منتقبات في الحديقة! - أحمد علي سليمان

بكُنّ يَفخرُ مَن بدينهم عملوا
وجَمْعُكن به يحيا بنا الأملُ

أنتُن في زمَن التغريب عُدّتنا
حتى نواجهَ مَن ضلوا ومَن سَفلوا

أنتن نورٌ به تُجْلى غياهبُنا
فلا يُسَربلنا تِيهٌ ولا ضَلل

أنتن خيرٌ تُسَلينا بوادرُهُ
وعاينتْهُ قلوبُ الناس ، والمُقل

أنتن جُنتنا في كل خندمة
صمامُ أمن به كم يُضربُ المَثل

أنتن في دارنا طهرٌ يُشرّفها
من بعد أن أصبحتْ مأوى الألى ارتذلوا

لو لم تكُنّ بُنياتٍ لآدمنا
قلنا ملائكة مِن السما نزلوا

أو الحواريْ على الأزواج قد قصُرَتْ
عرائسٌ للألى بدينهم عملوا

إن الحديقة بالضيفات قد فخرتْ
وكالت المدح يحكي نصّه الغزل

بكُنّ قد أنسِتْ ، وارتاحَ خاطرُها
وللمهيمن بالدعاء تبتهل

بكُنّ أشرقتِ الأنسامُ طيبة
بكُن هذا حشيشُ الأرض يحتفل

بكُنّ زوارُها شَدتْ جوانحُهم
وطابَ كل الذي قالوه أو فعلوا

بكُنّ أهلُ الهوى بارتْ بضاعتُهم
فما اشتراها الألى بحُسْنها اشتغلوا

بكُنّ ودّعتِ الفوضى حديقتنا
والساقطون مِن الحديقة ارتحلوا

لمّا تعدْ غادة تُبدِي مَلاحتها
لمّا يعُدْ شعرُها يُغري ويَنسدل

لمّا يعدْ وجهُها يَسبي العيونَ بما
عليه مِن حِيَل الماسون تُبتذل

لمّا تعدْ عينُها تكوي بنظرتها
فلم تعدْ بجميل الكُحل تكتحل

لمّا تعدْ ساقها تغتالُ ناظرَها
فالسترُ يا ناظراً للساق مُكْتمل

عليّ دَينٌ بأشعاري أسدّدُه
مُنقح نصُّها ، فلستُ أرتجل

أن أطري الحِشمة العصماءَ مُحتسباً
لها دعا أنبياءُ الله ، والرسل

كل الشرائع بالحجاب قد أمَرتْ
وكان يجري بما جاءتْ به العمل

ما جاء شرعٌ بحِل العُرْي في أمم
ولا أجاز الخنا يأتي به المَيَل

وواحدٌ دينُ رب الناس ليس سِوى
فلا تُضللنا الأديانُ والمِلل

يا طيّباتٌ بكُن الشعرُ مُؤتنسٌ
وفي خواطره الإعجابُ يعتمل

فهمسُكن سبا فحوي عواطفهُ
والاحترامُ أتى ، وخَيّمَ الوَجَل

وبات يسألُ هل حقيقة نظرتْ
عينايَ؟ أم يا تُرى طوتْهما الغِيَل؟

يَهمسْن لا تسمعُ الآذانُ جعجعة
كما تُجَعجعُ نوقُ القوم ، والإبل

يَمشين هوناً ، فلا كِبْرٌ ، ولا بَطرٌ
وليس مِن مَرَح يسوقه الهَبَل

يَأكُلن في دَعةٍ مِن تحت أنقبةٍ
في مَشهدٍ طابَ فيه الأكْلُ والأكُل

وقمْن صَلين ، فالصلاة قد وجبتْ
ما صَدّهن هوىً يطغى ولا كسل

وكنتُ راقبتُ ما يأتين عن كَثَب
فشدّني الدهْشُ مما شفتُ والذهل

حتى أخِذتُ بما شاهدْتُ مُرتصداً
هذي الحقائقَ منها العقلُ ينذهل

كم في الحديقة من سواقطٍ وغثا
حياتُهم خطها الإفلاسُ والخبَل

لكِنّ هذي النسا أكبرتُهن أنا
والناسُ عنهن ما قالوا وما سألوا

للستر ناسٌ لهم مكانة عظمَتْ
وللتكشف ناسٌ قاعَهُ نزلوا

وللحديقة بالنوعين فرحتُها
لا يستوي الشمُ في الميزان والهَمَل

اختارَ ربك للجنات أهلَ تُقى
واختارَ قوماً لهم جهنمٌ نُزل

وتلك قِسمة رب الناس عادلة
إذ العُتاة برب الناس قد عدلوا

مناسبة القصيدة

منتقباتٌ في الحديقة! (مجموعة من الأخوات الحَشيمات المُنتقبات ، كنّ في حديقةٍ عامة! وكان العجيب في أمرهن أنهن أكلن وشربْن ، وضحكْن وتسامرْن ، وتكلمْن فاتفقن واختلفن ، ولم يسمعْ أحدٌ لهن صوتاً! ولم ير أحدٌ لإحداهن وجهاً! مما حدا بالرائي عن كَثب أن ينقش قصيدة في مدحِهن وإطرائهن والثناء عليهن والدعاءِ لهن! التقيْن في الحديقة بموعدٍ مُسبق وترتيب أو بغير موعد مسبق أو ترتيب ، لا يعلمُ الرائي والرواي للقصة! المهم أن كل واحدة رحبتْ منهن بالأخرى ، وتسامرْن وتجاذبْن أطراف الحديث معاً حول عددٍ من القضايا العامة والخاصة. وإلى هنا لا غرابة في الأمر! لكن المُلفت للنظر هو أن أحداً لم يسمع لهن صوتاً ولا ضِحكة! ولم يُكشفْ وجهُ إحداهن ، وأذنَ للصلاة ، فذهبْن للصلاة في مسجد الحديقة هناك في مُصلى النساء! يقول الراوي فأعجبني هذا السلوك الغريب النادر منهن ، وكأني أعيش لحظات من عصر النبوة حيث الصحابيات الفضليات! حيث إن هذه السلوكيات بتْنا لا نراها ولا نأنسها ولا حتى نحلم بها! وكنتُ آمل أن أرى وجه إحداهن لا للاستمتاع والتلذذ ، لا! لو أردتُ ذلك فتلك بضاعة مُزجاة في الحديقة وعلى اختلاف الأنواع والأشكال والجنسيات! وإنما أردتُ رؤية وجه واحدةٍ منهن فقط لأوستوثق هل هؤلاء النسوة من بنات آدم وحواء مثلنا أم من عرائس الجنان وهبطن إلى الأرض وسيعدْن مرة أخرى إلى مُستقرهن في الجنة؟! فالحديقة مَليئة بالنساء والبنات يُصدرن النكات والضحكات والأصوات العالية الصاخبة ناهيك عن الوجوه المكشوفة وعليها المساحيق والأصباغ والكريمات والعطور ، وهناك الشعور المسشورة المنسدلة على الظهر أو الكتفين ، وهناك الفساتين المزركشة والقصيرة والبنطلونات الضيقة جداً! يقول الراوي: ما استرعى انتباهي كل نساء الحديقة بقدر ما استرعت هذه النسوة انتباهي! يقول: وما تأثرت بأي نساءٍ في الحديقة وما أكثرهن ، كما تأثرت بهؤلاء النسوة لدرجة أنني بقيت ليلتي أبكي على ما نحن فيه من انحطاطٍ وسفول وتردٍ مقيت! فرأيتُ أن أحوّلَ شعورَه وقصته ودمعته شعراً ، في قصيدة اختار هو عنوانها: (منتقباتٌ في الحديقة)! فكانت هذه القصيدة في الإشادة بهن وإطرائهن!)
© 2024 - موقع الشعر