عظم الله أجرك في الكتب (سارق الكتب) - أحمد علي سليمان

أما أتاك عن المُستهتر الخبرُ؟
وعن جُفاةٍ إليهم يُنسَبُ الأشرُ؟

وعن أقاربَ قد خانوا أمانتهم
لمّا طغى الغدرُ والإيقاعُ والدَبَر؟

وعن أباعدَ في شيءٍ جرى شمتُوا
وأظهروا الكيدَ ، منه القلبُ ينفطر؟

وعن صحاب لنا كنا نوقرُهم
فهم لنا السمعُ والإحساسُ والبَصر

فأصبحوا ولظى الخُذلان يحرقهم
ونارُ خيبتهم في القلب تستعر؟

وعن رفاق لنا في غربةٍ نكِروا
جميلَ رفقتنا ، والنكرُ مُشتهِر؟

وعن دُعاةٍ بهَدْي (المصطفى) ارتزقوا
والأكلُ بالدين كسْرٌ ليس ينجبر؟

وعن محبين أمسى حبُهم حَزناً
ومُوجعاتٍ أتى بهولها الكَدَر؟

وعن معارفَ كنا نستعينُ بهم
إن عَضّنا مَأزقٌ ، أو هالنا الخطر؟

وعن جهابذةٍ في العِلم ما سُبقوا
كنا إلى وُدهم نسعى ونبتدر؟

وعن عباقرةٍ فاقتْ كِتابتُهم
كل الألى كتبوا الآدابَ أو نثروا؟

وعن أفاضلَ كنا نحتفي بهمُ
فإذ بهم لسراب الباطل انحدروا؟

وأصبحوا في الدنا ضنكاً يُهددنا
ونالنا منهمُ البلاءُ والضجر؟

وبددَ الكلُ ما نرجوه من أمل
حتى استحال علينا العِز والظفر

تبلغوا واعتلوا مُتون رفعتهم
بين الورى ، ولنا الوهادُ والحُفر

وحققوا أبعدَ الأحلام تحسبهم
على العِدا في الحروب الوعْرة انتصروا

كانت لهم خطط يُراهنون على
تنفيذها ، وبها على الملا افتخروا

لم يُخطئوا في الذي رامُوه خردلة
والوِردُ كان لهم في الأمر ، والصَدَر

فلم يكن عُجَرٌ يَشُوبُ ما عملوا
ولم يكن في الذي هم نفذوا بُجَر

وقد سَلِمنا مِن العُدوان جندلنا
وقد نجونا من الأعدا بنا مكروا

وما سلمنا مِن الأهلين سربلنا
عداؤهم إذ عتوا ، كأنهم تتر

وجرحُ أهل الفتى عارٌ ومَخبثة
لا يستريحُ لها الأكياسُ والبُدُر

فالأهلُ سِترٌ على سَليلهم وغطا
إمّا اعتراهُ أذىً ، أو عَزتِ السُتُر

شيطنتمُ الشهمَ بالزيوف دون حيا
وفي التجني لكم مواقفٌ أخر

كلٌ يُروّجُ تضليلاً وهذرمة
كما تحيصُ – على نهيقها - الحُمُر

مِن سالف العُمْر ، والأحقادُ تأكلكم
أسَرّ بعضٌ بها ، والبعضُ قد جهروا

أهنتموني بلا جَريرةٍ بَدرتْ
وذِعتُمُ كاذبَ الأخبار تنتشر

كأنما نِسبتي إليكمُ هُزُءٌ
وفي طبائعكم كم بت أفتكر

مَن مِثلكم في الذي تأتون مِن ضَلل؟
أليس فيكم رشيدٌ عنده نظر؟

أيصبحُ النذلُ شهماً في تصوّركم
له المدائحُ رغم الأنف تُدخر؟

مَن لم يجُد بجُنيهٍ بات (حاتمَكم)؟
والمدحُ أمسى عليه اليوم يُقتصَر

أعقّ إبن غدا في البِر مدرسة؟
أما لديكم مِن التدجيل مُزدجر؟

له أطايبُ ما يبتاعُ من أكُل
والشربُ مُرتصدٌ ، والزادُ ، والثمر

أما البقايا ففي الأكياس قد وُضعتْ
للوالدين ، وللضيف الألى حضروا

أو للدواجن فوق السطح قد حُبستْ
وجاءها الخسُ والجَرجيرُ والجَزر

هل البخيلُ اشترى دَوا لوالدةٍ
طمّتْ مَواجعُها ، ومَسّها الضرر؟

هل اشترى إبرة يوماً لوالده
لدفع ضُر أتتْ ببأسه الغِيَر؟

وهل لأختٍ له أعطى هديتهُ؟
متى؟ وأين؟ ودون السائل السِيَر

وُلدتَ يومَ سمتْ بالبُخل شِرذمة
وكل شهم خِلالَ الشح يحتقر

متى اشتريت كتاباً كي تُطالعه
يا أبخل الناس إن قلوا وإن كثُروا؟

حتى ظفِرت بأسفاري ومَكتبتي
وقد تبقى مِن المَراجع العُشُر

وقلتُ: أصبرُ قد تخزى وتُرجعُها
وكم يُحصّلُ عُقبى الصبر مصطبر

لكنْ وجدتُك تستحلّ ما سرقتْ
كفٌ تعدّتْ ، فلا تُبقِي ولا تذر

إلا القليلَ الذي به تُخادعُنا
فهل تظنُ بأن القوم ما شعروا

وإن ما جئته أخزى مؤامرةٍ
فهل شقيقٌ على أخيه يأتمر؟

وغرّك الحِلمُ ساءتْني إطالتُه
فقد زعمتَ بأني لستُ أعتبر

وخِلت نفسَك في حُسنى وفي شرفٍ
فهل ترُوجُ أباطيلُ الألى فشروا؟

أنت البصيرُ بضادٍ أو معارفها
ومنك تبرأ ضادُ العُرْب والفِكَر

هذي الكُذيبة مهما خِلتها رسختْ
تبقى هُراءً ، وإنْ فاهتْ بها زمَر

بل أنت مُرتزقٌ بالضاد ليس سوى
ككل مُحترف مُرادُه الأجُر

لا تلبس الثوبَ لم تملأ غلائله
واحقِنْ غرورَك ، قد يُودي بك الغرر

واكبحْ هوى النفس ، أعلمْها حقيقتها
نارٌ هواها ، ومنك الكبْحُ والشرر

وارجعْ لتاريخك القريب ، واخلُ بهِ
واسأله عن سيّئ الأدوار تُبتكر

خُزعبلاتُك ربُ الناس بيّنها
ولا يُصدّقها إلا الألى هزروا

وذات يوم نأينا عن مَضاربكم
وطالَ بالراحل المُفارق السفر

حتى أتى دَورُ صُعلوكٍ تعقبنا
ومَدّ كفاً مِن التجريح تأتمر

فكان شاهدَ زور في مناظرةٍ
وكان منه الذي ما كنتُ أنتظر

أين الخطاباتُ ، والبريدُ يحملها
فيها الكلامُ به الإطراءُ مُستطر؟

فيها الوعودُ لها أبعادُ زخرفةٍ
فيها العهودُ إلى التطبيق تفتقر

ألم تقلْ قدوتي ، ولستُ أخذله
وإن تجاوزتُ حتماً سوف أعتذر؟

هل الأخوة أن تغتالَ غربتنا؟
إني أسائلُ: ما الأثمانُ؟ ما الأجُر؟

هل الأخوة أن أصْلى دَسائسَكم؟
ماذا تركتَ لمَن خانوا ومَن فجروا؟

هل الأخوة أن تبيعَ عِشرتنا
يا ساقطاً بإزار الخذل تأتزر؟

هل الأخوة أن تنالَ زوج أخ
بالشائعات بها البهتانُ مُستتر؟

وتفتري زوجُك الرعناءُ فِريتها
وأنت تدعَمُها ، ولم يكن حذر

تقول: بالسحر والأوراد قد حملتْ
يا مُفتر رزقها أولادَها قدر

هل الأخوة أن تُثيرَ زوبعة
عني لينهشَ حُسنى سُمعتي الغجر؟

هل الأخوة أن تغتالَ مَكتبتي
وتُشهرُ السيفَ لا حسٌ ولا خبر؟

هذي الأخوة بالوشاية انتحرتْ
وقد تعودُ إذا عادَ الألى انتحروا

لو عاد للضرع يا مُستهتراً حلبٌ
يعودُ ما بيننا يوماً ويزدهر

عارٌ عليك ادّعاءُ العِلم يا جهلاً
للعِلم قطعاً على أصحابه أثر

لا تدع الشيءَ لم تبذلْ شَرافته
مما ادعيت جميعُ الناس تعتبر

يرون كِذبَك لا يَقينَ يُسعفه
يا أكذبَ الناس مَن غابوا ومَن حضروا

ماذا جنت كتبٌ في الدار مُودَعة؟
أمانة نهبُها لا ليس يُغتفر

تُصانُ حتى يعودَ الشهمُ صاحبُها
مهما تعاقبتِ الأعوامُ والعُصُر

تُبدي الفروسية الجوفا على كتب
وفي مواقفِ أهل البأس فالخور

اشْرَقْ بريقك عن عِرضي ومَنقبتي
يا والغاً في الدما ككل مَن غدروا

الزمْ حُدودك ، لا تنكأ جراحتنا
وإن نكأت فما العُقبى؟ وما الوَطر؟

ذي قشة قصَمتْ ظهر البعير ، فلم
يقمْ بُعيدَ الذي أحدثت يا قذر

عني سألت فهل تأسى لمُعضلتي
واللهِ أنت إذا أوذيتُ تبتشر

وإنْ سرورٌ أتاني بتّ مبتئساً
بدمع عين جرى كأنه النهر

لو كنت حقاً أخاً ما عِشت تجرحُني
بلفظ مُفتئتٍ ، كأنه الحَجَر

لقاؤنا عند رب لست تُعجزه
وليس عنه الذي فعلت يستتر

إني رفعتُ له شكوايَ ضارعة
ومنك يوماً مليكُ الناس ينتصر

وسوف أدعو ، وربُ الخلق يسمعُني
أدعو ، وأمْعنُ في الدُعا ، وأصطبر

إن الذي يُرجعُ الحقوقَ أجمعَها
ربٌ قديرٌ شديدُ البأس مقتدر

مناسبة القصيدة

عظم الله أجرك في الكتب! (كثيرة هي الهوايات ، وأكثرُ منها أصحابها. ومن بين الهوايات كانت هواية القراءة والاطلاع. وعجيب أمْرُ راوي هذه القصة ، حيث أخبرني بأنه ظل يجمعُ الكتب على مدى عقدٍ من السنين ، نعم ، عشرة أعوام من البذل والإنفاق حباً في العلم والأدب والثقافة. وكان يعتبر مِلكية الكتاب نصفَ الانتفاع به ، وإن لم يقرأه. وككل مغترب سافر هذا الغريب البائس ، مُخلفاً وراءه متاعاً ينم عن هواياته ، ما بين كتب يقرأها ، وأشرطةٍ يستمعُ إليها ، وعُملاتٍ يجمعُها ، وملابسَ يلبسها ونحوِ ذلك. ولكن الذي كان يهمه أكثر مجموعةَ الكتب التي كانت تشكل مجموعة من المكتبات ، فلقد تنوعتْ بحيث كانت تشمل مختلف الثقافات ، والعلوم والآداب العالمية والإنسانية. والأصل أن كل هذه المقتنيات بما فيها أهمها وهي الكتب والأشرطة ، تعتبرُ أمانة عند من تركها عندهم. فلقد تركها وديعة في بيت عائلة ، ولم يتركها في الشارع لتكون مِلكاً للمارة والسابلة ، كما لم يتركها في الغابة لتكون نهباً للوحش والسباع. وطبيعي أن تكون العائلة بحكم تكوينها أكثرَ محافظة على المُقتنيات من غيرها. على أقل تقدير لتكون ذكرى لصاحبها ، إن كانت العائلة تحبه بأي درجةٍ من درجات الحب. وليس طبيعياً أن يعود الرجل بعد سنين ، ليجد مقتنياته أثراً بعد عين ، وخيالاً بعد حقيقة. ويسألُ الناس فلا يُجاب! والذي حدث للأسف الشديد يَندى له الجبينُ حياءً ، حيث محا أفرادُ هذه العائلة ذكرى ذلك المغترب المخلص الذي لم يتوان في خدمة عائلته ، بل اعتبرَ ذلك واجباً أخلاقياً وإنسانياً وشرعياً ، فلقد أخذ على عاتقه أن يَكسر فقر هذه الأسرة ، ولو على حسابه. فبينما كان هو سبباً مباشراً في سعادة أسرته تلك ، كان أفرادها جميعاً بدون استثناء سبباً مباشراً في شقائه وتعاسته. وإنه لمن بركة العائلة أي عائلة في الأرض ، أن يبقى ذكرُها بالخير والمعروف والبر ، مهما طال بها الزمن ، وتكونَ مثالاً في صيانة الحقوق ، وحِفظ الواجبات ، والمحافظة على القيم والأخلاق. وإنه لمن شُؤم ونحس العائلة ، أي عائلة في الدنيا ، أن يموت ذكرُها الحسنُ وأفرادُها أحياء ، وتكونَ مثالاً في الظلم والغدر ، وأكل الحقوق وتضييع الواجبات. وإذ عاد الرجل من سفره ، لم يجد من مُقتنياته عشرَ مِعشار ما ترك. فسأل جموعَ الحاضرين وطابور الشامتين فقالوا: لا ندري ، ولسانُ بعض المُتندرين السخفاء منهم أن يقول له ، كما كان يقال له وهو طفل يسأل عن ألعابه التي فقدها: أخذتها العصفورة وطارت في أجواز الفضاء ، أو أخذها العفريت الجني وهرب إلى الأرض السفلى. ولم يقر له قرار ، حيث ظل يبحث ويستقصي عن متاعه وأغراضه ، وأهم شيء عنده كتبه ، فلقد كانت أعز وأثمن وأجمل ما يملك. وأخيراً علم الحقيقة من مصدر موثوق ، وهي أن أحد القراصنة من أفراد العائلة غير المباركة ، كان قد جمعها ووضعها في بيته أمام عيون الجميع لماذا؟ أكان يهدف إلى صيانتها والمحافظة عليها ريثما يأتي صاحبها؟ معاذ الله. للأسف لا ، إنما ليُزين بها بيته زاعماً لنفسه أنه من أرباب الفكر والأدب والثقافة ، وهو في الحقيقة عار عن ظل هذه الأشياء فضلاً عن حقيقتها. فتحدث صاحبُ الكتب إلى شقيقين آخرين التمس فيهما رشداً ، ليتحدثا إلى الشقيق الأول سارق الكتب ، فبعد أن أقنعاه برد الحقوق لصاحبها وأقر بذلك ، وتحدد يوم موعود اصطحبوا فيه أبناء عمومة لهم لأخذ الكتب والأغراض ، فحال المطرُ الثجّاجُ دون استلام الكتب. وتُرك الأمر إلى أجل غير مسمى. فصبر صاحب الكتب لعل سارقها يتذكرُ أو يخشى. ولكنه أعرض ونأى بجانبه. وعاد إلى الإنكار. ولكن إنكارُ ماذا؟ وهل يُصدقُ الإنكار؟ وهل يُجدي؟ الكتبُ ليست إبرة في كوم من القش. كما أنها ليست ملعقة ألقيت في البحر المحيط ، حتى نعتقد بأنها اختفت. إلا أن يعود الزمان إلى عهد الطفولة ونقول: أخذتها العصفورة وطارت ، أو أخذها العفريت وهرب ، خاصة إن علمنا أنها في عمومها عبارة عن موسوعات في الأدب العربي ، والأدب الإنجليزي ، والأدب الأمريكي ومراجع تاريخية ، وأخرى جغرافية ، وأخرى معرفية ، وشرعية وشعرية وتراثية. وإذن فتصديقُ اختفائها بون سطو ساطٍ أمر يَصعب تصديقه. إلا أن تكون قد فقدت في مثلث برمودا ، أو في بحر الظلمات ، أو حُبستْ مع المسيح الدجال في جزيرته. فقلتُ لصاحب القصة اليائسة البائسة: أنت اليوم أولى بأن نعزيك في كتبك التي نهبت وسُرقت. فلقد كانت هذه الكتب أصدقاءه على حد تعبيره ، حيث صنع بها ما صنع شوقي بكتبه ، ولكنه لم يخطئ فيقول: (أنا من بدل بالكتْب الصحابا) ، والباء تدخل على المتروك كما تقول اللغة ، ولكنّ لسانَ حاله يقول: (أنا من بدل بالصحاب الكتبا) فقلتُ له: إنك اليوم أولى والله ، بكلمة أم محمد الصغير (الأمير الأندلسي المستهتر) الذي عندما غزا أعداؤه مملكته واستوثق من ضياعها أخذ ينتحب ويبكي ويقول لأمه: الأعداء أخذوا مملكتي يا أماه.
© 2024 - موقع الشعر