُستقل

يسعى السُّنونو ليس يُسأل بُرهة
عن سعيه ماذا تكلفَ أو فعل؟

وعن الهوية لم يُجَدِّدْ رَسْمَها
وعن الضرائب والفوائد والنقل

يا ليتني مثل السُّنونو أرتدي
حُريَّتي في كل شأن أو عمل

إن القيود أمُجُّها ، وتمُجُّني
لولا مجاملة الجَلاوذة السَّفل

عيشُ الخرائب والزرائب عِفتُهُ
يا ليتني عمَّا أعايشُ أنفصل

وَهَنَتْ عِظامي والمَشيبُ دَهى القوى
والجسمُ مِن ثِقل المصائب قد نحل

لكنه أملٌ يُغازلُ همتي
هل بات عبئاً لا يُجاريني الأمل؟

والأمنياتُ رَصيدُ عبدٍ خامل
أرأيت كسْلاناً نأى عنه الملل؟

*******************
*******************

يا (هيرونيمو) يا أسيرَ الصولجانْ
الأمنُ عَز ، وقبله انجابَ الأمانْ

وغدَوتَ أغنية تبَذلَ نصُّها
وغدا يُرَدِّدُها على الناس الجبان

لا النصُّ صحَّ ، ولا اللحونُ تجمَّلتْ
وتعدلتْ ، وخسرت يا (هيرو) الرِّهان

يا قومَنا أعطوا وجُودوا دائماً
جُودوا لعلَّ الجُودَ يَمنحنا الحنان

وتعاطفوا يا قوم عَلَّ تعاطفاً
يَئِدُ الرُّعُونة والتبَذلَ والهَوان

وخذوا الأمورَ بهمةٍ لتُسَيطروا
فلعلَّ سيطرة تُعيدُ الصَّولجان

وتكاتفوا لنرى السَّلام يحوطنا
إن السلام سيَمحَقُ الحربَ العَوان

أنا إن نصحتُ فشاعر ، أشعارُه
مختارة عقدت على الحب القِران

أقصى مُنايَ ومَطمحي وتبتلي
عَودٌ إلى هدي المليك المستعان

حتى نُعَوَّضَ عنده عن عيشةٍ
- فيها المَذلة والإهانة - بالجِنان

مناسبة القصيدة

(لا شك في أن قصيدة (الأرض الخراب لإليوت) تستحقُ منا أن نوليها شيئاً من الاهتمام! ونشرع في محاكاة قصيدة "الأرض الخراب" للشاعر الإنجليزي الأمريكي تي . أس . إليوت شعراً عربياً موزوناً مُقفى! أقول بكل صدق لعل الشهرة العالمية التي نالتها قصيدة (الأرض اليباب أو الخراب للشاعر إليوت) لم تنلها أي قصيدة أخرى في القرن العشرين ، ذلك القرن الذي شهد العديد من الصراعات والقلاقل في الدنيا كلها. لقد كانت القصيدة فور ظهورها بمثابة الأكسير الثائر للشعر الغربي الحديث بشهادة الكثير من النقاد الغربيين والشرقيين على حد سواء. فقد نُسج على مِنوالها شعرٌ كثير وعارضها وحاكاها ونظم على منوالها شعراء كثيرون في الشرق والغرب ، ولا يزال ينسج ، وسوف تكون هناك محاولات متعددة مستقبلاً للنسج على منوال هذه القصيدة! وسُكِب في دراستها مدادٌ كثير ، وشطتْ فيها أفهام وبالغت فيها أقلام وزلت فيها أقلام وزايدت عليها أنسام! حيث ألفت العديد من الكتب والمقالات النقدية عن القصيدة وتنولت بيتاً بيتاً ومقطعاً مقطعاً! وعن شاعرها الإنجليزي إليوت. على أن للشاعر قصائد أخرى متعددة ، لكنها لم تنلْ ما نالته قصيدة: (الأرض الخراب)! والمحاكاة التي أشرع فيها هي ترجمة شعرية لا حرفية كما فعل آخرون قبلي وسيفعل آخرون بعدي! بل سأحاول أن أعالج القصور الذي لحق نص إليوت في تشخيص الواقع ووصف العلاج له! ولا أجزم بأن نصي – على هذا العزم وتلك النية – سيكون مطابقاً لنص (إليوت)! بل هو نوع من قبيل المحاكاة أو المعارضة! ذلك أننا نلتقي مع الشاعر إليوت في نقد الحضارة عندما تهدم وتدمر! وكنتُ قد جعلت قصيدتي على شكل مقاطع: كل مقطع يتألف من عشرة أبيات ، والتزمتُ وحدة البحر ، وإن لم ألتزم وحدة القافية! والهدف من عدم توحيد القافية هو الخوف من المَلالة والسَّآمة! فعسى الله تعالى أن أكون قد وفقت في محاكاتي لإليوت! ويبقى له السَّبق والفضل عليَّ بعد فضل الله تعالى وتوفيقه وامتنانه! وأذكر القراء الأعزاء بأن قصيدتي محاكاة لإليوت وليست ترجمة لنصه! ويبقى لي شرف المحاولة الذي أدندن حوله عندما أحاكي الشعراء الآخرين الأفاضل أو أعارضهم! عسى الله سبحانه تعالى أن ينفع بها من قرأ ونقد ونشر!)
© 2025 - موقع الشعر