أصابك عشق أم رميت بأسهم! (محاكاة ليزيد) - أحمد علي سليمان

أصابك سَهمٌ يا جَريحَ التتيُمِ
فأصبحت تشكو مِن عذاباتِ مُغرم؟

وأودى بك العشقُ الذي ما قصدْتهُ
ولمّا تُحاذرْ في الهوى أي مَندم

أخِذت بأقوال دَهتْك حروفُها
فهل كان أنسُ الأذْن تعجيلَ مَغنم؟

وكيف يُثِيرُ النفسَ ترجيعُ أحرُفٍ
فتُفتنُ – بالترجيع – رغم تغمْغم؟

وهِمت تُمَني النفسَ حُباً ، وتشتهي
برغم حِوار هامس ومُهينم

وصارعت وُداً دَثرَ القلبُ بعضَهُ
وجاوزت – بالإشهار – حَدّ التكتم

شغفت بها ، ثم اصطليت بوصلها
وأمسى وصالُ الستِ أعتى التأثم

فهل أنت صَبٌ يَفتنُ الحُب قلبَه
فإن صُدّ أبدى غضبة المتجهم؟

أتخترعُ الأعذار تُزري بفاضل؟
فجئني بعُذر مُستبين وقيّم

فما استويا اللفظان: خافٍ وواضحٌ
وهل يتساوى يَعرُبي بأعجمي؟

أيخدعُني يا خلُ تبريرُ عاشق؟
أتودي بلوْمي مُسكة المُتبرم؟

إذا قلتَ: أغراني تبرجُها الذي
يُسَلي فؤادَ المُستهام المُتيّم

لقلتُ: كفى زوراً وإفكاً ومُنكراً
فذي حُسنُها بالصَون والستر يستمي

وإن قلت: صادتْني ترانيمُ صَوتها
فشنفتُ سَمعي مُنصتاً للترنم

لقلتُ: الذي تحكيهِ مِن أشنع الفِرى
فما في حوار الهمس أدنى تنغم

وإن قلت: أغرتْني بِطلّة وجهها
فليس لهذا الوجه في الغيد من سَمي

ففي الوجه كلُ الحُسن والزين والحَلا
ويُدركُ ما أرويه أهلُ التفهم

لقلتُ: لقد أخفى النقابُ جمالهُ
تساوى الذي أبصرَ الوجهَ بالعمي

وإن قلت: كفاها نظرتُ إليهما
وقد زيّنا – للناظرين - بعَندم

لقلتُ: هو القفاز لم يُبدِ منهما
بُعَيضاً ولا كلاً ، ولا أيَ مَعْلم

أطالتْهما حتى تُواريَ ما بدا
ومُدا لرُسْغيها مُروراً بمِعصم

وإن قلت: خلخالُ الصبيّة ساقني
أسيراً لرناتٍ كمثل التحمحُم

لقلتُ: حِذاءُ الست ما طق طقة
لماذا يشوبُ القولَ بعضُ التبرم؟

وإن قلت: للمكياج سَيفٌ وحَربة
تُجندلُ مهما صدّها كل ضيغم

لقلتُ: نأى المكياجُ عنها فلم تزلْ
بوجهٍ عن المكياج في الدرب مُحجم

وإن قلت: عيناها نظرتُ إليهما
فهل زينتا – مثلَ السماء - بأنجم

وقد نال مني جاذبُ السحر ، فاكتوى
صوابي ، وتقديري دهى خاطري الظمي

لقلتُ: لماذا لم تغضّ تعبُداً؟
أما في كتاب الله أمْرٌ لمُسلم؟

أكلمتها والعينُ في العين جهرة
وزدت كلام العين بعضَ التبسّم؟

وإن قلت: شدّتْني إليها عطورُها
صُرعتُ يقيناً بالشذى المُتبغم

لقلت: وهل كنت الوحيد تشمّهُ؟
وهل يا تُرى هذا الشذى عِطرُ مَنشم؟

وما وَضَعتْ عطراً لتلفت أعيُناً
ستُصلى بوضع العطر نارَ جهنم

وتُحْرَم بالتعطير جناتِ ربها
وعند البُخاريّ الحديثُ ، ومُسلم

وإن قلت: أغوتْني ثيابٌ مُخِلة
تُخالفُ عن شرع قويم ومُحْكم

وتلفظها دارٌ وأهلٌ وعادة
وتٌزري ببَكْر ، والظفيرِ ، وخُثْعم

لقلتُ: وهل جلبابُها يُظهرُ الحَلا؟
فحققْ ، ودَققْ ، ثم بعدُ تكلم

تورّعْ عن العشق الحرام ، فإنه
يُصيبُك – يا مسكينُ – منهُ بأسهُم

وقاومْ طيوفَ العِشق أضناك وَخزُها
وعن كل ما يُزْكِي سعيرَ الهوى صُم

أأعطيتها حتى تُذل كِيانها؟
فأبئسْ بعادٍ – في العطية – مُجرم

أأعطيتها حتى تفوز بعشقها؟
فهل طيّبٌ يُعطِي ليَحظى بمَزعم؟

ألا إنه دَيْنٌ ، ومِن أهلك الوفا
فهل عودة عجلى لدرب مُقوّم؟

وهل تستحلّ الحُسْن راعيه قد غفا؟
ألا إن هذا الحُسنَ بالله يحتمي

وهل تستغلّ الست جاءت لحاجةٍ؟
حنانيك كن ردءاً لحَيرى ومُعدَم

وكيف تُحِب الحُرمة اعتلّ زوجُها؟
وهل عاقلٌ في عشق هاتيك يرتمي؟

وهل مُوجعاتُ الزوج تعني وفاته؟
فأحسنْ وأجملْ ثم زدْ في التكرم

وهل بات إحساناً له عِشقُ زوجه؟
تريثْ وفكّرْ تَحي شهماً وتغنم

ألا فاردع النفسَ اللجوجَ ، ودَاوها
فإن الذي جاسَتْه دربَ التندم

ترفعْ بهذي النفس عن وَهدة الخنا
أطعني ، وجنبها سبيلَ التأثم

ألا واقبل الإرشادَ بالحِلم راضياً
وحِلمُ الفتى يعتادُهُ بالتحلم

أتجعلُ سلطاناً عليك مِن الألى
وربّك هم أشقى عِداةٍ ولوّم؟

وماذا يقولُ الناسُ عنك ألا انتبه
لئلا تقلها: لات ساعة مندم

ألا إنه عارٌ عليك اجتنابُه
ويُفضي إلى درب عسير ومُظلم

نصحتُك أقصِرْ ، إنما الغيّ مُهلكٌ
ويَخسرُ هيمانٌ بسهم الهوى رُمي

ألا إنها اختارتْك شهماً يُعينها
وهذا اختيارٌ ليس قط بمُبهم

رأتْ فيك إنساناً عفيفاً مُكَرّماً
فهل تُصْبحنْ يا صاح غيرَ مُكَرّم؟

رأتْ فيك غِطريفاً يُقِيلُ عَثارَها
ويُخمدُ نارَ العيش إذ وَهْجُها حمي

وظنتْك شهماً لا تُشينك ريبة
وتحيا عزيز النفس غيرَ مُذمم

وخالتْك لا تحتالُ في حَبْكِ كِلمةٍ
وماذا يُرَجّى مِن عزيفٍ مُنمنم؟

وأدليت دَلواً لانتشال همومها
بهمة مِغوار وبأس مُصمم

فكيف تُضحّي بالمناقب أهديتْ
وكفك جادت للضحايا ببلسم؟

وكيف تُجيز الأمرَ ما جاز حِله؟
وهل هذه فتوى خبير مُعَلم؟

وهل ترتضي عِشقاً لزوجك مثلما
فعلت ، ولو للدار والأهل ينتمي؟

يَهيم بها في كل وادٍ وضيعة
ويكتب فيها شعرَ صب ومُلهم

ويجعلُ منها مُثلة لانحطاطه
ككل سفيهٍ – في المخاليق - أيهم

ويُهدِرُ عن عمدٍ دِماها رخيصة
فيا ضيعة الأخلاق والعِرض والدم

فهل أضحيت مِن أهل التغرّب والخنا
ف (للبوي فرند) الحقُ ، ليس بمُجرم

يُحب كما يهوى ، ويأتي الذي اشتهى
فللخِبّ بنتُ الناس أمستْ كسُوّم

وهل ترتضي زوجاً تُحب عشيقها؟
فجُدْ بجواب مِن سنا الحق مُفحم

بأنك لا ترضى ، وهذي حقيقة
يُخالفها مَن عاش غيرَ معظم

يميناً عهدتُ الخِلَ في البأس صامداً
لماذا أراه اليوم كالمتوهم؟

لماذا تمادى في الخطايا بنظرةٍ
وليس على فعل الخطايا بمُرغم

ألا إنها سهمٌ إليهِ مُصَوّبٌ
أخارتْ قوى خِلي بسهم مسمم؟

بقية رُشْدٍ تُرجعُ الخِل سالماً
ومَن يتْبعْ القرآنَ يرشدْ ويسلم

فزايلْ ضلالاً أوردَ النفسَ حتفها
بإتيان أمر – في هُدانا مُحَرّم

ونفسَك علمها التقى تغدُ عَفة
وتعليمُها هذا التقى بالتعلم

وأختُك هذي أوجبَ الله حبها
وذي نعمة مِن واسع الفضل مُنعم

وأعني بهذا الحب حبَ أولي النهى
مِن المؤمنين الشمّ أهل التكرّم

نحب أولي الإيمان نرجو بحبهم
رضا ربنا الرحمن أطيبَ مَغنم

فهل حُبها يعني اشتهاءَ جمالها؟
ألا إن هذا الحبَ أحقرُ مَأثم

تصدقت ، والأجرُ الجزيلُ تناله
فكان بداعي الحب أخيرُ درهم

فهل طعمة الوَجْعى مُقابلَ عشقها؟
فتعساً لما تحسو ، وتعساً لمَطعم

فسددْ وقاربْ ، لا تُضيّعْ مَثوبة
فتضييعُ ما أنفقته جَدّ مُؤلم

وسامحْ صديقاً قدّمَ اليومَ نصحَه
بنص صريح ليس يبدو كطلسم

أراك أخي طبعاً ، وهذي أخيتي
وأفديكما بالنفس والروح والدم

أغارُ عليها مِن توله عاشق
وأشفقُ من عشق تراءى كمأزم

وترجمتُ إحساسي وغيرة شاعر
قصيداً جرى لحناً حزيناً على فمي

وحاكيتُ ما قال (اليزيدُ) تكلفاً
ووصّفتُ صَباً قد أصيبَ بأسهم

فأمسى يُعاني مُوجعاتِ غرامهِ
ويشكو عذاب الحب أودى بمُغرم

وناصحتُ لم أبخل بنصحي لعاشق
ولم أدخرْ وعظي ، ولم أخْفِ بلسمي

وإن كنتُ حاكيتُ (اليزيدَ) فليس لي
مُساواتُهُ ، فالفضلُ للمتقدم

وأجري على ربي ، وربي موفقي
وإني بعون الله أرقى وأستمي

مناسبة القصيدة

أصابَكَ عشقٌ (محاكاة ليزيد بن معاوية) (بينما كنتُ أسيرُ وأحدُ أصحابي في طريق عام ، استوقفتْ إحدى النساء صاحبي ، وكانت حشيمة لا يُرى منها إلا عيناها! وعجبتُ من جُرأتها في التحدث إلى صاحبي ، فظننتها تعرفه ويعرفها ، وقلتُ في نفسي لعلها إحدى القريبات أو الجارات ، وعندها مشكلة تلتمس حلها عنده! وبعد حوار هامس معها لم يستغرق الدقائق الثلاث ، أخرج صاحبي مبلغاً من المال هو نصفُ ما معه من الدراهم وأعطاه إياها! فدعتْ له بخير ثم انصرفت عنه! فسألتُه بفضول: من هذه المرأة؟ وما قصتها؟ فقال صاحبي: امرأة غريبة شكتْ إليّ حاجة وعوزاً وعِيالاً وزوجاً مريضاً ، فأخذتني رقة ذلك فأغدقتُ عليها من مال الله الذي آتاني حِسبة لله – عز جل -! وإلى هنا فأنا أرى بأن الأمر طبيعي ، ويُمكن أن يحدث معي ومع غيري! ولكن حال صاحبي لم يستقم بعد موقفه هذا! حيث رأيتُه شارداً أغلب الوقت يُفكر فيها! فقلتُ له كما قال معلم يزيد بن معاوية لمّا رأى خادمة الأول (حُبابة) فسقط الإبريق من يده في الطست ، فقال المعلم له: (أصابك عشقٌ أم رُميت بأسهم) وردّ عليه يزيد بقصيدة حوالي ثمانية وعشرين بيتاً من البحر الطويل! صاغ زيد قصيدته وهو ابن أحد عشر عاماً ، وكانت هذه أول قصيدةٍ كتبها يزيد! ولأن قصيدتي محاكاة لقصيدة يزيد ، رحتُ أنكر على صاحبي كل هذا الاهتمام الزائد عن الحد! ذلك الاهتمام الذي ليس في محله مطلقاً؟! حيث إنها امرأة متزوجة ، فهي في عصمة رجل مريض بعلةٍ أقعدته في الفراش! ومرضه لا يعني وفاته ولا عشق زوجته؟ فتلك دناوة وخِسة يأباها الطبع القويم فضلاً عن الدين المستقيم! فكيف يعشق امرأة في عِصمة رجل؟! وأي امرأة؟ إنها امرأة حشيمة بعباءةٍ فضفاضةٍ سميكةٍ لا تشف ، وخشنة لا تصف ، سوداء سواد الليل البهيم ، ونقاب سميك وسيع يُخفي معالم وجهها ، وقفازين يُخفيان تقاسيم ولون كفيها ورسغيها ومعصمها وأصابعها ، وحذاء أسود ملتصق بالأرض! عجيبٌ هذا العشقُ ، وأعجب منه ذلك العاشق! فأنشدتُ أنصحُ له وأحثه على الاستقامة! فطفقتُ أقول له مبكتاً وعاتبا: إن هذا لا يجوز في ديننا! وأنا إذ أحاكي فأحاكي الأصل أي أحاكي نص يزيد بن معاوية لا نص قيس بن الملوّح! ذلك أن نص قيس هو في ذاته ضربٌ من المحاكاة والمساجلة والمعارضة! وذلك أقوله على الراجح من أقوال النقاد المنصفين! وما كانت هذه القصيدة التي زادت على التسعين بيتاً على البحر الطويل إلا حباً في يزيد بن معاوية بن أبي سُفيان الملك البجيل والشاعر الأصيل – رحمه الله تعالى ، وغفر له ذنوبه وخطاياه ، وتجاوز عن سيئاته بما جاهد في سبيله ، ورضي الله تعالى عن أبيه معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي والتنزيل والصحابي المخلص الكميل ، ورضي الله تعالى عن جدّه أبي سفيان بن حرب الصحابي الجليل والمسلم النبيل - ، وكذلك كانت هذه المحاكاة الشعرية حُباً في نص يزيد بن معاوية ، ذلك النص الجميل الذي هو من عيون شعر العرب بشهادة النقاد في القديم والحديث! وإن احتوى عيوباً فنية وأخرى شرعية ، ولكنه صاغه وهو ابن الأحد عشر ربيعاً! وهذا كافٍ لالتماس العذر له!)
© 2024 - موقع الشعر