كــــم أعطـــوك؟! - أحمد علي سليمان

يا صاحباً ذبُلتْ في القلب ذِكراهُ
ولم يعُدْ ناظري يَهوى مُحَيَّاه

ولم يعدْ خاطري يهفو لطلته
ولم أعُدْ أحتفي يوماً بلقياه

خادعْتني زمناً بالبر تُظهرُه
وأنت أظلمُ مخلوق عرفناه

صانعتني بادّعاء العِلم في مَلأ
وأنت أجهلُ إنسان خبَرناه

قالوا: غشيمٌ ، فلا تصحَبْه ، إنَّ لهُ
تصنعاً تُتقى سُوآى بلاياه

وانظرْ لمن حوله ، لا يأبهون به
إذ ما له في الأذى والكيد أشباه

ومِن مَقالبه الجميعُ ما سلِموا
وأدركوا المكرَ لحنُ القول أخفاه

وعاينوا الحِقدَ في سِر وفي عَلن
كأنَّ إبليسَ – للدهقان - أوحاه

وناصحوه ، فلم يُنصتْ لمَن نصحوا
وما استكانَ بما قالوا لمَولاه

وما تضرَّعَ للرحمن عن رَغب
حتى يُزيلَ دُجى جهل تغشّاه

وما تفقدَ قلباً كي يُعالجَه
مِن الضلال الذي استعلى ، فأرداه

وما تعقبَ نفساً كي يُزكّيَها
مِن اللجاج الذي كم كان يهواه

وما تحملَ نقداً مِن أقاربه
ولا الأباعدِ ، إذ ما كان يرضاه

واليومَ يسألني سُؤالَ مُكترثٍ
بما أحَصّلُ مِن مال ليُعطاه

حتى يُبدِّدَه ، بلا مُساءلةٍ
كما تعوَّدَ ، فالإخلاصُ جافاه

لم يَعرفِ الصدقَ يوماً في معاملةٍ
حاشاه يُسْدِي حقوقَ الناس حاشاه

يقولُ: أعطوك كم؟ أطربْ بها أذني
يقولها فاغِراً بجَرْسِها فاه

فقلتُ: أعطونيَ الأمجادَ مُشرقة
والخيرَ أدناهُ أعطوني ، وأعلاه

هم خلدوا في الدنا ذِكرايَ طيِّبة
مُذ سَجّلوا الشعرَ فواحاً بذكراه

هم بوَّأوني مِن الغايات أعذبِها
ومِن زهاء العُلا في الناس أسماه

هم عَطروا سُمعتي بما يُناسبُها
وضَمَّخوا الاسمَ ، فاستعلى بسِيماه

هم أركبوني سِنامَ الفخر مُستمياً
على الحُزون ، فقد أتانيَ الجاه

عَطاءَهم أجزلوا ، فالقومُ ما بخِلوا
لكنّ مِثلك لا يُشجيه مَغزاه

عطاؤهم ليس يُفني الدهرُ رَونقه
وليس تفنى - مدى الأيام - فحواه

عطاؤهم ليست الأموالُ تُثقِله
فالمجدُ ليس ببذل المال نلقاه

إنْ مِتُّ غرَّدَ في سمْع الزمان صَدى
صَوتي بشعر ألا ما كان أحلاه

شِعري الذي ذِعتُه في عَذب أمسيةٍ
حتى يُرَدِّدَهُ جيلٌ تبناه

شِعري الذي لم يَهمْ في حُسن غانيةٍ
ولا تناولَ قداً في ثناياه

ولم يُحَسِّنْ قبيحاً في قصائده
ولم يُرَوِّجْ لبُهتان تملاه

ولم يُداهنْ لطاغوتٍ ليَنشره
ولاستِماتته - في الحق - عاداهُ

شِعري الذي عِبت بين الناس يا سَمِجاً
لأن عقلك لم يفطِنْ لمَعناه

أهلُ القناة أعاروني مسامعَهم
فأدركَ الشعرُ - بالأمداح - مَحياه

وعِشْتُ أجملَ ساعاتٍ أتِيهُ بها
وزالَ عني الجَوى والوَجدُ والآه

أنا المَدينُ لهم بكل ما بَذلوا
والشعرُ باشرَ في القناة مأواه

فادفنْ سُؤالك في الحضيض ، وانْأ به
عني ، فقلبي دَرَى في التو عُقباه

ودار حقدَك عني يا أسيرَ هوىً
أواهُ منك ، ومما قلت أواه

كفاك هُزءًا وتدليساً وسفسطة
هل كاذبٌ مُفتر تدومُ دَعواه؟

إني اشتكيتُك للجبار يا لُكَعاً
ولنْ يَضيعَ الذي ظهيرُه الله

وأنت باركت حُكم الله يوم جَزا
ويومَها يَحتفِي عَبدٌ بشكواه

مناسبة القصيدة

كــــم أعطـــوك؟! (عندما يُقاسُ كل شيءٍ بالمال ، تكون طامة كُبرى قد أصابتْ وزنَ القيم! لماذا يا قومي؟ والجوابُ باختصار: لأن المال أبداً لا يشتري القيمَ ولا المبادئ! وأهلُ القيم والمبادئ ، أبداً لا يبيعونها بكنوز الأرض! وتبدأ قصة هذه القصيدة عندما استضافتْ إحدى القنوات الفضائية الفذة الرائعة المحترمة القيمية أحد الشعراء! وهذا الشاعر أمره عجيب وشأنه غريب ، رغم تمكنه من الشعر وغزارة إنتاجه الشعري وجودة موضوعاته الشعرية – وهذا من فضل الله عليه ، ثم فضل أساتذته الذين علموه - ، إلا أنه لا يهتم كثيراً ولا قليلاً بالأضواء ولا يجري وراءها ، لأنه كان يُدرك جيداً أن الأضواء تقتل صاحبها ، ولو بعد حين! وعاش يعتبر مدحَ الناس لأشعاره وقدحَهم سواء! وفوجئ ذات يوم بطلب استضافة مكتوباً من إحدى القنوات الفضائية! فتردد في الموافقة كثيراً ، ثم بعد دراسةٍ للأمر وافق! وحددَ القائمون على القناة موعداً لزيارتها ، ريثما تُجرى الترتيبات وإعداد استوديو الأخبار لأنه الأليقُ باستضافة الضيوف وخاصة الأدباء والشعراء والكُتاب! وذهب الرجل على موعده معهم ، والتقى مُعِدي البرنامج الذي سيكون ضيفاً عليه! ولم يشترط الشاعر عليهم إلا شرطاً واحداً ، وهو أن يُرفع هذا اللقاء على الميديا من خلال موقع القناة! لا للمشاهدات ، ولا للأضواء ، ولا لأي اعتبار آخر ، سوى الذكرى والتعريف بالشاعر ، وانتفاع الناس بما يُلقيه من القصائد! فقالوا: ما جئتنا بجديد ، إننا نرفع كل ما يتعلق بالقناة على موقعها مباشرة! فسُر الشاعر بذلك! وتم التسجيل ، وأعطوه موعدَ الإذاعة الحية والمُعادة على القناة! وكم كانت سعادته بهذا اللقاء ، وسُر به كذلك أحباؤه وأصفياؤه ، واغتاظ أعداؤه وانكمدوا! إلا أن المفارقة العجيبة وثافية الأثافي ، أن أحد هؤلاء الأعداء ما استطاع أن يُخفي مشاعره الحاقدة الكارهة ، حيث واجه الشاعر بقوله: كم أعطوك؟ فرد الشاعر عليه قائلاً: لأنهمُ (المجد) ، فقد أعطوني المجد والعز والفخار! لقد أعطوني ما لا يُقدّر عندي وعند أولي النهى ما يرجح كنوز الأرض منذ كانت الأرض إلى قيام الساعة! يكفي أنك تموت يوم تموت ولا يرى لك أحد صورة ولا يسمع لك أحد صوتاً! أما أنا فلقد خلد الله صُورتي وصَوتي قبل وبعد موتي يا لكاع يا حاقدُ يا شامتُ يا جاهل! على أن هذا السفيه كان يوماً من أصفى أصفياء الشاعر ، ذلك أنه لفرط قدرته على الاحتواء والخداع ، عاش يُظهر لصديقه الشاعر حِرصَه على الدين وتعصبه للسُّنة وتظاهرَه بالأخلاق والمبادئ والقيم!)
© 2024 - موقع الشعر