الصعايدة وصلوا 1 - أحمد علي سليمان

ألا أكْبروا الأفذاذ أهلَ المحامدِ
فكم أتحفونا بالمعالي الشواردِ

وكم علموا مَن يبتغي العلم صافياً
وكانت لهم في العلم أحلى الروافد

وكم جاهدوا بالعلم كل مثبّط
وينصر ربي كل فذٍ مجاهد

وكم ناضلوا دون اكتراثٍ بمن طغى
ولم يعبأوا يوماً بأعتى المكايد

وكم بيّنوا للجاهلين معالماً
وكم فصّلوا من مُجملات العقائد

وكم شيّدوا للفكر أسمى منارة
وكم نافحوا دهراً بأرجى قصائد

وكم أتحفوا الآداب: كلٌ بحسْبه
وصاغوا بما أوتوا بديع الفرائد

وصانوا الذي صاغوه ، لمّا يُفرطوا
فأنعمْ وأكرمْ بالحُماة الأجاود

فخطوا بهذا موثقَ المجد شامخاً
ومجدُ الفتى - في الناس - خيرُ المقاصد

وباتت لهم في مصرَ أندى مكانةٍ
بما أصّلوا مِن طيّبات القواعد

ففي كل علم أصّلوا ، بل وجَدّدوا
وأفكارُهم مثلُ الأقاح النضائد

وما حادوا عن الحق المبين لشهوةٍ
ولم يُذعنوا يوماً لأوهى المفاسد

أشاوسُ في كل المواقف سادةٌ
وإن أوصلتهم للسُّها والفراقد

غطاريفُ ليس الذل يغشى قراهمُ
ويَلوون - حين البأس - جيدَ الشدائد

وأبطال هيجاءٍ تسامى إباؤهم
وفي سِلمهم رُكبانُ أغلى الجلاعد

كرامٌ إذا حلوا ، وصِيدٌ إذا مضوا
وتحيا بهم دوحُ الرياض الهوامد

كغيثٍ إذا ما أنزلت قطراته
فإن له في الأرض أزكى الفوائد

وصُنّاعُ أفكار لمنفعة الورى
وما ارتقبوا منهم جميلَ العوائد

مغاويرُ لا تلوى عمائمُهم ، لذا
أبَوْا أن يعيشوا بالنفوس السوامد

وكانوا عِصاميين أصحابَ هِمة
لذا بنوْا أمجادهم بالسواعد

إذا اغتربوا كان التصبّر سَمتهم
ويشتاقُ أهلوهم لعَوْد الأباعد

ألا ليت شعري ، والصعيدُ يَشوقُهم
ويهفو إلى لقيا العظام الأماجد

تأملْ تر (الفيوم) تزهو بقومها
(وأسوان) فيها بهيّ المشاهد

(وسوهاج) في شوق تحن لغائب
(وأسيوط) نشوى تستعد لعائد

وفي (الأقصر) الأفراحُ تحلو لزائر
وأما (قنا) – تا الله - زينتْ لقاصد

وفاخرتِ (المنيا) بجيل مثقفٍ
نقيِّ السجايا مستقيم المَحاتد

وفي (النوبة) الشهباء طيفٌ مسامرٌ
يُرَجّع قرآن الهُدى في المساجد

وسائلْ صعيد الخير عن حب أهله
وتعظيم رب خالدِ الذكر واحد

فللعلم والآداب فيهم مكانة
ويَجحد ما قد قدّموا كل حاسد

ولستُ على ربي أزكى عبيده
لقد ذل من زكّى ذوات الأعابد

ولكنه دَيْنٌ على أداؤه
وإيرادُ أهل الحق أسمى الموارد

وفي منفلوط اسأل عن الشهم مصطفي
ومَن كان في دنياه أفضلَ زاهد

روائعهُ في مجدها قد تشامخت
فأكرمْ بثبت للحقائق راصد

(وعبد الباسط) الشادي بقرآن ربنا
بصوتٍ بأنغام التراتيل صاعد

تناءت عن الدنيا لحونٌ وقارئٌ
وفزنا بصوتٍ بالترانيم خالد

وسائلْ (طحا) عن جهبذٍ متفقهٍ
(أبو جعفر) شيخ التقاة الأماجد

أولئك أبناءُ الصعيد نوابغٌ
فما بين أستاذٍ يربي وعابد

وما بين عملاق يجود وعالم
وما بين مفضال يسود وماجد

وما بين قصّاص أديب وشاعر
وما بين مقدام بيوم التجالد

وما بين فذٍ ناصح ومؤرخ
وقارئ قرآن زكيّ المحامد

أولئك قومي ، مَن يباري سُموهم؟
ولمّا تجُدْ بالشم أيّ الولائد

وإني وإن قد كنتُ فارقتُ دارهم
فكم من ودادٍ للمحبين وارد

أحنّ إلى أهلي ودارٍ حُرمتُها
ولا ذنب لي إلا تحدّي الأوابد

ولي في الصعيد الحُر قومٌ وعِترة
تعذبني – فيهم - جراحاتُ واجد

ينالُ من الأشراف وغدٌ مُنكّتا
فقبّحَ مِن نذل مُضل وفاسد

أيُضحكُ - بالبهتان - قوماً تخبطوا
فلم يعرفوا للحق بعضَ المراشد؟

نكاتٌ وألغازٌ تغذي تخرصاً
يُروّجها - في الناس - أهلُ المفاسد

وأحرى بهم أن لو عن اللغو أعرضوا
فإن احتراف اللغو شر الحصائد

تمرسْتُ في أهل الخرافة والهوى
فألفيتهم يُذرّون سُم الأساود

فطوْراً يُعاني مِن هواهم موحّدٌ
فيشقى ويُجزى كأس سم وصارد

وطوراً يُقاسي الصِّيد بلوى هُرائهم
ويُخجلهم خِزيُ النكاتِ البوائد

فناسٌ على الإفلاس عاشوا حياتهم
فما عصمَ الحمقى نقيّ الموارد

وناسٌ طغت روحُ التجنى عليهمُ
فباؤوا من البلوى بسُوء المقاصد

وناسٌ أقروا الهزل والقبح جملة
فيا رب سلمْ من نوايا الحواسد

وناسٌ على هذا (الصعيد) كواسرٌ
ينالونه مثل البغاة الرواصد

وقد علموا أن الصعيد مبرّأ
وأن له - في السبق - حسنَ العوائد

ديارٌ شدتْ بالمجد في جنباتها
كشمس تبدت في السعود الفرائد

وأمجاده بالأمس واليوم كالسنا
وأخباره كم من طريفٍ وتالد

ديارٌ حوتْ من كل شهم وفاضل
لهم في لقاء القوم صدرُ المحاشد

إذا حضروا سادوا المجالس سادة
وكلٌّ لبذل الخير أشجعُ عاضد

وإن فارقوا كان الفراقُ كرامة
لأفذاذِ قوم كالرواسي الرواكد

وهذا هو التاريخ ينطق بالذي
أسطره بالشعر في جوف كاغد

وليس كلامي من خيال مزخرفٍ
ولستُ أنا - في الشعر - أول وارد

حقائقُ مثلُ الشمس في الناس أصّلتْ
ولكنْ لأهل الزيغ بعضُ المصايد

وسائلْ عن الأبطال قومي تراجماً
تجدْهم كِراماً دون أدنى الندائد

وأهلُ الهُدى منهم كِرامٌ أعزةٌ
صناديدُ هيجاءٍ ، وأهلُ شدائد

رجالٌ ، وأبناءُ الرجال حقيقة
وليسوا إذا حق اللقا كالنواهد

وحدّث عن الغادات في كل بقعة
ربيبات علم ، والكتابات شاهدي

ذوات حجاب ، فالعِباءات أسْدلتْ
وإن كن فقن اليوم سن القواعد

ويقرأن قرآن المليك تعبداً
وهن إذا دققت خيرُ العوابد

وبعدُ يُربين الصغار على الهُدى
وربي لهن اليومَ خيرُ الولائد

تجاوزن ما في ذي التقاليد من عمى
وآمنّ بالله العظيم الماجد

تعلمن قال الله قال رسوله
ولم تعص إحداهن أمراً لوالد

سوى أن يكون الأمر في غير طاعةٍ
وذي سنة المعصوم طاعة واحد

فتعصي جميع الناس مهما تعصبوا
وفيُ سنة العدنان بعضُ الشواهد

لكُنّ تحياتي بناتِ (صعيدنا)
من الأخوات المؤمنات الرواشد

ألا فليكُف المغرضون عن الهوى
وكلٌّ فمأخوذٌ بأخزى الحصائد

فدققْ وحققْ يا جهولُ عن الألى
لهم في جميع الناس أسمى المحامد

ولا تغمر الألغاز زيفاً مزركشاً
وزايل دعاة الشر أهل المفاسد

ألا إنهم دكّوا الحقيقة بالهوى
ولم يعدلوا في القول عدل المُحايد

فألغازهم هذي ذخيرة مَن غوى
فقد وفرتْ للعِير أنكى الموارد

تجاوز أهلُ البغي عُرفاً وشِرعة
وطالوا قرانا بالشقا والمكايد

ونالوا من الأبطال أهل صعيدنا
فبتنا نعاني بين وغدٍ وحاسد

فلم يَقدُروا حق المغاوير أهلنا
وعاثوا فساداً كالهجان الحرافد

وكان الصعيد العف أندى ضحيةٍ
لكل رقيع للمعايير فاقد

وما من صعيديٍّ يحب الذي أتوْا
أيعجب فذ بالنكات الجلامد؟

وأعلنُ مِن صُنع الغثاء براءتي
وأوقدُ بالأشعار أعتى مواقدي

وأصلِي الألى قد عربدوا مُرّ غضبتي
ولستُ أراني ناكصاً بمواعدي

وأهدي قريضي بالجمال مُضمّخاً
سبائكَ أحلى مِن نفيس القلائد

ومَن بالقريض العذب أولى مِن الألى
صلابتهم - في الحق - مثلُ الخوالد؟

ونحنُ (صعيديون) ، نزهو بديننا
سَموْنا به فوق الأذى والحقائد

لقد صاغنا الإسلام أحلى صياغةٍ
فأعرافنا قد زُيّنتْ بالمحامد

وإنا قد برئنا من تقاليدَ أزهقتْ
نفوساً طوتها رمحُ (ثأر) وصائد

وليس لنا في الفن باعٌ ، ولا الخنا
وأعيانُنا ما بين تال وساجد

تبيتُ على دين المليك قبائلٌ
وأخرى تلاحي كل باغ وجاحد

على العهد ما عشنا نباهي بشرعنا
ونلقم صخراً كل عادٍ وحاقد

نموت لتحيا دارنا في سلامةٍ
على دين رب الناس مولى الأماجد

لأنا (صعيديون) أسلم شعبنا
فيا رب ألهمنا نقيّ العقائد

ومن عابنا يا رب فاكسر غروره
وأنزل به أعتى البلا والشدائد

ومن نال منا فاجعل النذل عِبرة
عليك بشر الناس أهل المفاسد

مناسبة القصيدة

الصعايدة وصلوا! 1 (ديوان القوقعة الدامية) (كلمة (الصعايدة) تعتبر جمعاً عامياً دارجاً مصطباوياً يجري على ألسنة الناس ، والأصل أن كلمة صعيدي مفردة تجمع على (صعيديون) مثل كلمة (عميدي) التي تجمع على (عميديون). ولكنني تعمدت أن أجعل عنوان قصيدتي بهذا الجمع العامي ، لأثبت لصاحبه الهازل أن أهل الصعيد قد وصلوا منذ زمن بعيد للقمة في العلم وللذروة في الأدب وللذؤابة في كل خلق كريم. (أعني الغالب الأعم من أهل الصعيد). إنني لم أكتب: (الصعايدة وصلوا) من باب السخرية من أهل الصعيد الكرام الذين أنا ابن من أبنائهم فقط ، أكِنّ لهم كل الاحترام والاعتزاز والتقدير. بل أكتب (الصعايدة وصلوا) لتكون شاهداً على هذا العصر الذي نعيش فيه. ولأفهم من يتطاولون على أهل الصعيد الشم المغاوير الصِّيد الأشاوس أن من يتطاول على مثل هؤلاء ليس له عندي إلا هذه القصيدة النجلاء الشافية الكافية التي لا أعلم لها في ظني واعتقادي واجتهادي نظيراً في الانتصار لقوم قد افتُرى عليهم ، وظلموا ظلماً كبيراً. إن الصعيد أرض كريمة مشرفة قد أنجبت المغاوير ولا يشك منصف محايد في هذا الكلام. وقد رجعتُ إلى التاريخ في أكثر من مرجع وبحث في القديم والحديث فألفيتُ أهلي أهل الصعيد أهل كرم وعلم ونجابة وعراقة وأدب. وقد أسهموا بكل ما آتاهم الله من علم وأدب وثقافة وأخلاق وقدرات ومواهب في هذه الحضارة الإنسانية التي يرفل الناس فيها.)
© 2024 - موقع الشعر